التعتيم الإعلامي الوجه الآخر لغياب العدالة

التعتيم الإعلامي الوجه الآخر لغياب العدالة




التعتيم الإعلامي الوجه الآخر لغياب العدالة.

بقلم/ آمنة الدبش
صحفية _ قطاع غزة




في زمنٍ أصبح فيه الإعلام أداةً حاسمة في تشكيل الرأي العام بات التعتيم الإعلامي سلاحاً استراتيجياً يُستخدم لكسر الرواية الفلسطينية وتشويه الواقع لحجب الحقيقة وإعادة صياغتها بما يخدم رواية المحتل كأنها صراع بين طرفين متكافئين في تجاهل متعمد لسياق الاحتلال بإبادة وتجويع وتهجير وحصار الشعب الفلسطيني ، هكذا تطمس الحقائق ويُكسر الصوت الفلسطيني وتُشوّه عدالة قضيته ويُعاد تشكيل وعي العالم بعيداً عن جذور المأساة ، تعتيماً إعلامياً مدروساً تُحمل الضحية ذنب بقائها، بينما تُمنح أدوات القوة غطاءً أخلاقياً زائفاً.

▪︎ الحقيقة لا تموت

في وطنٍ مثقلٍ بالحرب والدمار يقف الصحفي الفلسطيني شاهداً حياً يحمل الكاميرا بدل السلاح والصوت بدل الرصاصة والموقف بدل الحياد فحين ينقطع البث وتُقصف الأبراج الإعلامية يعتقد المحتل أنه أنهى القصة وأسكت الشهود ، لكنه لا يعرف أن الحقيقة لا تُبث فقط من المقرات بل من بين الأنقاض تحت نيران القصف ومن هواتف المارة ومن شهقات الأمهات وهي تودّع أبناءها الى آنين طفلة تحتضن دميتها من تحت الركام في لحظة تحولت اللعبة الى شاهداً على حكاية وطن ومن صرخة ممرضة ترفع رضيعاً غطّاه الغبار والدم تبحث عن مكان ودواء لإنقاذه لا تجد، فلا أمل إلا في الصورة التي قد توقظ ضميراً غافلاً، فكل صورة هي وثيقة وكل مشهد هو شهادة تلك المشاهد والمقاطع والصور عين الحقيقة في وجه التعتيم الإعلامي وأن الاحتلال لا يمكن أن يكون يوماً شرعياً أو مقبولاً فالمشهد الفلسطيني سيُروى بصوت أبنائه لا بعدسات المحتل.

▪︎ منع الرواية

أن تكون صحفياً فلسطينياً يعني أن تحمل الكاميرا كما يحمل المقاوم بندقيته وأن تكون مستهدفاً كونك توثق الحقيقة في زمن أصبحت فيه الحقيقة عدوةً للاحتلال، فمنذ عقود يُمارس بحق الصحفيين الفلسطينيين تعتيم إعلامي ممنهج يجعل من الحقيقة حملاً ثقيلاً لا يتجاوز مجرد التقييد أوالمنع بل يصل إلى الاستهداف المباشر والاعتقال والتشويه المتعمد

في حرب الإبادة الجماعية على غزة لم تكن الكاميرا مجرد أداة توثيق بل تحولت إلى سلاح يخشاه الاحتلال أكثر من الكلمات فهي توثق الجريمة والمجازر وتحفظ تفاصيلها، وتُرعب العالم بصورتها ولهذا أصبحت العدسة هدفاً عسكرياً فقد استشهد المئات من الصحفيين منذ بداية العدوان بعضهم أثناء تغطيتهم المباشرة وآخرون استُهدفوا في منازلهم أو مكاتبهم أو حتى في سياراتهم، بذلك تحول الصحفي الفلسطيني من شهيد الى شاهد، صورته تصبح رمزاً وصوته الأخير في بث مباشر يُخلد وعدسته التي التقطت آخر مشهد تُصبح شهادة دامغة في وجه العالم الصامت.

▪︎ تعتيم خارجي وقيود داخلية

لا يمكن تجاهل أن بعض مؤسسات الإعلام المحلي تعاني من مشاكل تتعلق بالرقابة الذاتية وغياب الدعم والانقسام السياسي فبعض القضايا خصوصاً تلك المتعلقة بالحريات أو بالفساد أو بالأداء السياسي قد تُمارس عليها رقابة داخلية تُسهم في تعتيم داخلي لا يقل ضرراً عن التعتيم الخارجي.
فبالتالي يجد الصحفي الفلسطيني نفسه بين نيران متعددة الاحتلال والانقسام وضغوط المؤسسات في معركة شرسة يحاول فيها الحفاظ على المهنية والحق في نقل الحقيقة هذا التعتيم لا يستهدف فقط حرية الصحافة بل هو جزء من مشروع أوسع هدفه طمس الرواية الفلسطينية وتزييف الوعي العالمي.

▪︎ مصطلحات الإعلام الغربي

حين تُغيب الحقيقة ويصبح المظلوم متهماً والمحتل ضحية هنا تكمن الخطورة فالإعلام الغربي يتعامل مع القضية الفلسطينية بمنهج لا يخلو من الانحياز الواضح والمصطلحات المضلّلة متجاهلاً السياق التاريخي والسياسي يُقال “اشتباكات” بدلاً من “اعتداءات” ومحولاً العدوان إلى “دفاع عن النفس” وتوصف المقاومة بـ “الإرهاب”، و “مقتل” بدلاً من “استشهاد”.

هذه المصطلحات ليست مجرد كلمات في القاموس الإعلامي السائد بل أدوات سياسية تُصاغ بعناية وتُروّج في الخطابات السياسية والأخبار العاجلة والتقارير الدولية، ومع مرور الوقت تتحول الرواية الإسرائيلية شيئًا فشيئاً إلى ما يشبه “الحقيقة الرسمية”، بينما يتم تهميش الرواية الفلسطينية ليس فقط في الإعلام بل في المؤتمرات والحوارات الدولية وفي منصات صنع القرار.

▪︎ كسر حاجز الصمت

رغم كل هذا التعتيم الإعلامي بدأ جدار الصمت يتصدع فقد فتحت وسائل التواصل الاجتماعي مساحة جديدة للرواية الفلسطينية وبدأت الصور الخارجة من غزة تشكل كابوساً لحكومات تدعي الديمقراطية بينما تدعم الاحتلال وتحرج الإعلام الغربي المتجاهل وتجبره أحياناً على التراجع أو التوضيح فكل صوت يرتفع لفلسطين هو طعنة في جسد التعتيم.

وفي ظل التحيز الصارخ الذي يطغى على ساحة الإعلام الدولي برزت أصوات الصحفيين الفلسطينيين كـمرآةٍ نزيهة للحقيقة المجروحة بكاميرات بسيطة وإمكانيات متواضعة وبشجاعة تتجاوز حدود الواجب المهني نقلوا مشاهد الألم وصوروا التفاصيل التي يحاول العالم تجاهلها، ومن خلال حضورهم القوي على الأرض والمنصات الرقمية اصبحوا مصدراً موثوقاً لملايين المتابعين حول العالم ليعيدوا التوازن المختل في ساحة الإعلام الدولي.

▪︎ مقص الرقابة الرقمية

في السنوات الأخيرة خصوصاً خلال التصعيدات العسكرية على قطاع غزة واجه الفلسطينيون شكلاً جديداً من أشكال التعتيم كتم الصوت الرقمي عبر تقييد حساباتهم وحذف منشوراتهم وتقليص وصول رسائلهم إلى العالم بالعديد من المنصات العالمية كـ”فيسبوك”، “إنستغرام”، “يوتيوب”، و”تيك توك”، باتت تمارس رقابة صارخة على المحتوى الفلسطيني وذلك من خلال حذف الصور والفيديوهات التي توثق جرائم الاحتلال تحت ذرائع واهية مثل “التحريض” أو “العنف”.

وتقييد الوصول والتفاعل بإغلاق الحسابات أو تعطيلها مؤقتاً خاصة للصحفيين والنشطاء والمراكز الحقوقية، وتمييز الخوارزميات ضد كلمات ومصطلحات مثل “غزة”، “الاحتلال”، “النكبة”، “المقاومة”.

لكن كما لم تنجح آلة القمع في إسكات صوت الحجر لن تنجح خوارزميات الذكاء الاصطناعي في إخماد الوعي الرقمي الفلسطيني فكل مرة يحذف فيها منشور يكتب عشرات غيره وكل حساب يُغلق، يُفتح بديل عنه.

والجيل الجديد من الفلسطينيين المسلح بالهواتف والتطبيقات بات أكثر وعياً بخوارزميات التعتيم وأقدر على إيصال الصورة رغم الرقابة.

▪︎ احتلال الشاشات

في وقت يُذبح فيه الشعب الفلسطيني على مرأى العالم لم تعد الحرب مقتصرة على الصواريخ والبنادق بل امتدت إلى الشاشات والمنصات الإعلامية ، حيث يُفترض أن تنحاز الكلمة للحق اختارت بعض القنوات والمنابر العربية الاصطفاف مع الرواية الإسرائيلية هذه القنوات لم تعد فقط صدى للإعلام الغربي والعبري بل تحولت إلى أدوات تساهم في شرعنة الرواية الصهيونية تنشر روايته بلغتنا وتُعيد صياغة الوعي العربي بما يخدم مخططاته وأهدافه.

هذا الانحياز الإعلامي لا يأتي من فراغ بل يعكس مصالح سياسية واقتصادية بين حكومات تلك الدول وإسرائيل وضغوط لوبيات إعلامية مؤيدة للرواية الإسرائيلية وضعف حضور المؤسسات الفلسطينية في الساحة الإعلامية العالمية لكن في المقابل برز إعلاميون مستقلون وصحفيون فلسطينيون كسروا هذا التحيز ونقلوا الحقيقة من قلب الحدث إلى شاشات العالم متحدين التعتيم والكذب.

▪︎ اختراق التعتيم الإعلامي

في زمنٍ باتت فيه الكلمة تحاسب والصورة تُحارب يصبح الإعلام ساحة معركة لا تقل خطورة عن ميادين القتال فمنذ النكبة وحتى اليوم وضعت الرواية الفلسطينية تحت مجهر التشكيك والتهميش والتعتيم المتعمّد كان المطلوب أن تمحى الحكاية الأصلية وتُستبدل برواية المنتصر التي تُجمّل الاحتلال وتُشوّه المقاومة.

لكن ما لم يكن في حسبان صناع التزييف هو أن الفلسطيني إخترق جدار الصمت وشرعنة الإحتلال واثبت أن الحقيقة وإن تأخرت ستصل وأن التعتيم الإعلامي أن طال سيسقط وقرر أن يكون راوياً لا مفعولاً به وأن المعركة على الأرض لا تنفصل عن المعركة على الكلمة وأن العدسة قد تُصبح سلاحاً أشد تأثيراً من الرصاص.