هل أُعدّت السجون في تونس لاستقبال النقابيين؟

هل أُعدّت السجون في تونس لاستقبال النقابيين؟
سالم لبيض
27 غشت/اغسطس 2025
تاريخياً، لم يكن مناضلو الحركة النقابية التونسية إبّان الفترة الاستعمارية ومرحلة دولة ما بعد الاستقلال، البورقيبية والبنعلية، في منأى عن المعتقلات والمحتشدات والسجون والمنافي والتصفية والاغتيالات والتشريد وقطع الأرزاق والمتابعات والمراقبة الأمنية اللصيقة، ولم يتحرّر النقابيون التونسيون من تلك الكوابيس إلا في زمن الثورة التونسية (2011-2021)، ومن ينكر ذاك عليه بدفاتر الحركة النقابية التونسية وسجلّاتها التاريخية.
لا حاجة لاستعراض التاريخ النقابي التونسي، وعرض محتويات المدوّنة والببليوغرافيا النقابية والعمالية التي تعدّ مئات الكتب وعشرات الأطروحات الجامعية وآلاف المقالات في الصحافتين الورقية والإلكترونية والدوريات المحكّمة، وغير المحكّمة، بالعربية والفرنسية والانجليزية وبلغات أخرى، لإبراز ما تعرّضت له الحركات النقابية على مرّ الأجيال، مائة عام أو يزيد (1924-2025) من قمع واضطهاد بشتّى الصنوف والأشكال.
لكن الرأي العام التونسي في حاجة اليوم، في ظلّ تنامي الخطابات الشعبوية والتيارات الإقصائية والنزعة السلطوية التي تستهدف الاتحاد العام التونسي للشغل بالسبّ والشتم والترذيل وتهدّده بالتجميد والحلّ، إلى استذكار بعض التضحيات الجسام التي قدّمها قادة الحركة النقابية التونسية ورموزها.
ومن تلك التضحيات سجن السلطات الاستعمارية الفرنسية محمد علي الحامي مؤسّس جامعة عموم العملة التونسيين سنة 1925 ومحاكمته ونفيه إلى الخارج ومنع تأسيس النقابات الوطنية، واغتيال زعيم الاتحاد العام التونسي للشغل ومؤسّسه فرحات حشّاد سنة 1952، وسجن الأمين العام للاتحاد الحبيب عاشور ومحاكمته وتهديده بالاغتيال بالمسدس نفسه الذي اغتيل به الزعيم صالح بن يوسف، واعتقال ومحاكمة والقتل بدم بارد عشرات النقابيين في أحداث الإضراب العام يوم 26 يناير/ كانون الثاني 1978 من السلطة البورقيبية الحاكمة آنذاك، ومحاولات الهيمنة والتضييق على العمل النقابي والتدخّل في شؤونه الداخلية (إزاحة إسماعيل السحباني من الأمانة العامة ومحاكمته وإيداعه السجن) إبان فترة حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي ومحاكمة وسجن عشرات من نقابيي انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008.
بلغ التوتّر بين سلطة الرئيس التونسي قيْس سعيّد والاتحاد العام التونسي للشغل ذروته، عشية إضراب قطاع النقل البرّي في تونس ثلاثة أيام 30- 31 الشهر الماضي (يوليو/ تموز) و1 أغسطس/ آب الجاري، وهو إضراب لم يعطّل مرفق النقل العمومي في تونس الكبرى وبقية الولايات فقط، وإنما أحدث شللاً في الحياة العامة الاقتصادية وغير الاقتصادية، ذلك أن السواد الأعظم من الموظفين والعمّال يستخدمون وسائل النقل العمومي في تنقلاتهم اليومية والوصول إلى مراكز أعمالهم.
لن يغفر قيس سعيّد للقيادة النقابية بقاءها خارج منظومة 25 جويلية (يوليو/ تموز 2021) رغم تأييدها في البداية الإجراءات الاستثنائية لسنة 2021
وجاءت ردّة الفعل سريعة، عن طريق مجموعات موالية للرئيس قيّس سعيّد، لا صفة نقابية أو حزبية أو جمعوية لها، اقتحمت بطحاء محمد علي الحامي، يوم 7 الجاري، رافعة شعارات يدعو بعضها إلى تطهير الاتحاد، وأخرى إلى تجميده وحلّه نهائياً، ما أعاد إلى الذاكرة اعتداءات المليشيات على المنظمّة النقابية، وهي مليشيات منسوبة إلى محمد الصياح مدير الحزب الاشتراكي الدستوري، زمن حكم الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، واعتداءات 4 ديسمبر (2012) على يد روابط حماية الثورة المحسوبة على الإسلاميين.
الرئيس قيْس سعيّد، الذي شبّه ما يقوم به الاتحاد بالكرنفال، تيمّناً بالمصطلح الذي استعمله محمد قلبي، الصحافي في صحيفة الشعب (لسان حال الاتحاد) سنة 1978 عنواناً لمقال يصف فيه الإجراءات التعسّفية لسلطة الرئيس بورقيبة آنذاك ضد الاتحاد، وأدّت إلى الإضراب العام يوم 26 يناير/ كانون الثاني من السنة نفسها، ووُصف بالخميس الأسود، سارع أثناء اجتماعه برئيسة حكومته سارة الزعفراني يوم 9 أغسطس/ آب الجاري إلى رفض تشبيه ما حدث باعتداءات 2012، لكنه لم ينف تأييده لها قائلاً “من تابع احتجاجات أمس يعلم كيف أن قوات الأمن قامت بحماية مقرّ الاتحاد العام التونسي للشغل، ومنعت أي التحام، ولم تكن في نية المحتجين الاعتداء والاقتحام كما تروّج ذلك ألسنة السوء، ومع ذلك هناك صباح هذا اليوم من يريد تشبيه ما حصل يوم أمس بما حصل سنة 2012، وبمن ألقى الفضلات في تلك الفترة، وبمن ضرب عدداً من النقابيين”.
وفي الخطاب نفسه، المنشور في صفحة الرئاسة التونسية في “فيسبوك”، لوّح سعيّد بأن لديه سلاح سحب الاقتطاع المالي الآلي من أجور العمال والموظّفين لفائدة الاتحاد العام التونسي للشغل، عندما قال “إن الزعيم النقابي محمد علي الحامي كان يعقد اجتماعاته بنهج الجزيرة ونهج الكمسيون ولم تكن يومئذ هناك اقتطاعات، في ذلك الوقت، كان هناك عمل نقابي وعمل وطني، ولم تكن الاجتماعات تعقد في النزل ذات الأربعة أو الخمسة نجوم”.
سلطة الرئيس سعيّد، وفي ظل صعوبات المالية العمومية، باتت غير قادرة على الاستجابة للمطالب المادية المالية والعينية التي تسعى إليها
لدى سعيّد سلاح آخر هدّد باستعماله في معركته مع الاتحاد العام التونسي للشغل، هو سلاح المحاسبة، متهماً خصومه بـ”معاول الفاسدين والمفسدين”، قائلاً “هناك ملفات لا بدّ أن تفتح، لأن الشعب يطالب بالمحاسبة، ومن حقّه أن يطالب بالمحاسبة، المحاسبة العادلة، لأن هذا هو حقّه المشروع، حتى تعود إليه أمواله، كل أمواله، والعمل جارٍ من أجل حلّ وطني لكلّ القطاعات، من أجل بناء جديد، ومن أجل تشييد صرح لن يتهاوى، ولن تطاله معاول الفاسدين والمفسدين، زعماء كثر نقابيون آثروا على أنفسهم كلّ شيء”.
لم يكتف الاتحاد العام التونسي للشغل بعقد هيئة إدارية وطنية وتنظيم ندوة صحافية، رُفعت خلالها شعارات مناوئة للرئيس قيْس سعيّد، واتهام نظامه بحراسة السواحل الإيطالية، وإنما ردّ أمينه العام نور الدين الطبوبي التحدّي على رئيس الجمهورية التونسية بالقول “من يمتلك ملفات فساد متعلّقة بالنقابيين عليه أن يتقدّم بها إلى الجهات القضائية”. في الإبان، وفي وقتٍ كانت تنعقد الهيئة الإدارية للمنظمة النقابية، أصدرت رئيسة الحكومة سارة الزعفراني منشوراً موجّهاً إلى الوزراء و”كتّاب الدولة” مؤرّخاً في 11/8/2025 فحواه أنّ كلّ التراخيص المتعلّقة بالتفرّغ النقابي، وجرى إسنادها سابقاً ملغاة، ابتداء من تاريخ صدور المنشور، وعلى جميع الوزراء و”كُتّاب الدولة” في حكومتها ضبط قائمات الأعوان الموضوعين على ذمة المنظمات النقابية، ودعوتهم إلى الالتحاق فوراً بمراكز عملهم الأصلية، واتخاذ الإجراءات الإدارية والقانونية اللازمة في صورة عدم احترام الأعوان المعنيين أحكام المنشور.
اعتبرت الجهات النقابية منشور رئيسة الحكومة مضللاً، فالمرأة التي تتولى رئاسة الحكومة منذ قرابة ستة أشهر، وتولت خطة وزيرة التجهيز في حكومات سعيّد منذ 25 يوليو/ تموز 2021، ولم يصدر عنها موقف أو يسمع لها رأي، ولا يعرف التونسيون نبرة صوتها، تفتح باباً مفتوحاً، ذلك أن التفرّغ النقابي قد جرى إنهاء العمل به منذ سنة 2022، ولم يكن يقتصر على نقابيي الاتحاد العام التونسي للشغل، وإنما كان منظماً بما جاء في مجلّة الشغل ويشمل كل المنتمين إلى المنظمات الوطنية، وفق ما نصّ عليه المنشور الصادر عن الوزارة الأولى في 8 ديسمبر/ كانون الأول 1994.
تمكّن الاتحاد العام التونسي للشغل من حفظ مكانته وصيانة شرفه، مكذّباً ما يروّج عن نهاية المنظمة النقابية وموتها سريرياً
ولا يخلو المنشور كذلك من طابع استفزازي، أرادت من خلاله رئيسة الحكومة ومن ورائها الرئيس قيْس سعيد، المسؤول الوحيد، وفق دستوره لسنة 2022، عن رسم سياسات الدولة وخياراتها، مزيداً من التضييق على العمل النقابي، وبثّ شعور الرهبة والخوف في صفوف النقابيين، وشلّ فعلهم النقابي قدر الإمكان، في ظلّ حملة واسعة في مواقع التواصل الاجتماعي متعدّدة الأطراف تستهدف الاتحاد العام التونسي للشغل، بعضها على علاقة بصراعات داخلية ونزاعات حول المواقع القيادية والتزام الديمقراطية النقابية (المعارضة النقابية والنقابيون المجمّدون)، وبعض آخر يحمّل الاتحاد مسؤولية فشل تجربة الانتقال الديمقراطي (الإسلاميون)، ويرى الطرف الثالث في الاتحاد العام التونسي للشغل حاجزاً أمام مواصلة سعيّد مشروعه السياسي (أبناء المسار والمجالس المحلية ومجموعات يسارية ماركسية وأخرى قومية عربية وثالثة دستورية).
وإضافة إلى كلّ ما سبق ذكره، لن يغفر سعيّد للقيادة النقابية بقاءها خارج منظومة 25 جويلية (يوليو/ تموز 2021) رغم تأييدها في البداية الإجراءات الاستثنائية لسنة 2021، وذلك لعدم الانخراط في الاستفتاء على دستور 25 جويلية (2022)، واعتباره دستوراً فردياً كتبه شخص واحد على مقاسه، ووفق رغباته وميوله الذاتية، والتشكيك في المؤسّسات المنبثقة عن ذلك الدستور وعدم التعامل معها، وخصوصاً مجلس نواب الشعب ونظيره المجلس الوطني للجهات والأقاليم، بسبب ضعف المشاركة الانتخابية التي لم تتجاوز 10% من الجسم الانتخابي التونسي، ورفض الاتحاد المرسوم 54 المكبّل للحريات العامة والفردية، وتنديده بالهيمنة على القضاء من السلطة التنفيذية، واستخدامه في تصفية المعارضات السياسية والمدنية، وإسكات الأصوات الإعلامية التي بقيت خارج بيت الطاعة السعيديّة
تمكّن الاتحاد العام التونسي للشغل من حفظ مكانته وصيانة شرفه، مكذّباً ما يروّج عن نهاية المنظمة النقابية وموتها سريرياً، وعجزها عن القيام بوظائفها النقابية وغير النقابية، وذلك بتنظيمه تجمّعاً، تلته مسيرة عمّالية في شارع الحبيب بورقيبة وأمام المسرح البلدي، تضمنت رفع شعارات نقابية وأخرى سياسية مناوئة للرئيس سعيّد وسلطته وحكومته ومدافعة عن الاتحاد وتاريخه النضالي.
زجّ النقابيين في السجن، إذا وقع، تعبير عن وصول الرئيس قيّس سعيّد إلى مرحلة الكي للقضاء على كل من يفسد عليه ممارسة سلطته المطلقة
كانت تلك المسيرة أكبر شعبية مما كان ينتظره الرئيس وأنصاره، وأعادت إلى المنظمة النقابية بعض بريقها وثقتها بنفسها، والاستعداد لخوض جولة نضالية جديدة ضدّ سلطة أوقفت التفاوض والحوار الاجتماعي مع الطرف النقابي، وتسعى إلى ترويضه وإدخاله بيت الطاعة، وإلا فإن سيناريو 1978 ونظيره لسنة 1985 لا يزالان قابلين للاستنساخ، نظراً إلى تشابه التهم (المتطرفون والمخرّبون حسب وصف الرئيس بورقيبة آنذاك والفاسدون والمفسدون وفق وصف الرئيس سعيّد حالياً)، والمناخات (حركة إضرابية واسعة في مختلف القطاعات، بدأت بقطاع الفلاحة آنذاك، وانطلقت من قطاع النقل حالياً)، ومن ثمّة فإن إعداد السجون هو أحد الخيارات الممكنة، لاستقبال النقابيين، كما أُعدّت لأسلافهم سابقاً، وأودع بها منذ أشهر قادة أحزاب سياسية وإعلاميون، ونشطاء المجتمع المدني، ممن اعتبروا ما حدث سنة 2021 انقلاباً مكتمل الأركان، وشرعوا في مقاومته بالطرق السلمية.
زجّ النقابيين في السجن، إذا وقع، تعبير عن وصول الرئيس قيّس سعيّد إلى مرحلة الكي للقضاء على كل من يفسد عليه ممارسة سلطته المطلقة، ويسعى لمشاركته فيها جزئياً أو كلياً، أو يمارس رقابته عليها، فسلطة الرئيس سعيّد، وفي ظل صعوبات المالية العمومية، باتت غير قادرة على الاستجابة للمطالب المادية المالية والعينية التي تسعى إليها، في ظلّ الارتفاع المشطّ للأسعار، بأغلب قطاعات الوظيفة العمومية والقطاعين العام والخاص، المنضوية تحت راية الاتحاد العام التونسي للشغل، ما أدّى إلى تنامي الإضرابات والأفعال الاحتجاجية، فليس أمام تلك السلطة سوى القمع وإعداد الملفات وتنظيم المحاكمات. وبالنسبة للقيادات النقابية مركزياً وقطاعياً، فهي مطالبة بالاستجابة للحركات الإضرابية المتنامية، وإلا فستوصف بالعجز عن تحقيق المكاسب لمنخرطيها والخنوع للسلطة الحاكمة، الأمر الذي يفقدها مصداقيتها وينهكها ويضعفها، بعد أن يتحول الفضاء العام النقابي برمّته إلى ساحة للاتهامات المتبادلة والصراعات الداخلية، هذا إذا لم تصدر السلطة التنفيذية قراراً بتجميد الاتحاد العام التونسي للشغل وغلق مقراته بتعلّة كون ذلك مطلباً شعبياً، كما فعلت مع برلمان 2019 والحكومة المنبثقة عنه، ومع المجلس الأعلى للقضاء، وهيئة مكافحة الفساد، وأخيراً هيئة النفاذ للمعلومة.