الحسين لعنايت: في العلمانية الأمريكية…

الحسين لعنايت: في العلمانية الأمريكية…

في العلمانية الأمريكية…

  • الحسين لعنايت            laanait الحسين لعنايت: في العلمانية الأمريكية...

في بداية القرن 17، توافدت على القارة الأمريكية، خاصة في شطرها الشمالي الذي تحتله بريطانيا، العديد من الفرق الدينية، خاصة البروتيستانت، المضطهدة بأوروبا وقد ساعد على ذلك كون الكنيسة الانجليزية استقلت عن البابوية الكاتوليكية منذ النصف الأول من القرن 16.

عملت هذه الفرق الدينية البروتيستانت على نشر أفكارها وظهرت العديد من الكنائس المختلفة… والى حدود اليوم عادة ما نعثر على كنيستين متقاربتين في المكان تمارس فيها طقوس دينية مسيحية مختلفة عن بعضها البعض…

ساهمت هذه الفرق الدينية في بناء العديد من أشهر واعرق الجامعات الأمريكية ومنها هارفارد وبرينستون وبيركلي ومردّ ذلك كون الفلسفة التي سيطرت على بريطانيا منذ القرن 14 كانت تعتمد على المنهج التجريبي “الحصول على الحقيقة من خلال التجربة” الذي ادخله الفيلسوف روجي بيكون إلى بريطانيا على لمنهج الفلسفي الإنجليزي اعتمادا على منهج ابن الهيثم (تحدثنا في هذا الموضوع في تدوينة سابقة عندما تعلق الأمر بتأصيل الأسس الثلاث للماركسية ومنها الأساس المتعلق ب “الاقتصاد الإنجليزي”)…

في نهاية القرن 18 لما تعلق الأمر بتوحيد “الشعب الأمريكي” (الذي يستثنى منه السكان الأصليون والسود) لمواجهة التواجد البريطاني، بادر ثلة من السياسيين الأمريكيين وعلى رأسهم توماس جيفرسون، الذي صاع الدستور الأمريكي، إلى توحيد الولايات، هذا ما تطلب تجاوز الحدود التي بنتها التباينات الدينية… وكان الشعار هو “من كثيرين نصنع واحدا”…

ففي سنة 1779 (عشر سنوات قبل الثورة الفرنسية) صاغ جيفيرسون دستور ولاية فيرجينيا ونص فيه على “الحريات الدينية” وعلى “علمانية الجمهورية الجديدة”….

سنة 1776 أعلت الولايات المتحدة الأمريكية استقلالها عن العرش البريطاني ووضعت لها دستورا أخد عن دستور جمهورية فيرجينيا لجيفرسون كل البنود المتعلقة بالحرية الدينية والعلمانية وبدأ تطبيقه في 4 مارس من سنة 1789….

بعد 5 أشهر، وفي 26 غشت 1789 أعلنت الثورة الفرنسية عن إعلان “حقوق الإنسان والمواطن” التي أخذت عن الدستور الأمريكي…

هذه العلمانية الأمريكية تبدو طبيعية نظرا لتعدد الفرق الدينية… هذا ما جعل مناهج التعليم العمومية إلى حدود اليوم تخلو من الحصص الدينية، وتركز هذه المناهج من الابتدائي إلى نهاية الإعدادي وبحصص متساوية (ساعة في اليوم لكل درس) وبمعاملات متساوية على (اللغة الإنجليزية، الرياضيات، العلوم(خاصة البيولوجيا والكيمياء)، التاريخ (الحضارات القديمة، العصر الوسيط، العهد المعاصر)، التربية البدنية، الفنون والموسيقى) وكل تلميذ لابد وان يتعاطى للرياضة أو الموسيقى، هكذا أصبحت كل المدارس والثانويات والجامعات تتوفر على فرق متعددة مختصة في أنواع الموسيقى وأنواع الرياضات. كما تتوفر البنيات الرياضية والفنية وتبقى دائما مملوءة عن أخرها بالشباب المتعلم الذي لا يعرف معنى التجوال-بدون هدف في الأزقة والشوارع….

في بداية القرن 19 بدأ الايرلنديون الكاتوليك يتوافدون بكثرة على أمريكا الشمالية ما جعل الحكومة الفيدرالية تتخوف من تدخل الفاتكان في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة… على هذا الأساس تطور قانون “الحرية الدينية” بوضع هذه الحرية تحت سيادة الدولة الفيدرالية وتجريم الولاء الديني للخارج… هذا بخلاف فرنسا التي علمانيتها وإن كانت تنص هي بدورها عن “الحرية الدينية” فهي قد جعلت الدولة متنصلة من مراقبة الدين، لكون الكنائس مرتبطة تاريخيا بسلطة الفاتكان هذا ما ساهم في تطور مفاهيم للدين تتناقض أو تناهض الأسس التي بنيت عليها “الجمهورية العلمانية”. فالعلمانية “الأمريكية” تعتمد من جهة على ضمان الدولة لحرية المعتقد وممارسة الطقوس الدينية لكن في الوقت نفسه تلتزم الفرق الدينية باحترام الأسس التي بنيت عليها الدولة الفيدرالية وتعلن عن عدم ولائها لفرق دينية خارج حدود الدولة، انطلاقا من هذا الاعتبار فشكل اللباس وبناء المحلات الدينية لا يطرح مشكلا في الولايات المتحدة مقارنة مع فرنسا التي بنيت علمانيتها على تنصل الدولة من مراقبة الشأن الديني اعتمادا على مقولة “فصل الدين عن الدولة” كأن الدين في أصله لا يهدف إلى بناء “دولة الأمر الإلاهي”.