تونس: جائحة كورونا والتحديات المطروحة على الدولة اليوم

تونس: جائحة كورونا والتحديات المطروحة على الدولة اليوم

جائحة كورونا والتحديات المطروحة على الدولة اليوم.

الحسين المحجوب

مما لا شك فيه أن الجميع اليوم، واع بالوضع الراهن والظرفية الحرجة التي تمر منها دول العالم جراء هذا الوباء، والدولة المغربية ليست استثناء من الكل، بل هي جزء من هذا الكل. وعليه فحالتها غير مرضية في جميع القطاعات، ولاسيما قطاعي الصحة والتعليم، قد يكون هذا حكما متسرعا أو جاهزا، لكن ما هو حقيقي هو أننا نعيش مرحلة عسيرة وصعبة عنوانها العريض “الخوف والترقب والعجز عن مواجهة هذه الجائحة في ظل غياب الإمكانيات الضرورية لذلك”، إن هذه الوضعية اليوم تساءلنا جميعا، عن الأسباب التي أوصلتنا إلى هكذا وضع، وتضع الدولة أمام مسؤولية بناء الإنسان، وهذا أمر ينسجم مع الغايات التي من أجلها وجدت، والمتمثلة في: الرفع من الرصيد الفكري والمادي للإنسان والحفاظ على صحته، والقطع مع سياسة التضبيع والتكليخ والتتفيه.

إن الدافع إلى الحديث عن جائحة كورونا والتحديات المطروحة على الدولة اليوم، يرجع في تقديرنا إلى سببين على الأقل، أولهما، أننا لسنا متلقيين سلبيين ولا مجرد منفعلين مع هكذا أزمات، وثانيهما أن الإنسان يجب عليه أن يفكر في الإشكالات المطروحة والتي تضع الدولة يدها عليها، كإشكال الصحة والتعليم. لكنني لا أكتب عن فيروس كورونا وتداعياته، في ظل ضعف الإمكانيات في مجال الصحة، من زاوية المتخصص، بل للنبش في سؤال الموت والخوف منه. لماذا؟ لأننا نعرف جميعا الوضع الصحي في بلادنا، والذي أقل ما يمكننا القول عنه أنه وضع كارثي، وبالتالي فسؤال الموت في ظل هذا الوضع يشكل هاجسا قويا لكل إنسان على وجه الأرض، فإذا كانت الدول الكبرى بما تملكه من إمكانيات غير قادرة على تأجيل الموت لشعوبها، فما الذي ستقوله الدول التي لا تملك حتى خمس تلك الإمكانيات. لهذا فالتساؤل عن ماهية الموت، لا يعد ترفا فكريا، أو ضربا من التسلية الذهنية أو حب الاستطلاع، وإنما هو تساؤل عن تحدي كبير يواجه حياة الإنسان ومصيره الحتمي. فالتشبث بالحياة هو أمر غريزي ليس عند الإنسان فقط بل حتى عند الحيوان أيضا. والإنسان منذ ظهوره على وجه البسيطة وهو يصارع من أجل البقاء، والدليل على ذلك، هو أن الإنسان قديما اهتم بالطب وأولاه عناية خاصة، وكانت له دراية وخبرة في الكثير من الأشياء المتعلقة بالتطبيب، وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر، الإغريق، البابليون، الهنود، الصينيون، الفرس…إلخ. عكس الإنسان اليوم الذي استطاع أن يؤجل الموت، ليس بمعنى الخلود في الحياة، بل بمعنى التطور الذي حصل في مجال العلم والطب. فتطور الطب في مجال التقنيات والبحث عن أنواع جديدة من الأدوية والمضادات الحيوية مثال صارخ لمواجهة الموت ومحاولة تأجيله، كيف لا ونحن نتحدث عن تجديد الخلايا البشرية والاستنساخ البشري…إلخ. وبين إنسان الأمس وإنسان اليوم هناك فئة تجد ضالتها في الإيمان بالأديان، وهذه الفئة غالبا ما تحتكر الحديث باسم السماء كما يقول الأستاذ “عبد الرحيم العطري”، وترجع جميع الأحداث وما يقع إلى السماء. بل أكثر من ذلك يطغى عليها هوس فكر المؤامرة على العقيدة. هنا سأفتح القوس لأتساءل، عن نصيبنا من الثورة التي حدثت في مجال العلم والمعرفة؟ وهل نحن جاهزون ومستعدون تقنيا وعلميا وفكريا لتأجيل الموت الذي أصبحت تهددنا به جائحة كورونا؟ هل صناع القرار في بلدي كانوا على حق في سياساتهم المتعاقبة اتجاه الصحة والتعليم؟ أليست معركة الصراع من أجل البقاء (الحجر الصحي خوفا من انتشار الوباء) تدار بحجة الفكر واحترام العلماء لا الإكراه والقوة؟ وهل المقصد من الدين هو الحفاظ على صحة الإنسان، أم، تعريضها للموت؟ ألم يدرك المتأسلمون أن ممارسة الطب في صدر الإسلام، كانت تعتمد على المعرفة لا الخرافة، وتشترط الوقاية والعلاج لا الخروج إلى الشارع للتكبير والتهليل؟ وهل نحن أصلا في حاجة إلى من يرينا الطريق التي تقودنا إلى السماء؟

لا ندعي الإجابة عن هذه الأسئلة لكن حسبنا أن نفتح شهية القارئ الكريم للتفكير معنا فيما هو مطروح على الدولة من تحديات، أولها وآخرها، بناء الإنسان كما سبقت الإشارة إلى ذلك، والقطع مع سياسة تكليس الفكر. فجائحة كورونا أعادتنا إلى حجمنا الطبيعي وبينت حقيقتنا وكشفت عن كل المساحيق التي لطالما لمعنا بها وجهنا أمام وسائل الإعلام الوطنية والدولية، وفندت زيف كل الحقائق والشعارات التي كانت ترفع بصدد قطاعات حيوية هامة. يقول “باروخ سبينوزا”:” إن الحقيقة أكبر من ذاتها، قد تنكشف في أية لحظة”. وها هي انكشفت اليوم أمام هذه الجائحة، وأبانت عن دائرة الثقب وحجمه، وعن هشاشة السياسات الترقيعية في مجال الصحة (ضعف المعدات والتجهيزات التقنية داخل المستشفيات، مختبرات علمية على قلتها غير مجهزة، ضعف البحث العلمي في هذا المجال…إلخ)، التي كشفت عن تهاويها وضعف مناعتها في مواجهة هكذا أزمات. عكس المنظومات الصحية في الدول المتقدمة التي أبانت عن جرأة كبيرة في المواجهة رغم فداحة الخسارة، (طواقم طبية مدربة، معدات متطورة، مختبرات علمية مجهزة، بحث علمي متطور، علماء يشتغلون ليل نهار وعلى مدار الأسبوع بحثا عن لقاح للوباء…إلخ).

إن لجوئنا إلى السماء بالدعاء طالبين من الله تغيير قوانين الطبيعة لرفع الوباء، تارة، أو انتظار الغرب، لإنقاذنا بلقاح لهذا الوباء، يبين بما لا يدع مجالا للشك، أننا غير قادرين على الأقل في هذه الظرفية الصعبة على مواجهة هذا الوباء، بل إن شئنا القول، رفعنا العلم الأبيض إيذانا بتسليم أمرنا إلى السماء، لكن هذا الوضع يرسل رسالة مشفرة للدولة مفادها أن جميع المعارك كيف ما كان نوعها تحسم داخل المدرسة، وأن المرافق العمومية خاصة (الصحة والتعليم) يجب أن تبقى خارج الحسابات السياسية الضيقة، فالفقر في مجال العلم والمعرفة تكون له نتائج وخيمة على الوطن والمواطنين. لهذا فتاريخ أي مجتمع لا يصنع إلا داخل المدرسة، وربما هذا ما قصده “بسمارك” بقوله: ” إن من يدير المدرسة يدير مستقبل البلاد”.

إننا اليوم، وبدون مبالغة نؤدي ثمن التفاهة، والتخدير المبرمج، الذي لزمنا منذ عقود طويلة، نؤدي ثمن البهرجة والرقص على الجراح والتصفيق والغباء المعلب، الذي يستهلك على نطاق واسع في وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، نؤدي ثمن تغييب القدوة وضرب مكانته الرمزية والاعتبارية داخل المجتمع. ولتوضيح هذه الأفكار أكثر، أستشهد بالبرامج التلفزية المعروضة، وأتساءل، ما هو النصيب الإعلامي المخصص لقطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم؟ ومبرر هذا السؤال هو أنني لم أشاهد برنامجا تلفزيا خاصا بمناقشة قضايا الصحة والتعليم، ولا حتى التفاتة رمزية للمعلم أو الطبيب احتراما وتقديرا للمجهودات والأدوار التي يقومان بها داخل المجتمع. بل على العكس من ذلك واجهتهم الدولة في الكثير من الأوقات بالعنف والسحل والإهانة كلما خرجوا للمطالبة بحقوقهم. وفي المقابل شاهدت الكثير من البرامج التلفزية التي تروج للتفاهة والتي جعلت من المغني والراقص والمخنث والساحر وصاحب الخوارق والمدرس المعجزة قدوة لأبنائنا وبناتنا، بل أكثر من ذلك شاهدت هؤلاء يوشحون بأوسمة على صدورهم تقديرا للأدوار التي يقومون بها والتي نؤدي ثمنها اليوم. فما وقع في الكثير من المدن دليل قاطع على ما قلناه. ففي اللحظة التي نشاهد فيها شعوب الدول الأوروبية تحيي الأطقم الطبية من شرفات المنازل بالأغاني تارة، وبالهتافات تارة أخرى، تقديرا واحتراما لهم على مجهوداتهم التي يقومون بها في هذه الحرب على هذا الوباء الفتاك الذي لا يستثنيهم هم أنفسهم، نجد في المقابل شعوب الدول المتخلفة تخرج في مسيرات ليلية تهتف بالتكبير والتهليل تارة، وتارة أخرى برفع شعارات مناوئة لفيروس كورونا، هذا إن دل على شيء إنما يدل على فظاعة الجهل ونتائجه الوخيمة للأسف. لماذا؟ لأن ما شاهدناه في الكثير من المدن ليس بريئا أو محايدا، أو غريبا عن فهمنا وإدراكنا، بل هو نتيجة حتمية كما سبقت الإشارة إلى ذلك، للجهل والتجهيل وسياسة صناعة أجيال من الضباع كما قال المرحوم الأستاذ “محمد جسوس”، وكذا نشر التفاهة والدجل والشعوذة. يقول المرحوم “المهدي المنجرة”: “إن الحرب الحقيقية التي يجب أن تخاض داخل المغرب، هي الحرب ضد الجهل”. إذن، معركة العلم والمعرفة هي التحدي الأول المطروح على الدولة بعد هذه الجائحة، فبدونها لا يمكن بناء الإنسان، والعلم لا يحترم إلا في بلد يعرف قيمته. لهذا فربح هذه المعركة، هو السبيل الوحيد لمواجهة السفلة، أهل الحواس البهيمية كما يقول “لسان الدين ابن الخطيب”.

أخيرا، إذا كانت هذه الجائحة كشفت عن فشلنا ونكبتنا وخسراننا في سياساتنا التي أقمناها على محاربة الفكر والإعلاء من شأن التفاهة والبهرجة، فإنه لا زال لدينا متسع من الوقت للتصالح مع الذات، فإذا كان الراهن يفرض علينا غسل الأيادي وتنظيفها بالمعقمات، فالرهان يحتاج إلى تعقيم الفكر من الخرافة والجهل واللاهوت، وهذه الأشياء لا لقاح لها سوى لقاح العلم والمعرفة.