الاتحاد العام التونسي للشغل يحيي ذكرى الثورة التونسية

الاتحاد العام التونسي للشغل يحيي ذكرى الثورة التونسية

كلمة الأخ نورالدين الطبوبي
الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل
بمناسبة الذكرى التاسعة للثورة
بطحاء محمد علي، الثلاثاء 14 جانفي 2020

الأخوات والإخوة، مناضلات ومناضلو الاتحاد العام التونسي للشغل،
أصدقاء الاتحاد أنصار الحريّة والتقدّم والديمقراطيّة،
مرحبا بكم من جديد في بطحاء محمد علي الحامي خالدة الذكر.

شكرا لكم على تَلبِية الدعوة والحضور في الموعد لمشاركة بنات وأبناء شعب تونس الأَبِيّ إحياء الذكرى التاسعة لانتصار الثورة التونسية. ثورةٌ انطلقت شَرارتها الأولى يوم 17 ديسمبر 2010 بمدينة سيدي بوزيد، لمّا أَقْدَمَ الشهيد محمد البوعزيزي على إضرام النار في جسده دفاعا عن كرامته المَهدُورة وحقِّه في الشغل وفي الحياة اللاّئقة فمثّل بذلك غضبة جيل كامل من شباب تونس المهمّش والمعطّل، تلته قافلة من الشهداء سقطوا رميًا بالرصاص دفاعًا عن الكرامة والحرية، فتحيّةُ إكبارٍ لجرحى الثورة، ووقفة إجلال لشهدائها ولكل شهداء الوطن، وَلْنَقِفْ في خُشوعٍ وإجلالٍ دقيقةَ صمتٍ ترحُّمًا على أرواحهم الطاهرة واحتراما وتقديرا لجرحى الثورة.

لقد كانت شرارة يعود لنا، كاتحاد عام تونسي للشغل، شرف تحويلها، بمعيَّة قوى تقدّمية من نشطاء المجتمع المدني ومن بعض التيارات السياسية الديمقراطية والاجتماعية ومن المنتفضين من الشباب والفئات المهمّشة، إلى كُرة نار سرعان ما عَمّت كلّ البلاد لتُحوّلها من تحرّكات احتجاجية إلى ثورة عارِمة أَنْهَت في مثل هذا اليوم من سنة 2011 رمز السلطة ونظامه الاستبدادي الفاسد.

الأخوات والإخوة،
بعض الأصوات النشاز تَدَّعي اليوم ملكيّة الثورة وأحقية التكلّم باسمِها، ولا صلة لها بها وتتجرّأ بكل صَفَاقَةٍ على اتّهام وحشر اتحاد الشغل، اتحاد حشّاد، ضمن قوى الثورة المضادة. واليقين اليقين، ونقولها بكلّ ثقة، إنه لوْلا الاتحاد العام التونسي للشغل، اتحاد حشّاد، لَمَا نجحت ثورة 17 ديسمبر 14 جانفي وَلَمَا رَحَلَ رمز النظام الاستبدادي السابق.
نَقولها بصوت عالٍ وبكلّ اعتزازٍ إنّ الاتحاد هو حاضِنُ الثورة وهو مؤطِّرُها الأساسي، والدافع لها، أَحَبّ من أَحَبَّ وَكَرِهَ من كَرِهَ. والاتحاد العام التونسي للشغل، خيمة التونسيين، هو الطّرف الرئيسي الذي كان له الدور الحاسم في الاجهاز على النظام بِسِلْسِلَةِ الإضرابات القطاعيّة والجهويّة التي شَنَّها تباعًا.

يَكفي أن نُذَكِّرَ بالتحرّكات الاحتجاجية الأولى التي احتضنتها دُوْرُ الاتحادات الجهويّة والمحلية، خاصّة في كلّ من سيدي بوزيد والقصرين، والتي كانت مُنطلقًا للتحرّكات، وَمَلاذا لجميع المُنتفضين المدافعين عن حَقِّهم في الشغل وفي الكرامة وفي العدالة الاجتماعية.

يَكفي أن نذكّر ببيان الهيئة الإدارية الوطنية بتاريخ 11 جانفي 2011 الذي أقرّ حقّ الهياكل النقابية الجهوية الدخول في تحرّكات نضالية دعما للجهات المحاصرة وتضامنا معها وهي التحرّكات التي كان الإضراب الجهوي الذي نظّمه الاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس يوم 12 جانفي 2011 مُنْعَطَفَهَا الحاسم لتنتهيَ إلى الضربة القاسمة بالإضراب العام الذي نظّمته الاتحادات الجهوية بتونس الكبرى يوم 14 جانفي من نفس السنة..اضراب تحوّل إلى مسيرة ضخمة انطلقت من بطحاء محمّد علي تتقدمهم القيادات النقابية نحو شارع الحبيب بورقيبة لتلتحق بها جموع المتظاهرين من الشباب ونشطاء المجتمع المدني وبعض الشخصيات السياسية التقدّمية في اعتصام مشهود أمام مقرّ وزارة الداخلية مردّدة بصوت واحد في وجه رمز السلطة dégage “ارحل”، شعار تناقلتهُ وسائل الإعلام العالمية ليشعل فتيل الثورة في أكثر من بلد عربي.

يَكفي التذكير بأنّ هياكل الاتحاد كانت السَّباقة لتَبَنِّي تلك التحرّكات وَمَنْحِهَا زَخَمًا عظيما مَثَّلَ تَحَوُّلاً نوعيّا ارتقى بها من تحركات احتجاجية شبابية إلى لحظة حاسمة انهت النظام السابق وفتحت صفحة جديدة من تاريخ تونس الحديث.
إنّ وقائع التاريخ دامغة ثابتة لا لُبْسَ فيها، إنّها الوقائع التي تُسَفِّهُ خَوَرَ وَبُطْلاَنَ ادّعاءات النَّاعقِين مِمَّن كانوا مُلازمين جُحورَهم مُترصّدين لركوب الأحداث وصاروا الآن يتطاولون على الحقائق التاريخية وعلى دَوْرِ الاتحاد العام التونسي للشغل وعلى مناضلاته ومناضليه البواسل.

إنّي أُعِيدُهَا بالصّوت العالي: لَوْلاَ الاتحاد العام التونسي للشغل لَمَا انتصرت الثورة وَلَمَا سقط نظام الاستبداد والفساد. لأنّنا كُنّا الأقربَ إلى همومِ التونسيات والتونسيين والأسبقَ إلى شدّ أزْرِ المُنتفضين مِنهم والأشدَّ إيمانا بمطالبهم المشروعة والأكثرَ انتصارا لها، ولأَنَّنَا كُنّا وما نزال الأقربَ إلى ذاكرة التونسيات والتونسيين الجماعية والأقرب إليهم جهويّا وقطاعيّا، لأنّنا منهم وإليهم.. فينا العامل والفلاّح والموظّف والمربّي.. ولأنّنا الأكثرُ وفاءً والتزاما بعبارة حشّاد ” أحبّك يا شعب”.
الأخوات والإخوة،

إنّ إحياءَنا لهذه الذكرى وتنشيطنا لذاكرة البعض، يُحيلنا برمزية هذا التاريخ إلى رفض التونسيات والتونسيين لتسلّط حُكَّامهم وَذَوِيهِم، وانتفاضتهم ضدّ نظام فاسد أوغَل في تَكميم أفواه مواطناته ومواطنيه. حدثٌ مثّل صَرْخَةَ رفضٍ مدوّيةٍ، ودعوةً فارقَةً لِرَدِّ الاعتبار لقِيَمِ حقوق الإنسان وكرامته، ولمبدأ المساواة بين الأفراد مهما كان جِنسهم ولَوْنهم ودِينهم وانتماؤهم الجهوي أو العقائدي.. حدثٌ سَقَطَ على إثره مئاتُ الضحايا من مختلف جهات الجمهورية بين شهيدٍ وجريحٍ وَهُمْ يَصرُخون في وجه الظالم مع المنتفضين من التونسيات والتونسيين:
“التشغيل استحقاق يا عصابة السّراق”
” شغل، حرّية، كرامة وطنيّة “

شِعارات، أنْهَتْ في أيّام معدودات نظام بن علي دون رجعة وبَقِيَتْ إلى اليوم تُؤَجِجُ مدن وأحياء وقرى التراب التونسي لنبقى دائما على العهد أوفياء.. أوفياء لدماء الشهداء.

الأخوات والإخوة مناضلات ومناضلو الاتحاد العام التونسي للشغل،
نُحيي اليوم مع عمومِ التونسيات والتونسيين الذكرى التاسعة لثورتِنَا المجيدة، ولحظة الانتصار ما تزالُ معلّقةً بين الأمل ومشاعر الإحباط والحِيرة والخوف.

نقول ذلك، ليس من باب التهويل أو البحث عن بثّ الهلع في النفوس، بل هي الحقيقة التي أصبحنا عليها اليوم، وبعد تسع سنوات من عمر الثورة.. حقيقة تؤكّدها كلّ المؤشرات وينطق بها واقِعُنا الذي أرداه فشل الحكومات المتعاقبة إلى أسفل السافلين:

– مشهد سياسي متردٍّ مُتَعَفِّنٍ أَغْرقَ التونسيات والتونسيين في قضايا هامشيّة وَحَشَرَهُمْ في تجاذُبات الهويّة المُفْلِسَة وفي دوّامة الصراع والتسابق المحموم على الكراسي سواء باسم ” التوريث الديمقراطي” أو بعنوان ” التدافع والتمكين”.. مشهدٌ سياسي أَمْعَنَ في تقسيم التونسيات والتونسيين بسبب غياب الرؤية الجامعة، والمشروع المجتمعي المؤلّف، والعقد الاجتماعي القادر على إعادة الثّقة ونَخَوَةِ الانتماء والولاء للوطن، وعلى إعادة إحياء الأمل في قدرة التونسيات والتونسيين على تغيير الواقع نحو الأفضل.
– دولة ضعيفة ومُستضعفة لا هيبَة لها، عاجِزة عن فرض سلطان القانون والتوقّي من الفساد.. دولة تدعم المنتوج الأجنبي وتَقْضِي على المنتوج المحلّي.. دولة مشدودة على غير عادتها إلى أجندات خارجية أكثر ممّا هي مشدودة إلى الأجندة التونسية الوطنية.
– أحزاب سياسية سائدة في البلاد منذ 2011 إلى اليوم تفتقر أغلبها إلى برامج وَرُؤى اقتصادية واجتماعية واضحة، يقودُها منطق الغنيمة والغَلَبَة والتحالفات اللاّمبدئيّة إلى حدٍّ أَقْعَدَها عن محاسبة الضالعين منها في ارتكاب شتّى أنواع التجاوزات والانتهاكات والجرائم، وأدّى إلى إغراق الإدارة بمنظوريها تحت عنوان التدافع والتمكين أو بعنوان المحسوبية والزَّبُونِية.
– مشهد برلماني مشتت سادته علاقات النّفاقِ والانتهازية، ونهج السياحة الحزبية وتقلّب المواقف، مشهد جعل من الحسابات السياسيوية والحصول على المواقع والمنافع هدفًا لبعض مكوّناته المتنفذة، حتّى تعطّلت مصالح البلاد واُرتهنت استحقاقات الثورة.
– وضع اقتصادي ومالي، يَصِفُهُ أهل الاختصاص بمختلف مشاربهم بالكارثيّ، أثّر أيّما تأثير على مردوديّة الاقتصاد الوطني، الذي يعاني في الأصل من الهشاشة والتبعية، وانعكس سلبا على الوضع الاجتماعي وعلى المقدرة الشرائية للشغالين وعلى مستوى عيشهم وعلى أجورهم التي كَثُرَ الحديث عن عجز الدولة عن توفيرها. كما أعْجَزَ المؤسسة التونسية على الاستثمار والانتاج والتشغيل وتسبّب في النزول بتونس إلى أسفل مراتب الترقيم الدولي المتداولة.
– مضاربون وفاسدون ولوبيات وعائلات معدودة متنفِّذة يُمْعِنُونَ في ضرب الصناعات الوطنية وتدمير القدرة الشرائية للمواطن، وتعميق اختلال الميزان التجاري دون رقابة أو مساءلة أو محاسبة ودون مراعاة مصلحة البلاد العليا.
– وضع أمني هشّ ترتعُ فيه عصابات الإجرام وتصولُ فيه المافيات وتتربّصُ به فلول الإرهاب في كلّ حين.
الأخوات والإخوة،

تسع سنوات مرّت من عُمر الثورة والارتجال سَيِّدُ الموقِفِ، تحوّلت خلالها الحياة السياسية إلى مسرح مبتذَل مفتوحٍ لهُواة السياسة الوافدين الجدد وإلى ظاهرة صوتية فاقدة لكلّ معنى مؤسٍّسٍ ولكلّ برنامج يَبْنِي ويُعَمِّرُ. ظاهرة مجرّدة من كلّ فكرة تُعيد الأمل وتَرسُمُ المستقبل وتَحُثُّ على إعادة الثّقة والاعتبار للوطنية ولقِيَمِ العمل ولمقوّمات السيادة ولمبادئ حقوق الإنسان.

حتّى فُسحةُ الحريّة التي اكتسبناها حوّلها المال الفاسد وتجّار الكلام والرأي إلى أداة لكسب الأنصار وتَخْوين الخُصوم وتَشْويه المخالفين في الرأي وشَيْطنتهم وصناعة الرأي المزيَّف وتسويق الأوهام.

تسع سنوات مرّت نَجَحَ فيها “إعجاز” الثورجية في سَلعَنَةِ الدين وسلعنةِ الإعلام وسلعنةِ النشاط السياسي والبرلماني، ومن التغطية على المهرّبين والفاسدين والمطلوبين للعدالة بل وتمكينهم من الفعل والتأثير في الحياة السياسية.

تسع سنوات مرّت والانتظارات هي الانتظارات، والشعارات هي الشعارات، مع فارق أنّ الفقير ازداد فقرا والغنيّ ازداد غنى، في بلد سَلَّمت أمرها للمهرّبين والمضاربين والمسؤولين الفاسدين، وفتحت أبوابها للسِلع المورّدة بما فيها السلاح والمخدرات دون رادِعٍ يردَعُ ودون رقيبٍ يحاسبُ، فتفكّك نَسيجُنا الاقتصادي وبَاتَ مهدّدا بالاندثار وارتُهِنَتْ فلاحَتُنا وصناعَتُنا وعمَّت السلوكيّات المُفسدة للأخلاق والمَارِقَةِ عن القانون كالارتشاء والتحيّل والغشّ والزبونية والنشل والعنف والجريمة إلى غيرها من الآفات التي تتغذّى من ضعف الدولة وتَرَاجُعِ سلطان القانون وغياب الحوكمة.

لم تُفلح حكومات الترويكا ولا حكومات التوافق في الإيفاء بما وعدت تباعا ولم تشأ أن تحوّل مُنجَزات المسار الثوري إلى فُرصِ عملٍ تُعيدُ الأمل لمئات الآلاف من الشباب العاطل عن العمل وإلى مشاريع وبرامج تَحُدُّ من التفاوت بين الجهات، لذلك عمّ اليأس وازداد الاحتقان وكَثُرت حالات الانفلات والفوضى.

الأخوات والإخوة،
مناضلات ومناضلو الاتحاد العام التونسي للشغل،
اليوم ونحن نُشارف على إتمام عَشريّة من الزمن تُؤرّخُ لحدث سياسيّ واجتماعيّ أملنا، وما زلنا نأمل، أن يغيّر حياتَنا نحو الأفضل وأن يُنهي حكمَ الاستبداد والفساد دون رجعة، يَحقُّ لنا أن نسأل من أَوْكَلْنَا لهم أمْرَنَا طِوال السنوات التّسع الماضية، عمّا قَطَعُوهُ على أنفسهم من وعود وعمّا أهدرته حكوماتهم المتعاقبة من أموال مُقترضة ارتهنوا بها الأجيال الحاضرة والقادمة دون أثرٍ تنمويّ يذكرُ.

يحقّ لنا أن نُسَائلَ نُخَبَنَا، التي ألهتها لعبة السلطة عن الاهتمام بشؤون البلاد والعباد فانشغلت بتدبير أمورها خدمةً لمصالحها ومصالح ذويها وأحزابها.

يحقّ لنا اليوم أن نتساءل عمّا تُخبِّؤهُ لنا سنة 2020 في ظلّ الوضع المُختلّ للمالية العمومية وفي ظلِّ حياةٍ سياسيةٍ يُنتَظرُ أن تكون في غاية الصعوبة والتعقيد.

يحق لنا أن نتساءل بشأن النزيف الذي يحصل في مستوى كفاءاتنا التي استبدّ بها اليأس فاختارت الهجرة وَاسْتَهْوَتْهَا عروض البلدان المُتَلَهِّفَة لكفاءتها وتكوينها وجاهزيّتها.

الأخوات والإخوة مناضلات ومناضلو الاتحاد،
منذ أسابيعَ انْتَخَبَ الشعب التونسي رئيسا جديدا وبرلمانا جديدا، وإلى اليوم نحن ننتظر الحكومة الجديدة، بعد فشل التكليف الأخير نتيجة سوء الاختيار وغياب الوضوح وعقلية التمكين، وفي الأثناء ما تَزال البلاد تعيش المأساة تِلْوَ المأساة، أطفالٌ رُضَّعٌ يموتون في مستشفياتنا العمومية، وفَوَاجِعُ سيرٍ تَحْصِدُ أرواحَ عاملاتِنا الريفيّات وأبنائنا وبناتنا بسبب سوء التدبير، ويأسٌ قاتلٌ يدفع بشبابنا إلى اختيار طريق الهجرة السرية أو الارتماء في أحضان شبكات التسفير والإرهاب والتهريب، وفساد مالي طال كلّ القطاعات وأقْعَدَهَا عن مواصلة إسداءِ خِدْمَاتِهَا، وأبقى المشاريع التنموية الموجّهة للجهات في حالة شللٍ دائم، وملفّات إصلاح حارقة مؤجّلة، منها بالخصوص ما يتعلّق بحقوق المواطنات والمواطنين بصلة بمنظومات التعليم والصحّة والنقل والجباية والحماية الاجتماعية. رغم هذا وذاك ما زال تشكيل الحكومة تتنازَعُه رغبة التسريع وإرادة المُماطلة وتَرْتَهِنُه حسابات الربح والخسارة.

فهلاّ أوقفنا هذا التلاعب بأحلام وتطلّعات التونسيات والتونسيين؟

كفانا عبثا بمقدّراتنا وبمعاناتنا واستحقاقات شعبنا.

كفانا استهتارا بأمنِنا الغذائي والطاقي وبثراواتنا المادية والبشرية وبمرافِقنا العمومية.

على منْ مَنَحَتْهُم الانتخابات التشريعية والرئاسية أمانةَ إدارة شؤون هذه البلاد أن يتحمّلوا مسؤوليّتهم ويتركوا جانبا مهاتراتهم وتجاذباتهم العقيمة ويعجّلوا بتشكيل الحكومة الجديدة فالظرف الدقيق الذي تمرّ به البلاد والوضع الإقليمي الضاغط يقتضيان ذلك، بالتشاور الواسع لتكليف شخصية مقتدرة جامعة مشهود لها بالكفاءة ونظافة اليد وحولها إجماع تعمل على الإسراع بتشكيل حكومة إنقاذ يضبط لها برنامج قصير المدى موسوم بالنجاعة وسرعة الإنجاز يحدّد الأولويات المستعجلة ويكون برنامجا بروح اجتماعية واضحة تستجيب لتطلّعات شعبنا وتعالج مشاكل الجهات والشباب والفئات الاجتماعية المختلفة. حكومة محدودة العدد تتشكّل من كفاءات سياسية وشخصيات وطنية مشهود لها بالخبرة العالية والقدرة على المبادرة وتتحلّى بالنزاهة ونظافة اليد، لتتفرّغ إلى خدمة التونسيات والتونسيين وإنقاذهم من براثن الحاجة والفقر والتهميش، وإلى ما يُعيد انتعاش الاقتصاد ويخفّفُ من وَطْأَةِ تَهَاوِي قيمة الدينار وارتفاع التضخّم وتفاقم العجز والتدهور المُفزِعِ للقدرة الشرائية وإلى ما يهيّئ لمستقبل العمل في بلادنا زمن الثورة الرقمية الزاحفة.

الأخوات والإخوة مناضلات ومناضلو الاتحاد،
إنّ الواجب يدعونا إلى الانتباه الشديد لتفاقُم تردّي الأوضاع المعيشية والاجتماعية في بلادنا. فالشعارات التي ردَّدتها الجماهير الشعبية مع انطلاق الثورة منذ تِسع سنوات، ما تزال تدوّي هنا وهناك، مِحورُها الحقّ في العمل، والحقّ في التنمية، والحق في الحرية وفي المساواة وفي العدالة الاجتماعية وفي العيش الكريم. وهل من سبيل إلى ذلك إلاّ بالعمل أوّلا والعمل ثانيا والعمل ثالثا، حتى نستقلَّ فعلا بغذائِنا ومَلبسِنا وأمنِنا الطاقي والصحّي وبذكاء وتفوق مواردنا البشرية، وحتّى يكون سلاحنا في مواجهة التحديات الخارجية وأمام مقايضات المؤسّسات المالية الدولية، من مصانعنا وحقولنا ومزارعنا لنحمي أرضَنا وعرضنا وسيادتنا.
نُخبَنا السياسية، لا تدفعونا إلى فقدان الثقة نهائيًا في عودة الرشد إليكم فدقّة الظرف ومصلحة الوطن لا تحتمل مزيد الاستهتار. إنّها لفرصة أخيرة لنؤكّد جدارة الاستثناء الذي كرّمنا العالم من أجله بمنحنا جائزة نوبل للسلام تقديرا لِتَمَيُّزِ تجربتنا الانتقالية الرائدة..

إنّنا نطمح أن تكون نهاية عشرية الثورة فاتحة خير ووقفة مراجعة مسؤولة تعيد الاعتبار لسلطان القانون وتكشف اللّثام عن قتلة الشهيدين شكري بلعيد ومحمّد البراهمي وعن المورّطين في تسفير شبابنا إلى بؤر التوتّر.

وقفة مراجعة لسلوكنا السياسي في إدارة الاختلاف وشؤون البلاد، وفق حوكمة مُنصفة وعادلة، تثمّن الشفافية وتُعلي القانون وتكرّس احترام حقوق الإنسان، ومبدأ المساواة التامة بين الرجل والمرأة.

وقفة مراجعة لقانوننا الانتخابي الذي أثبت قُصورَه على تنظيم الحياة السياسية وأفسد قواعد الحكم والتعامل.
وقفة مراجعة لمِنوالنا التنموي الذي ما انفكّ يَرتهِن اقتصادنا واستحقاقاتنا الاجتماعية والبيئية ويشدنا إلى أسفل سلم القيمة المضافة.

وقفة مراجعة لمنظوماتنا التعليمية والصحية والجبائية والحمائية والإدارية والمالية بما يؤمّن على التوالي، المسار المهني للشغالين، والتشغيلية العالية لخريجي منظومتي التعليم والتكوين، والعلاج والرعاية للجميع والعدالة والإنصاف لسائر الجهات وفِئَات المجتمع دون تمييزٍ أو إقصاءٍ، والإحاطة بشبابنا التَّلْمَذِي والطُلاّبِي المُعطّل عن العمل.
إننا ورغم قتامة المشهد واثقون شديد الثقة بقدرات شعبنا على حفظ الأمانة وكسب رهان الانتقال الديمقراطي والمضي بأهداف ثورتنا إلى منتهاها.

الأخوات والإخوة،
تعود علينا هذه الذكرى التاسعة للثورة والشعب الجزائري الشقيق يعيش أطوارا متقدمة على درب الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي ونحن وإن نُهنئهُ بنجاح الانتخابات الرئاسية فإننا نعبرُ لهُ عن صادق تمنياتنا بالتوفيق والنجاح في مسيرته الرائدة لما فيه خيرُ الجزائر وسُؤددهَا.

تعود علينا هذه الذكرى والشعب الليبي الشقيق يعيش منذ ما يزيد عن سبع سنوات على وقع حرب أهلية، يتقاتل فيها الإخوة، وترتع فيها الميلشيات والدواعش وأُمراء الحرب، وتقود فيها المخابرات الأجنبية حربا بالوكالة للاستفراد بالسيطرة على مقدّراته وثرواته وخاصة منها النفطية والغازية.

إنّنا نُدين هذه الحرب فهي لم تُخلّف غير الدمار والتقتيل والخراب. ونُدين التدخلات الأجنبية في الشأن الليبي ودعوات الحرب التي أصبحت بعض الدول تدقُّ طُبولها من وراء البحار خدمة لمصالحها على حساب الشعب الليبي في تحدٍّ سافرٍ للأعراف والقوانين الدولية، كما نرفض أن تتورّط بلادنا في الأحلاف الدولية المشبوهة مهما كان غطاؤها، ونَهيبُ بالسلطات جميعهَا لرفع حالة اليقظة والحذر للحيلولة دون تحويل تونس ممرّا للأسلحة أو قاعدة للاعتداء على الشعب الليبي أو معبرا للدواعش نحو ليبيا الشقيقة أو ملاذا لهم.

إنّنا على ثقة تامّة في جيشنا وأمننا الوطنيين لحماية تراب تونس وسيادتها.

وفي نفس الوقت الذي تتآمرُ القِوى الأجنبية على ليبيا، فإنّ منطقتنا العربية تعيش وضعا في غاية الخطورة، مردّه وَهَنُ القرار العربي، وتغوّل الأجندات الاستعمارية التي أطلقت العنان لغطرسة المستعمر الصهيوني، فأمعن في التنكيل بشعبنا الفلسطيني عبر الاعتقالات والاغتيالات والقصف العشوائي وتدمير الأرض، غير أنّ روح المقاومة في فلسطين واستماتة شعبها في الدفاع عن أرضه وعن حقّه في تقرير مصيره بنفسه وبناء دولته وعاصمتها القدس قد شكّلت عنوانًا للاستبدال والبطولة ونموذجًا للشعوب التوّاقة إلى التحرّر الوطني والانعتاق الاجتماعي، ولن نتوانى أبدا عن دعمنا للحق الفلسطيني وتجديد المطالبة بمبادرة تشريعية لتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب.

المجد والخلود لشهداء الوطن
العزّة لتونس ولشعبها الأبي
الخزي والعار لمحترفي الإرهاب وتجّار الدمار
عاش الاتحاد العام التونسي للشغل حرّا مستقلا ديمقراطيا ومناضلا