كورونا والأسئلة الحارقة

كورونا والأسئلة الحارقة

 

كورونا والأسئلة الحارقة

كارثة الكورونا تساءل اليوم الفعل السياسي في مجتمعاتنا بعنف ودون رحمة: ماذا حققنا مقارنة ببلد نهض متأخرا، لكن عازما حاسما من أنقاض التاريخ؟ ماذا نشكل نحن أمام المعجزة الصينية؟!

السؤال حارق، ولا تكفي للإجابة عنه تلك الاختزالات التي تعزو للغير عناصر التفوق الحضاري والعمراني وتحكم على شعوبنا بالتخلف. السؤال حارق لأنه يستفز في الذات المناضلة ما صارت -للأسف- تخشاه باستمرار، ألا وهو سؤال المسؤولية التي تتحملها قوى التغيير في ما آلت إليه الأوضاع. لقد اعتدنا تحميل المسؤولية للشروط الموضوعية والامبريالية والأنظمة، في حين أن جزءا كبيرا من أزمة مجتمعاتنا ساهمت فيه قوى التغيير لما تواطأت غداة سياقات معينة في إغلاق طريق الثورة والتحرر الوطني والاشتراكية، لتضع بيضها في سلة الرهان على الحلول التوفيقية والذوبان التدريجي في عالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، عالم الهيمنة الأمريكية والغربية بكل مفاهيمه المغلوطة عن التمدن والحقوق والحرية.

ثمت طريقان أمام مجتمعاتنا الكولونيالية: إما طريق تجديد التبعية أي طريق الرأسمالية، وإما طريق القطع معها أي طريق الاشتراكية. اختارت الصين وقبلها روسيا طريق القطع، ويتضح اليوم من جديد أنه الطريق الوحيد الممكن لتحرر مجتمعاتنا: ثورات ظافرة يقودها حزب شيوعي طليعي يسترشد بالنظرية الماركسية وينظم صفوف الطبقات الكادحة. أما عن مآل هذه التجارب، فمهما اختلفنا حول مدى تحقق هدفها المعلن (بناء الاشتراكية) لن يختلف سوى جاهل حول كونها حققت لشعوبها مجدا عظيما، وقاعدة اقتصادية وسياسية وتنظيمية وفكرية تتجاوز أفق التطور العشوائي لقانون القيمة الرأسمالي. لقد أكدت هذه التجارب أن الطريق الوحيد الممكن لتحقيق الاقتصاد الوطني هو طريق التحويل الثوري الاشتراكي للمجتمع، رغم كل ما ينطوي عليه من احتمالات التعثر أو الانزياح أو حتى الفشل في تطبيق الاشتراكية، وهي على كل حال احتمالات تحسم في خضم الصراع، ولا دليل تاريخيا على أنها حسمت نهائيا بما يعارض مصالح العمال والفلاحين والجماهير الكادحة، كما أنها احتمالات واردة موضوعيا في عالم تهيمن فيه رأسمالية الشركات الاحتكارية الكبرى للطغمة الغربية، ويتراجع ضغطها كلما تأزمت الرأسمالية.

نعم لقد حققت هذه التجارب أفقا رحبا لسعادة شعوبها، ولتضامن وتعاضد جماهيرها، ولتثوير قواها المنتجة وتحويل مجتمعاتها من قرى وأرياف وغابات وصحاري وبراري صقيعية فقيرة إلى منظومات إنتاجية كبرى، فرضت وجودها في شروط تقسيم لامتكافئ للعمل الدولي، حاولت الوحوش الامبريالية فرضه بالحديد والنار عبر عقود من الاستعمار والحروب المباشرة والباردة والتهديدات النووية والجرثومية والعقوبات الاقتصادية والحملات الدعائية الرخيصة المعادية لتحرر الشعوب، فلا والله لا طريق أمام مجتمعاتنا إلا هذا الطريق، طريق المفاهيم المنسية قسرا ودون إنصاف من طرف الأغلبية الساحقة من مثقفينا ومناضلينا، طريق السوفييت والكمونة والبارتيزان والجيش الأحمر والمطرقة والمنجل.. ودونه طريق الذل والعبودية المأجورة المغلفة بفقاعات “المدنية” الغربية المفترى عليها.

لقد حاربوا الصين والاتحاد السوفياتي لأن “الاشتراكية” حسب زعمهم تسلب الإنسان/الفرد حرية الإرادة، فهاهي الصين تثبت أن الحرية الحقيقية هي وعي الضرورة، هي الصراع الواعي والمنظم مع الطبيعة/الوباء، هي التخطيط والتدبير والتحكم في موارد الطبيعة وإخضاعها لما فيه مصلحة الإنسان/الجماعة.

حاربوا الصين لأنها تحكم “بالأيديولوجيا”، وصاحوا في كل بوق أن عصر الإديولوجيا انتهى، وأن حرية الفرد فوق كل الأيديولوجيات، كانوا يقصدون حرية الفرد في القضاء على أخيه الفرد في سوق التنافس الذي لا يرحم، فكانوا بذلك أخس الإديولوجيين وأحقرهم، وما إن تفشى وباء الكورونا كالنار في الهشيم، حتى ظهرت إلى السطح مزايا الحرية الفردية المفترى عليها، فها هم “المواطنون الأحرار” يجرون ويهرولون “بكل حرية” نحو الأسواق المكتظة لإنفاق كل يملكون تجنبا لضرورة الموت الضاحكة، مدركين أن دول “المواطنة” المخوصصة لن تنفعهم في النجاة بجلدهم من مصير صار تحت هوس “إديولوجيا السوق” أشبه بيوم القيامة! هاهي الشركات الكبرى تتنصل من كل مسؤولية كأن ما تحت تصرفها من وسائل ومقدرات ليس بأي شكل من الأشكال ملكا للإنسان/الجماعة في آخر المطاف، وها هو الإنسان/الفرد يسابق خطاه نحو السوبر ماركت مقامرا أمام الموت مقامرته الأخيرة!

كل هذا بينما “شمولية” و”دكتاتورية” و”إديولوجية” الصين، تعمل ليل نهار كخلية نحل، مستنفرة كل القطاعات والوحدات الإنتاجية والخبرات التاريخية والتقنية والمشاعر الجماعية والفردية.. لاستئصال الموت من مدنها وقراها، مدبرة بحكمة حركة الإمدادات وتدفق السلع والوحدات والرحلات.. لتعزف سمفونية جماعية ملحمية خالدة ستقف عندها الأجيال القادمة طويلا بما تستحق من رهبة واحترام.

لا يستسيغ العقل التاريخي والنظري والسياسي العلمي إذن أن ننظر إلى هذه الملحمة التاريخية لشعب الصين بتبسيط وتسطيح لا يرى عناصر تفوقه في طبيعة القفزة الثورية التي أنجزتها الثورة الاشتراكية بهذا البلد. لذلك وجب مراجعة أحكام القيمة التي كونها معظم مثقفينا ومناضلين حول صحة وسلامة منظوراتنا واستراتيجياتنا للتغيير، حول الماركسية والاشتراكية والمثل النبيلة المرتبطة بهما، فهذه الأحكام تشكلت في إطار هزيمة قوى التحرر واستعادة الامبريالية زمام المبادرة في مجتمعاتنا، وهي لذلك منظورات لا تخرج عن منطق التبعية، ولا تنبني إلا على ألفة واستئناس وثيق بالرأسمالية، لذلك تظل وستظل منظورات مخصية وعاقرة.

فلننظر إلى فرنسا اليوم، فرنسا التي لم تكف لحظة عن استغلال ثروات المغرب بتواطئ تاريخي من برجوازية البلاد، فرنسا التي تمثل في أذهان الكثيرين نموذج التحضر والمدنية والحرية، تقف اليوم مرتبكة عاجزة أمام هلع مواطنيها وهرولتهم في كل الاتجاهات لاقتناء وتكديس المواد المنزلية أملا في النجاة من الفايروس، (وهو ما تقلده برجوازيتنا الصغرى فرنسية الطباع والطموحات حرفيا في الأسواق المغربية ههههه) فمن سيقول لهؤلاء المواطنين المساكين أن هذه السلع يجب أن تدبر بحكمة لما فيه مصلحة الجماعة؟ وأن هذا التدبير والتعاون الجماعي هو السبيل الوحيد لمحاصرة الفايروس وتفادي الكارثة؟ وأن هذا الركض المحموم في سبيل نجاة الفرد هو بالضبط ما سيزيد عدد المصابين ويخرج الأمور تماما عن السيطرة؟؟! وحتى إن وجد عاقل ليقول.. فمن هذا المواطن “الشجاع” الذي سيريحه سماع جعجعة لا تشفي ولا تداوي حول مصالح الأمة والتضامن والتعاون؟؟؟ هنا بالضبط تجيب الأيديولوجيا التي تمتلك القدرة على توحيد إرادات الناس واستنهاض هممهم.. وهنا بالضبط تجيب المثل العليا للاشتراكية، الرافعة لراية التضامن الشعبي والأممي، وهنا بالضبط تجيب ملحمة ووهان، وهنا بالضبط تنهزم الإديولوجيا الليبيرالية الفردانية التي اختزلت الإنسان-القدوة في ذلك الكائن الطفيلي ميت الضمير الجماعي، السعيد بمحفظة نقوده، والشديد الحرص على تلبية حاجياته الروتينية الأشد ابتذالا، هاهو التاريخ يجيب مفكري وفلاسفة البرجوازية (وفي مقدمتهم فرنسيون طبعا) الذين عزفوا لعقود معزوفة موت الأيديولوجيات والحياد الأيديولوجي.. إلخ.

إن التاريخ محكمة الشعوب، ومحكمة المفاهيم أيضا: فعندما أعلنت الليبيرالية “موت الأيديولوجيا”، إنما كانت تنشد موت الضمير الجماعي، فكانت تصوغ بذلك “أيديولوجيا الموت” نفسه.

حسين بنعيسى