لينين أم روزا لوكسمبورغ؟ تساؤل مغلوط، يطرحه الكثيرون بحسن نية أحيانا وبخبث سياسوي
لينين أم روزا لوكسمبورغ؟
العنوان تساؤل مغلوط، يطرحه الكثيرون بحسن نية أحيانا وبخبث سياسوي في أحايين أخرى يعتمد أسلوب المصادرات على المطلوب ولي عنق التاريخ وتشويه الوقائع و الأحداث.
انطلقت روزا وفي مناخ انصرام القرن 19 والبدايات الأولى للقرن العشرين من خلفية ناضجة سياسيا(ذات مشارب تقافية غنية ومتنوعة ( عاشت بين بولندا ، سويسرا ، ألمانيا ، وروسيا.) وراسخة تنظيميا وخاصة في بلد كألمانيا كان قد جرب فيه بسمارك ( على عهد إنجلز ، كاوتسكي برنشتاين (ولبكنخت في شبابه …)كل أنواع التضييق ومحاولات التصفية لقطع الطريق أمام الزخم والهيمنة الذي كانت تمثله الحركة الاشتراكية في ألمانيا آنئذ وعلى رأسها الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني (شيوعي) واكتساحها “للريختساغ”. بيد أن ما ميزها هو تموقعها على النقيض من الاتجاه الاصلاحي الانتهازي السائد بقيادة برنشتاين وشعاره الشهير ” الحركة كل شيء الهدف لا شيء” وهي صيغة تضع كل الآمال والثقة في تغيير تراكمي موضوعي يعتمد العمل البرلماني عموده الفقري ، بطيء ويستغني عن أي مجهود للتعبئة والتحريض في صفوف البروليتاريا التي يمكنها ، من وجهة النظر هذه ، نزع المكتسبات بالعمل المؤسساتي الشرعي وحده وبعقد اتفاقات في صالح العمال مع الحكومة البرجوازية عبر الحوار والسلم الاجتماعي بل ومن خلال التعاون الطبقي..! فيما روزا لوكسمبورغ لم تتخل يوما طيلة العقود الحافلة في مسيرتها النضالية عن مواجهة هذا الخط الاصلاحي في الاشتراكية الديموقراطية الالمانية بزعامة برنشتاين : “إذا كانت تحريفية برنشتاين تقتصر على التأكيد أن مسيرة التطور الرأسمالي أبطأ مما كان يظن سابقا، فإنه بذلك إنما يقول أن من الواجب تأجيل استيلاء البروليتاريا على السلطة، وهذا ما يتفق عليه الجميع حتى الآن. والنتيجة الوحيدة لذلك هو ابطاء خطي النضال فحسب.
لكن الأمر ليس كذلك. فما يضعه برنشتاين موضع تساؤل ليس سرعة تطور المجتمع الرأسمالي، بل مسار هذا التطور ذاته، وبالتالي امكانية التحول إلى الاشتراكية ذاتها.” (١)
لقد دأبت على تحريض العمال ودعوتهم للثورة وتأجيج الصراع الطبقي مع البرجوازية ورفض كل أشكال التعاون معها من طرف قيادات الحزب السياسية والنقابية والذين كانوا في نظرها يفرضون وصايتهم على الطبقة العاملة ويلجمون اندفاعها نحو التحرر والانعتاق عبر تحقيق الاشتراكية كبديل لنظام العبودية الرأسمالي. ما اختلف بين تجربة لينين وروزا هو أن الواقع الألماني الذي شكل وعي الأخيرة يختلف نوعيا وبنيويا عن واقع الثورة الروسية. كما أن فكر وممارسة لينين كانت تنطلق من حساب للتناقضات بين قوى طبقية وتصورات سياسية وتعقيدات اجتماعية لم يكن لألمانيا عهد بها إذ كان على رأس مهام الحركة العمالية بروسيا إنجاز مهمة الثورة الوطنية الديمقراطية بأفق اشتراكي بينما كانت نظيرتها بألمانيا قد أنهت تلك المهمة و تتطلع إلى أبعد من ذلك . وبالنظر إلى ما سبق يمكن للمرء أن يجزم بكون “نقد” روزا للينين كان نقدا رفاقيا بناء ( تناول الكثير من التكتيكات والقرارات ذات الطابع التنظيمي وأحينا ذات طابع نظري استشرافي : دور الحزب في الثورة … الطبقة أم من يمثلها ؟ المركزية الديمقراطية أم ديمقراطية بدون مركزية؟ مفهوم الامبريالية . ماهية التراكم الرأسمالي في الطور الامبريالي . من يقرر الاضراب العام القيادة أم القواعد؟ ) علما أن نقدها كان تراكميا جدليا بحيث تجدها أحيانا تعدل نقدها أو تتراجع عنه بصفة كلية ( لقد كتبت نصا وهي في عزلة بالسجن ما بين 1916 و 1918تنتقد فيه ثورة أكتوبر والأسلوب الذي اعتمده البلاشفة في تسلم مقاليد الحكم باسم الطبقة العاملة غير أنها وبعد خروجها من السجن اكتشفت بنفسها ( في رواية لصديقتها الحميمة ورفيقتها في الحزب والنضال الجماهيري كلارا زيتكن ) ضآلة وشح الأخبار والمعطيات هن مجريات الثورة التي استندت إليها في نقدها فقررت عدم نشر مقالها . بل ساندت الثورة وقيادة البلاشفة لها وحفزت الحركةالعمالية الألمانية على الحذو حذوها) وعدا ذلك فالسائد هو ما دأب عليه الكثيرون من القفز على ما بين هاتين القامتين العماليتين من تناغم وانسجام كبير في تصور ماهية الثورة المنشودة وطبيعة مهامها وأدواتها السياسية والتنظيمية والفكرية( عملت روزا ولبكنخت في آخر حياتهما على تحويل حركة سبارتاكوس إلى حزب شيوعي على الطراز اللينيني ينتمي إلى الأممية الثالثة بزعامة لينين).وكثيرما يتم الخلط بين هذا النوع من النقد أو الحوار النقدي الذي دار بين الاثنين، وبين النقد الجذري و الأبرز والذي يميز روزا لوكسمبورغ ويمنحها مكانتها في التاريخ المجيد للحركة الشيوعية العالمية والمتمثل في معاركها السياسية والنظرية ضد بيرقراطية وانتهازية قيادة الاممية الثانية وفي مقدمتها الألمانية التي لم تشهد إبداع السوفييتات وما ألهمت به التصور اللينيني حول دورها التحرري المحوري واستقلاليتها التنظيمية وانخراطها التام في إنجاز مهام الثورة جنبا إلى جنب مع حلفائها وعلى رأسهم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي حزب الطبقة العاملة بقيادة لينين والبلاشفة . أما الحقيقة التي لا غبار عليها فتتمثل في أن روزا اختارت صف البلاشفة ودافعت عن تجربتهم ومواجهتهم لانتهازية إصلاحية المناشفة.
لقد تنامت حركة الاضرابات في ألمانيا وصارت أقوى حيث استلهمت ثورة 1905 الروسية وفي الوقت الذي كان على قيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني دعم العمال وتوجيههم الوجهة السديدة سياسيا ، عملوا ،عكس ذلك، على بث اليأس والفرملة للدواعي النظرية التحريفية المذكورة أعلاه. وذلك ما دفع روزا لإصدار كتابها” الإضراب الجماهري والحزب السياسي والنقابات العمالية ” 1906 (٢) وهو كتيب صغير الحجم يقع في ثمانية أقسام ؛ القسم 1- وضحت فيه كيف أن جسر الماركسية رسخ أقدامه في روسيا مع النهوض الثوري العارم على قاعدة الإضراب الجماهيري الذي جرف معه ما تبقى من الفوضوية وأحالها إلى جثة هامدة وإلى الأبد … القسم 2- الاضراب الجماهيري نتاج تاريخي وليس نتاجا مصطنعا ، وفي وجود الاهتمام والعطش الفكري للنضال الثوري والرغبة فيه، ليس المطلوب أن يدرب العمال تدريبا عقليا مجردا على إمكانية واستحالة الإضراب الجماهيري. بدلا من ذلك يجب أن يوعوا بشأن تطور الثورة الروسية وأهميتها العالمية وبشأن تفاقم حدة الصراعات الطبقية في أوروبا الغربية وآفاقها السياسية في ألمانيا ودور ومهام الجماهير في النضالات القادمة. وبهذه الطريقة فقط يمكن للمناقشات حول الإضراب الجماهيري أن تؤدي إلى توسيع الأفق الفكري للبروليتاريا وشحذ طريقتها في التفكير وتصليب طاقتها.
3- الملامح السريعة لتاريخ الإضراب العام في روسيا. . بدلا من الهيكل الجامد لعمل سياسي يجري طبقا لقرارات أعلى اللجان وتوضع له خطة وصورة شاملة (في ألمانيا)، تسجل كيف أنه في روسيا لاينفصم عن الإطار العريض للثورة فهو يرتبط بكل أجزاء الثورة بآلاف الشرايين. فالإضراب العام،كما تبينه الثورة الروسية ،ظاهرة شديدة التغير لدرجة تنعكس معها كل أطوار النضال السياسي والاقتصادي وكل مراحل وعوامل الثورة.
4- في تمفصل الاقتصادي والسياسي في بوثقة الاضراب الجماهيري : تعتبر روزا أنه من الخطل اعتبار الإﻀراب الجماهيري عمل واحد معزول. فالإﻀراب العام هو الإشارة والفكرة الحاشدة لفترة كاملة من النضال الطبقي تمتد سنوات وربما عقودا وتنعكس معها كل أطوار النضال السياسي والاقتصادي وكل مراحل وﻋوامل الثورة.
5- الدروس التي ينبغي للاشتراكية الديمقراطية الألمانية أن تستخلصها من الاضراب الجماهيري في روسيا 6- الاضراب الجماهيري ليس رهين بانضمام كل العمال للنقابات ( ولا ينبغي التذرع بالضعف الكمي للبروليتاريا المنظمة في النقابات والواعية لذاتها ) إذ أن تعاون العمال المنظمين وغير المنظمين ضروري للنصر ، كما أن حياة واستمرار النقابات (في ألمانيا) رهين كذلك بنضالها تحت نيران العدو الطبقي الرئيسي في ظروف النهوض الجماهيري الذي يعتبر الاضراب الجماهيري ( كما حدث إبان الثورة الروسية 1905) أحد أبرز صوره نجاعة. 7- الحاجة إلى عمل موحد بين الاشتراكية الديموقراطية والمنظمات النقابية في ألمانيا يتجسد في عملية ضم النضالين البرلماني والنقابي في نضال طبقي واحد يهدف إلى إلغاء النظام الاجتماعي البرجوازي وبناء النظام الاجتماعي الاشتراكي محله . 8 – حيث انتقدت فكرة الإعداد المسبق للسبب واللحظة التي ستندلع فيها الإضرابات الجماهيرية في ألمانيا معتبرة إياها خارج نطاق مهام الاشتراكية الديموقراطية، لأنها لا تملك القدرة على إحداث مواقف تاريخية عن طريق قرارات في مؤتمرات الحزب. ملحة على أن ما يمكنها ويجب أن تفعله هو توضيح الاتجاهات السياسية، عندما تظهر مرة واحدة، وصياغتها على شكل تكتيكات حازمة ومتسقة. لا يمكن للإنسان إبقاء الأحداث التاريخية ساكنة تحت المراقبة في أثناء إعداد الوصفات لها، ولكن يمكنه أن يرى مقدما عواقبها الظاهرية القابلة للحساب وترتيب طريقة عمله وفقا لذلك.وكما أن كل مراتب التقدم وكل مصالح الشرائح المختلفة من الطبقة العاملة في الثورة الروسية تتحد في البرنامج الاشتراكي الديموقراطي للثورة وكما أن النضالات الجزئية التي لا تحصى تتحد في العمل الطبقي العظيم المشترك للبروليتاريا، كذلك فإن هذا سيكون هو الأمر في ألمانيا عندما تنضج الظروف لذلك ،وعندئذ تصبح مهمة الاشتراكية الديموقراطية تنظيم تكتيكات البروليتاريا الطبقية لا لأكثر مراحل التطور تخلفا بل طبقا لأكثرها تقدما.
من هذا العرض المجمل لمضامين هذا الكتيب الهام يظهر كيف أن روزا لم تكن تقف أبدا ضد العمل الحزبي المنظم لهبة الجماهير العفوية ، بل على العكس من ذلك تلح على قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني ( وليس لينين طبعا) على توفير القيادة لمعركة العمال الطبقية النابعة من تفاعلهم الملموس مع الواقع وليس من تخطيط مسبق من عقل خارجي ( حزب أو غيره…) وبالمثل لم يكن لينين يتبرم من استقلالية إطارات الدفاع الذاتي التي أبدعتها الجماهير خارج الأحزاب وتضم [ عمال وفلاحين معدمين وجنود وبعض المثقفين من الطبقة الوسطى ]”السوفييتات” بقدر ما كان يلح على حمايتها بصبر وأناة من اختراقات الأفكار والتصورات التي قد تخترقها من الطبقات الارستقراطية والبرجوازية المعادية لتحرر شعوب روسيا وانعتاقها وتلك كانت مهمة أطر الحزب باعتباره تنظيما ثوريا كفاحيا للفئات المتقدمة من الطبقة العاملة وكوادره من البلاشفة. فما أحوجنا لاسكناه سعة الأفق الثوري لهذين العظيمين لينين وروزا لوكسمبورغ.
١- إصلاح أم ثورة الفصل 2- الطريقة الانتهازية .روزا لوكسومبرغ سنة 1900.دار الطليعة – الطبعة الاولى 1970.
٢- ” الإضراب الجماهري والحزب السياسي والنقابات العمالية ” 1906 دار الطليعة – الطبعة الاولى 1970.
أحمد بنعمر طنجة
23 أكتوبر 2025

