حتّى نفهم ما يجري في السّاحة الإقليميّة

حتّى نفهم ما يجري في السّاحة الإقليميّة




حتّى نفهم ما يجري في السّاحة الإقليميّة*





حمة الهمامي – أمين عام حزب العمال التونسي




إن فهم ما يجري من أحداث في المنطقة أو فيما يسمّى الشرق الأوسط وتحديدا العدوان الصهيوني الأمريكي على إيران لا يمكن فهمه فهما سليما دون ربط تلك الأحداث بعضها ببعض ودون وضعها في السياق العام الإقليمي والدولي الذي تجري فيه وإلّا فإنّنا سنسقط في تفسيرات أو تأويلات جزئية وتبسيطية بل سطحيّة تقودنا إلى مواقف سياسيّة خاطئة حتّى لا نقول انتهازيّة تصبّ في مصبّ القوى التي نزعم مقاومتها والتصدّي لها ونقصد المعسكر الامبريالي الأمريكي الغربي والكيان الصّهيوني وأنظمة العمالة في المنطقة المعادية لشعوبنا ولطموحاتها في التحرّر والانعتاق وفي مقدّمتها الشعب الفلسطيني.

إنّ العدوان على إيران يمثّل أوّلا استكمالا لما يجري منذ أكثر من عشرين شهرا من حرب إبادة في غزة والضفّة بهدف استكمال الاستيلاء على فلسطين وتهويدها بالكامل وفقا لما أعلنه الصهاينة بشكل فاضح ولما أعلنه مجرم البيت الأبيض، الشعبوي الفاشي دونالد ترامب. وهو يمثّل ثانيا استكمالا لما جدّ في لبنان من اعتداءات واغتيالات طالت أحد أهمّ فصائل المقاومة في المنطقة ونعني حزب اللّه وما أدّى إليه من اتفاق على وقف إطلاق نار شكليّ، يحرم المقاومة من الردّ ولا يمنع الكيان الصهيوني من مواصلة عربدته في ظلّ وصول رئيس وحكومة جديدين بمباركة أمريكية غربيّة لا يحرّكان ساكنا تجاه تلك العربدة. وهو يمثّل ثالثا استكمالا لما جدّ في سوريا من إسقاط نظام الأسد وتعويضه بنظام يعلن عدم معاداته للكيان الصّهيوني بل يعلن أن ما يجمعه بالكيان الصهيوني أنّ لهما “عدوّين مشتركين” وهما إيران وحزب اللّه.

إنّ العدوان على إيران يندرج في هذا السياق. فالعدوّ الأمريكي الصّهيوني يعتبر أنّ المناخ أصبح مؤاتيا لاستكمال القضاء على محور معارضة الهيمنة الأمريكية الغربية الصهيونية في المنطقة وذلك بضرب “قلب” هذا المحور والطّرف الأقوى فيه أي إيران باستعمال ذريعة “السلاح النّووي”. ولم يخف الكيان وراعيه الأمريكي أنّ هدفها الحقيقي تغيير النظام في إيران وتعويضه بنظام طيّع ناهيك أن نتنياهو لم يتورّع إثر تنفيذ الحلقة الأولى من العدوان الذي تم فيها اغتيال قيادات عسكرية وعدد من العلماء عن التوجه إلى الشعب الإيراني داعيا إيّاه إلى الخروج للشّارع وإسقاط نظام الحكم.

إن الحرب التي تشنّ في المنطقة لا هدف منها سوى إعادة تشكيلها وفقا للمصالح الإستراتيجية الأمريكية الغربية الصهيونيّة التي لخّصها مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي لا يعدو كونه صياغة جديدة لاتفاقية سايكس بيكو (1916) على أسس دينية وطائفية وأتنية بهدف خلق كيانات صغيرة ومفتتّة ومتناحرة بما يضمن السيطرة عليها بسهولة من قبل الإمبريالي الأمريكي ورأس حربته الصهيوني. فليبيا ممزقة وكذلك اليمن والسودان والعراق و التحقت بها سوريا. ولم تبق سوى إيران عقبة رئيسية وهو ما دفع إلى الاعتداء عليها. ولكن لا ينبغي الاعتقاد أن الأمر سيتوقف عند هذه البلدان والمجتمعات بل من المرجّح حتى لا نقول من المؤكّد أنّ يد الجريمة ستمتدّ في مرحلة قادمة إلى بلدان أخرى وفي مقدمتها الجزائر التي ينص مشروع الشرق الأوسط الجديد على تقسيمها إلى ثلاث دويلات أو مناطق ولا ينبغي فهم تزايد الوجود الأمريكي الغربي الصهيوني في المغرب بدعم من الملك والمخزن إلّا في هذا الإطار. ولا شكّ في أنّ الدور سيأتي لاحقا على مصر نفسها رغم اصطفاف نظامها وراء الإمبريالي الأمريكي. إن هذا الأخير لا يعنيه أنّ النظام المصري واقع تحت قبضته اليوم وإنما يفكّر في أي تغيير يمكن أن يحصل في هذا البلد الكبير نتيجة ثورة شعبية أو حتى انقلاب عسكريّ ذي طبيعة وطنيّة وما يمكن أن يمثّله من خطر على المصالح الأمريكية الصهيونية. إن أحسن ضمانة لذلك هي تفتيت مصر وإدخالها في فوضى عارمة بشكل مبكّر. أما السعودية وبلدان الخليج التي تحكمها عائلات منصّبة ومحمية من القوى الامبريالية الغربية فإنّها لن تكون في منأى من تقلبات المصالح في المنطقة. وأخيرا وليس آخرا فإن تركيا نفسها ليست مستثناة من النوايا العدوانيّة للكيان وراعيه الأمريكي رغم ما قدّمه لهما أردوغان وأسلافه من حكام تركيا من خدمات جليلة لكن مشكل نتنياهو أنّه لا يريد تركيا قوية، حتى لو كانت رجعيّة، قريبة من الكيان لأن التفكير الإستراتيجي الصهيوني الامبريالي يفكّر في المستقبل أي في احتمال تغيير الأوضاع لغير صالح الأنظمة الحالية نتيجة انتفاضات شعوبها عليها وقيام أنظمة ثورية أو تقدمية على أنقاضها بل يفكّر حتّى في احتمال تغيّر التحالفات. وفوق ذلك كلّها فإن غلاة الصهاينة لا يخفون أن هدفهم يبقى إقامة “إسرائيل الكبرى” الممتدة من النيل إلى الفرات.

إن كل هذا يندرج في ظرف دولي خاص. إن النظام الرّأسمالي العالمي يشهد منذ مدّة أزمة خانقة. وتحاول البورجوازيّة الاحتكارية حلّ هذه الأزمة على حساب شعوبها في الداخل عبر ضرب الحريات والاعتداء على الحقوق الاقتصادية والاجتماعيّة للعمال والكادحين وحتى الفئات الوسطى من المجتمع لحساب الطغم المالية المهيمنة على المجتمع. كما تحاول نفس البورجوازيّة حلّ أزمتها على حساب الشعوب والأمم الأخرى الضعيفة والصّغيرة عبر مزيد من السيطرة عليها ونهب ثرواتها وقمع تطلعاتها. وأخيرا فإن مختلف البورجوازيات الاحتكارية بقديمها وجديدها تحاول حلّ أزماتها على حساب بعضها البعض عبر اشتداد الحروب الاقتصادية والتجارية والماليّة ولكن أيضا عبر اشتداد السباق نحو التسلّح وإثارة الحروب والنزاعات بالوكالة في مختلف أنحاء العالم استعدادا لحرب شاملة محتملة تفتح الباب لإعادة اقتسام مناطق النفوذ وفقا لموازين القوى الجديدة فالحرب كانت وماتزال من جوهر الإمبرياليّة وطبيعتها. ولا يمكن النظر إلى صعود حكومات يمينية متطرفة وفاشية وقومية شوفينية في مختلف البلدان الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية إلا تعبيرا عن هذه النزعات الخطيرة في الداخل والخارج: النزعة الحمائيّة في الاقتصاد والعنصرية والفاشية في السياسة وتفاقم النزعة العسكريتاريّة وما ينجم عنها من توتّرات ونزاعات في العلاقات الدوليّة.

إن منطقة الشرق الأوسط تمثّل اليوم أحد أبرز مناطق الصّراع بين كبريات الدول الاحتكاريّة الإمبرياليّة المتصارعة حول مصادر المواد الأولية وفي مقدمتها الطاقة التي يحوز الشرق الأوسط على نصيب كبير منها وحول الأسواق والمواقع الإستراتيجية. لقد شعرت الولايات المتحدة وحليفاتها في الغرب بتراجع مصالحها في المنطقة (وفي مناطق أخرى من العالم أيضا، في إفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية) نتيجة التمدّد الصيني والروسي خاصّة واكتساب حلفاء ومواقع على حسابها. وهو ما يفسّر استشراس الإمبرياليّة الأمريكية واشتداد عدوانيّتها وإثارتها لأكثر من نزاع خوفا على مكانتها ومصالحها المهدّدة من القوى الإمبريالية المنافسة. وفي هذا السياق فهي تدعم نظام زيلنسكي هي وحلفاؤها في الناتو لتحجيم المنافس الروسي في أوروبا. وهي تشعل نار الحرب في الشرق الأوسط وترتكب بمعيّة صنيعها الصهيوني أبشع الجرائم لإخضاع المنطقة وضمان هيمنتها المطلقة عليها وإقصاء منافسيها خاصة الصيني والروسي لتوجه اهتمامها لاحقا إلى منطقة بحر الصين الجنوبي التي ستجري فيها مستقبلا أشدّ المعارك الإستراتيجية مع المارد الصيني الجديد الذي يريد ترسيخ موقعه وتعزيزه. إن قانون التطوّر اللامتكافئ بين مختلف القوى الرّأسماليّة يخلق باستمرار حالة من التوتّر والنزاع بين القوة أو القوى المتربعة على عرش العالم وبين القوة أو القوى الجديدة الصّاعدة التي تطرح إعادة النظر في النظام القائم دفاعا عن مصالحها وقد كان ذلك مصدر حربين كونيتين سابقتين وهو اليوم يدفع بالعالم نحو حرب كونيّة ثالثة.
إن الصراع في منطقة الشرق الأوسط هو إذن صراع مصالح تشعله القوى الرأسمالية الاحتكاريّة الامبريالية. إن ضرب إيران لا علاقة له بمنعها من امتلاك السلاح النووي فما ذلك إلّا ذريعة فإن أوّل من استعمل السلاح النووي هو الإمبريالي الأمريكي الذي يحمل الرقم القياسي في الحروب (225 حربا داخلية وخارجية منذ 1776 تاريخ إعلان الاستقلال). كما أنّ السلاح النووي موجود بين يدي الكيان الصهيوني المجرم الذي ظل منذ قيامه يرتكب المجزرة تلو المجزرة على حساب الشعب الفلسطيني وهو يشن عليه اليوم حرب إبادة نازيّة. كما أن تاريخه كله تاريخ اعتداءات على الشعوب العربية المجاور منها وحتى البعيد مثل تونس. إن الحرب مبرمجة منذ مدّة. وقد تم التخطيط لها أكثر من مرّة. وفي هذا السياق ينبغي التذكير بمحاولات إدارة ترامب الأولى تشكيل حلف يشمل الكيان وأنظمة الخليج “السنية” ضدّ إيران “الشيعيّة” بدعوى أنها “العدو المشترك”. وكانت إحدى أضلع هذا المشروع تعميم التطبيع مع الكيان في نطاق “اتفاقية أبراهام” أو “صفقة القرن” التي جرت الإمارات والبحرين والمغرب إلى قافلة التطبيع. وكانت السعودية المرشّح الموالي إلّا أنّ انطلاق معركة “طوفان الأقصى” خلطت الأوراق وخلقت معادلات جديدة إضافة إلى دخول قوى أخرى وفي مقدمتها الصين بقوة إلى المنطقة وسعيها إلى تقريب إيران والسعودية من بعضهما. لكن اليوم يطرح المشروع الأمريكي الصهيوني من جديد ويراد استكماله بإسقاط النظام الإيراني وإلحاق البلاد بالزريبة الغربيّة.

لكنّ المشروع الصهيو أمريكي تعطّل ولم يحقق أهدافه المعلنة بسبب ردّ فعل الدولة الإيرانيّة في وجه العدوان والتفاف غالبية الشعب الإيراني حولها دفاعا عن سيادة الوطن لا بالضرورة “محبّة” في النظام القائم. فحتّى معارضو نظام خامنئي من القوى الثورية والوطنيّة وقفوا ضدّ العدوان ورفضوا الاصطفاف وراءه إيمانا منهم أوّلا بأن المجرم الصهيوني وداعمه الامبريالي الأمريكي الفاشي لا يمكن أن يعملا لصالح الشعب الإيراني وإنما ضده وضد مصالحه. وثانيا بأنّ الشعب الإيراني هو المسؤول وحده عن اختيار النظام الذي يريد لأن الحرية والديمقراطية والمساواة والكرامة تمثل مكاسب يحققها الشعب بنفسه ولنفسه ولا يمكن أن تهدى له من الأجنبي أو من عملائه ومن باب أولى وأحرى لا يمكن أن تهدى له من جلادي الشعوب ومرتكبي حروب الإبادة. وما من شكّ أن النظام الإيراني إذا كان له من درس أن يستخلصه من المواجهة الحاليّة التي لم تنته ومن الخطأ الاعتقاد أنّها انتهت، هو أنّ أي نظام لا يمكنه الصمود دون جبهة داخلية صلبة وأن صلابة الجبهة الداخليّة لا تتحقق إلّا باحترام حقوق الشعب السياسية وباحترام المساواة وبالتالي إعطاء النساء حقوقهنّ وعدم اتهام أي تحرك من أجل الحريات والحقوق الأساسية بأنه من صنع العدو الخارجي. إن القوى الإمبرياليّة والاستعماريّة تستغل ضعف الدول الداخلي لاختراقها وتوظيف قوى منها لتسهيل هذا الاختراق. وما من شكّ أن أحد أسباب الاختراقات التي قام بها الكيان وراعيه الإمبريالي هو الأوضاع الداخلية لإيران وما تحقق اليوم من لحمة لا توجد أية ضمانة لاستمراره سوى احترام حرية الشعب الإيراني وحقوقه لأن العدو سيضاعف أعماله التخريبية لإضعاف هذه اللحمة وضربها وتوفير الأرضيّة المناسبة لتكرار عدوانه.

إن أفكارا ومواقف انتهازية ورجعية راجت هذه الأيام لتبرير عدم الوقوف إلى جانب إيران أو حتى لـ”الشماتة” فيها وتبرير الاعتداء عليها.
ومن هذه الأفكار والمواقف أن النظام الإيراني “ديني رجعي يقمع شعبه”. ويستند البعض لهذا الموقف لتبرير حيادهم وفقا للمثل التونسي القائل “فخّار يكسّر بعضو” أو “لا تردّ فاس على هراوة”. لكنهم يتناسون أن هذه “الحجة” واهية لأنّ “رجعية النظام الإيراني” لا تبرر في شيء العدوان على سيادة إيران وتغيير نظامه هذا أولا. وثانيا إنّ أكبر متضرّر من العدوان هو الشعب الإيراني وثرواته وحريته وسيادته ووحدة تراب وطنه. وثالثا فإن المتضرّر الآخر هو الشعب الفلسطيني وغزة بالذات لأن تدمير إيران سيشجّع العدوّ على المضيّ قدما في تنفيذ مشروع التّهجير القسري لأهالي غزة وفقا لمخطّط مجرم البيت الأبيض. وهكذا فإن هذا الموقف المحايد ظاهريّا يخدم العدو الامبريالي الصهيوني.

ومن تلك الأفكار أيضا أن النظام الإيراني له “أطماع توسّعية صفوية وأن امتلاكه السلاح النووي سيقوي سطوته على بلدان المنطقة”. وهذا الموقف لا يقلّ خطورة عن الموقف الأوّل. فهو من ناحية يسقط في نفس ذرائع العدو لتبرير العدوان ويتستر عن الهدف الحقيقي منه. ومن ناحية أخرى فهو يغض النظر عن كون المعتدي المعربد هو من يملك السلاح النووي وراعيه هو من يملك هذا السلاح واستعمله أكثر من مرة في تاريخه (اليابان، أفغانستان…) وبالتالي إذا كان ثمة خطر جدّي وملموس على شعوب المنطقة فهو الامبريالي الأمريكي الغربي والكيان الصهيوني الّلذان يمارسان العدوان بشكل حقيقي وملموس. وفوق ذلك كلّه أليس من الغباء التعويل على المجرم لإنقاذ شعوب المنطقة من سلاح نووي لم تمتلكه بعد إيران أم أنّ المقصود بالضبط هو إيجاد ذريعة للعربدة الصهيو أمريكية. إن الموقف المتماسك من السلاح النووي ينبغي أن يقوم على نزعه من كل القوى التي تملكه في العالم وفي مقدمتها الإمبريالي الأمريكي والكيان الصهيوني المرشّحان أكثر من غيرهم لاستعماله اليوم في عدواناتهم المتكررة في المنطقة وفي غيرها من مناطق العالم.

ومن الأفكار الأخرى أن النظام الإيراني “طائفي” وهو يسعى إلى نشر “التشيّع” في المنطقة على حساب السنّة. وهذا الموقف يسقط في الفخّ الامبريالي الصهيوني الرجعي الذي يريد إثارة النعرات الدينية والمذهبية في المنطقة. إثارة السنة ضد الشيعة. وإثارة السنّة ضدّ بعضهم البعض وهلمّ جرّا والحال أن المسألة سياسية قبل أن تكون دينيّة بل إن الدين ليس في هذا الصراع سوى غلاف أيديولوجي تتخفّى وراءه مختلف القوى الرّجعية. وليس أدلّ على ذلك من أن الأنظمة الإسلامية السنّية هي التي تقف اليوم في مقدمة الأنظمة المطبعة مع الكيان الصهيوني وهي التي تساعده بشكل مباشر أو غير مباشر على إبادة الشعب الفلسطيني كما أنها هي التي تملأ خزائن الإمبريالية الأمريكية بمئات مليارات الدولارات ولم يتوان بعضها على تقديم الدعم للإمبريالي الأمريكي في عدوانه على إيران مثلما دعمه في السابق في حربه ضد العراق أو ضدّ ليبيا . وبالمقابل فإن سنّة غزّة لم يجدوا في مؤازرتهم سوى “شيعة” إيران ولبنان وزيدية اليمن. وهو ما يؤكّد أن المسألة سياسية وأن الزاوية الرئيسية التي ينبغي النظر منها إلى المسألة هي في آخر التحليل الموقف من الإمبريالية الأمريكية وصنيعه الصهيوني. إن أنظمة العمالة العربية هي جزء من هذه المنظومة الإمبريالية الصهيونيّة التي تعمل على القضاء على المقاومة الفلسطينية وعلى كلّ نزعة تحررية في المنطقة حتى لو كانت من منطلق قومي بورجوازي. وبطبيعة الحال فنحن إذ نؤكّد على هذه المسألة فلا يعني أنّنا نبرّئ النظام الإيراني من كلّ طموحات توسعية ممكنة في المنطقة ولكن ذلك شوط آخر لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تحلّه أبشع القوى التوسعية والإجراميّة في المنطقة أي الإمبريالي الأمريكي وصنيعه الصهيوني.

ومن هذا المنطلق فإن الموقف السليم ينبغي أن ينطلق من طبيعة الصراع الملموس القائم اليوم في المنطقة بين قوى الإجرام الإمبريالية الصهيونية التي تشن الحرب تلو الحرب من أجل التوسع والهيمنة من جهة وشعوب المنطقة ودولها التي ترفض هذا التوسّع وتدافع عن سيادتها من جهة ثانية.

ومن المواقف التي راجت في المدة الأخيرة وخفّضت وتيرة حركات التّضامن مع إيران في البلدان الغربية خاصة تأكيد قيادتها على ضرورة إزالة السرطان الصهيوني من المنطقة. وما من شك في أنّ أصحاب هذه المواقف يخشون اتهامهم بمعاداة السامية علاوة كونهم هم أنفسهم من داعمي فكرة “الدولتين”‘. ونحن نعتبر أن “نصف الموقف” هذا مؤسس على خطأ. فنحن أنفسنا كثوريين، يساريين، ماركسيين لينينيين نرفع شعار إزالة الكيان الصهيوني كشرط من شروط تحرر الشعب الفلسطيني أوّلا وإحلال السلام في المنطقة ثانيا. وموقفنا مؤسس على حجة تاريخية، حقيقية لا نزاع فيها بالنسبة إلينا وهي أن الكيان الصهيوني كيان مصطنع زرعه الاستعمار في المنطقة ليكون رأس حربته في الهيمنة عليها. ويكفي العودة إلى تصريحات قادة الدول الإمبريالية والكيان الصهيوني لإدراك ذلك وآخرهم بايدن الذي قال بكل صلف “لو لم تكن هناك “إسرائيل” لكان على أمريكا خلقها لحماية مصالحها”. ويمثل “الإسرائيليون” الحاليون، عدا قلّة منهم من أصول فلسطينيّة، مجموعات من المستوطنين لا غير. ولا يعني إزالة إسرائيل غير تفكيكها ككيان ودولة ومؤسسات وجيش ومستوطنات وإعادة الأرض إلى أصحابها الحقيقيين بمختلف دياناتهم وعقائدهم بينما المستوطنون يعودون إلى بلدانهم الأصلية مثلما عاد مئات الآلاف من المستوطنين الفرنسيين في الجزائر بعد 132 سنة من الاستعمار بل مثلما يعود الآن الآلاف من المستوطنين اليهود إلى بلدانهم بعد أن وقفوا على حقيقة “أرض الميعاد” التي جلبوا إليها. فالمسألة الفلسطينية مسألة شعب افتكت أرضه لتمنحها دول أوروبية عن طريق الأمم المتحدة لغير أهلها في مسعى منهم لحل المسألة اليهودية التي تسببوا فيها على حساب الشعب الفلسطيني أولا ولخلق كيان مصطنع في المنطقة لضمان السيطرة عليها وعلى ثرواتها وتركها تتخبط في حروب ونزاعات مستمرة وعاجزة عن تحقيق ازدهارها ورفاهيتها ثانيا.

إن إيران تمكّنت اليوم من صدّ العدوان عليها. كما أن المقاومة في غزّة ما تزال رغم الجرائم التي لا يتخيّلها عقل واقفة وتلحق بالعدو ضربات موجعة ستضطرّه إلى التراجع. كما أن اليمن ما يزال واقفا إلى جانب الشعب الفلسطيني. ولا نخال “بهتة” باقي شعوب المنطقة إلّا وقتيّة ومن المؤكّد أنها ستنتفض على مستغلّيها ومضطهديها. وعلى القوى الوطنية والثورية واليسارية والتقدمية أن تتحمل مسؤوليتها في استنهاض شعوبها من أجل مواجهة الأعداء الذين إن برهنوا على شيء خلال الـ20 شهرا الأخيرة فإنما على وحشيتهم التي ستؤدّي بهم في النهاية إلى الهزيمة المحتومة. أما أنظمة العمالة والخيانة فإنها ستتهاوى في لحظة من اللحظات كأوراق الخريف إذ يكفي أن يتهاوى رأس الحربة لكي تعرف نفس مصيره. فهي قائمة اليوم بدعم وحماية منه. إنّ أعداء شعوبنا إمبرياليين وصهاينة الذين يستثمرون في الفوضى من أجل إعادة تشكيل المنطقة في إطار سايكس بيكو جديد سترتد عليهم تلك الفوضى خالقة هبّة من تحت، من الشعوب نفسها التي ستجد طريقها إلى التنظّم لتحقيق حلمها في التحرر من كافة أشكال الهيمنة الإمبريالية والرجعية وفي استغلال ثرواتها لبناء مجدها. إن من حسن حظ الشعوب أن قوى الهمجية في مختلف مراحل تطو البشرية لا تتعظ بالتاريخ لذلك فهي تكرّر نفس الأخطاء التي أدّت بها إلى الزوال. ومن المؤكّد أننا بلغنا مرحلة بات فيها من الضروري التخلّص نهائيا من آخر “شرّ” من “شرور” التاريخ ألا وهو النظام الرأسمالي الذي بلغ مرحلة لم يعد له ما يقدّم فيها للإنسانيّة غير الدمار والخراب والبشاعة. وهذه المهمّة ملقاة على عاتق قوى التحرّر والاشتراكيّة لتنعم الشعوب والطبقة العاملة بالانعتاق والتحرر الاقتصادي والاجتماعي والفكري والثقافي وتضع حدّا لكافّة أشكال الاستلاب.

حمة الهمامي – أمين عام حزب العمال التونسي

الأربعاء 02 يوليو / جويلية 2025

* نشر في مجلة الهدف (72) (1546)