التهجير القسري للسكان .. الهدف المخفي للعدوان على غزه
يدرك “القادة الاسرائيليون” طبيعة وابعاد الصراع مع الشعب الفلسطيني وتعقيداته، وهو صراع لم تتمكن اسرائيل، التي حظيت بدعم عسكري ومالي وغطاء سياسي وقانوني وفرته لها الدول الاستعمارية من حسمه خلال نحو 75 عاما، رغم كل ما ارتكبته من جرائم ومجازر وحروب ابادة وتجويع ضد الشعب الفلسطيني، كان لقطاع غزه النصيب الأوفر منها.
ولم يكن امام “اسرائيل” في تعاطيها مع القطاع سوى احدى وسيلتين او الاثنتين معا: فإما التهجير الجماعي وإما القتل. وفكرة تهجير سكان القطاع ليست بجديدة، وفي كل مرة تتسرب وثائق تؤكد ان هذا المخطط مطروح على اجندة الاحتلال وداعميه منذ عقود، وكان المشروع الاكثر جدية هو الترحيل باتجاه الاراضي المصرية والدول الاوروبية.. وتحقيقا لهذه الغاية، وفي اقل من عقدين (أي منذ الحصار عام 2006 وحتى عام 2023)، شنت “اسرائيل” على قطاع غزه (12) حربا منها (5) حروب تدميرية.. والهدف واحد: الخلاص من الازعاج الامني الذي يشكله قطاع غزه وفرض التهجير الجماعي على سكانه..
اليوم وبعد اكثر من شهرين على العدوان الصهيوني على قطاع غزه، باتت اهدف العدو الاسرائيلي واضحة، وتتلخص في اهداف ثلاثة: اثنان معلنان وثالث مستتر: الهدفان المعلنان هما القضاء على البنى التحتية للمقاومة، والسعي لفرض نظام امني جديد في القطاع. اما الهدف الثالث والمستتر فهو التهجير الجماعي للسكان، ليس فقط من غزه بل ومن الضفة الغربية.
في الخلفية التاريخية:
بعيدا عن القانون الدولي بكافة انواعه وتوصيفه لما يحصل في قطاع غزه من جرائم صهيونية وعمليات قتل ضد الشعب الفلسطيني تجاوزت (16 الف) شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى، والاستهداف المتعمد للمنشآت المدنية من منازل ومستشفيات ومراكز صحية ومقار صحفية وإعلامية ومراكز تأوي نازحين، بعيدا عن كل هذا، فالتهجير القسري للسكان يعتبر احدى اهم المرتكزات التي استند عليها المشروع الصهيوني منذ بدء تطبيقاته الميدانية في فلسطين. حيث اعتمدت المجموعات الصهيونية المسلحة عشية النكبة عام 1948 سياسة الطرد والارهاب المنظم في استهداف المدنيين وتدمير القرى الفلسطينية واحدة تلو الاخرى، اضافة الى اثارة مخاوف السكان عبر مكبرات الصوت وغيرها من وسائل الترهيب النفسي لاجبارهم على الرحيل. وكان من نتيجة المجازر التي ارتكبت بحق السكان تهجير نحو 800 الف فلسطيني باتجاه الدول المحيطة بفلسطين، والذين اصبحوا فيما بعد لاجئين يتجاوز عددهم اليوم (6) ستة ملايين نسمة.
هذه الممارسات دعمتها واحتضنتها مواقف مسؤولين اسرائيليين في المراحل الاولى التي سبقت النكبة. فقد قال احد مؤسسي دولة الاحتلال الاسرائيلي عام 1937 (ديفيد بن غوريون) في شرحه للضرورة التي تمثلها عملية طرد الفلسطينيين من ارضهم واهمية التوسع بها كحاجة للمشروع الصهيوني: “مع الترحيل القسري ستكون لدينا مساحات شاسعة للاستيطان…أنا أؤيد الترحيل القسري. لست أرى فيه ما هو غير أخلاقي”.
بعد ان تم ارتكاب عشرات المجازر، عمل الاحتلال وبدعم مباشر من الدول الغربية الاستعمارية على محو آثار الجرائم التي ارتكبت وما سببته من عمليات تهجير قسري وتطهير عرقي بحق الشعب الفلسطيني، وهذا ما اكده الوسيط الدولي الكونت برنادوت في احد تقاريره، وبسببه تم اغتياله من قبل العصابات الصهيونية. ويعكف مؤرخو العدو راهنا على محاولة تقديم روايات جديدة بدعم مباشر من مؤسسات الكيان الاسرائيلي بمختلف مستوياتها التشريعية والقضائية والتنفيذية من اجل انكار الرواية الفلسطينية وطمسها وتكريس الرواية الصهيونية كحقيقة وحيدة.
التهجير من الضفة الغربية:
منذ اليوم الأول لاحتلال الضفة الغربية عام 1967، عملت اسرائيل على تهيئة الارضية المناسبة للسيطرة بشكل “قانوني” على مساحات واسعة من الارض، سواء عبر وضع اليد عليها لاغراض عسكرية او مصادرتها لاهداف الاستيطان. ولا نبالغ حين نقول ان الاستيطان في الضفة بات خطرا حقيقيا يهدد ليس فقط الدولة الفلسطينية ويقضي على اي امكانية لقيامها في المستقبل، بل ويهدد الوجود الفلسطيني برمته.. وهذا ما شكل احدى اسباب العملية العسكرية في 7 تشرين الاول الماضي، بعد ان تيقن الشعب الفلسطيني ومقاومته ان مواقف الاحتجاج والإدانة العربية والدولية ليست جدية ولن تخرج عن إطار التوصيف العام لمخاطر السياسات الاسرائيلية في فلسطين، بعد ان حققت محاولات تصفية القضية الفلسطينية اختراقات هامة وعلى اكثر من مستوى.
لقد اعتمد المشروع الصهيوني سياسة الربط المحكم ما بين الاستيطان وسرقة الأرض وتهجير أصحابها، وتكرست معادلة تقول: لا يمكن لأي عملية استيطانية ان تأخذ مداها الفعلي الا اذا رافقتها عمليات تهجير قسري واسعة على يد الجيش الإسرائيلي باعتباره يشكل الى جانب الاستيطان احد أذرع “الدولة اليهودية”. وفي نظرة عامة على واقع الاستيطان، يتبين انه سياسة ممنهجة اعتمدت من قبل المؤسسات الرسمية الصهيونية لخلق وقائع مادية على الارض لا يمكن تجاوز نتائجها في اي عملية تفاوضية مستقبلية. إذ ارتفع عدد المستوطنين في الضفة من حوالي 4 آلاف مستوطن عام 1977، إلى ما يزيد عن 800 ألف مستوطن يهودي حاليا، موزعين بين الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة. ويقيم هذا العدد في 131 مستوطنة منتشرة في طول الضفة وعرضها، إضافة إلى 10 مستوطنات في القدس الشرقية و115 بؤرة استيطانية.
وراهنا تعبر الحكومة الاسرائيلية عن مواقفها على لسان اكثر من مسؤول، بأن سياستها تجاه الضفة الغربية وسكانها ستعتمد على اربعة مرتكزات:
الأول ضم القسم الاكبر من الارض الى “دولة اسرائيل” خاصة المناطق “ج” وهي المنطقة التي لا زالت تخضع للسيطرة الاسرائيلية الكاملة.
الثاني الاعتقالات التعسفية لأسباب قد تكون مجرد شبهة او تتعلق بمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي او حمل العلم الفلسطيني او الاحتفال بعملية وغير ذلك من اشكال التعبير السلمي عن رفض الاحتلال..
الثالث القتل المباشر لكل من يعارض السياسات الاسرائيلية او يتعرض لجنود الاحتلال او للمستوطنين، والنموذج المباشر لهذه السياسة هي الاقتحامات المتواصلة للمدن والمخيمات والقرى الفلسطينية، بكل ما يرافقها من ارتكاب للمجازر وتدمير للاحياء السكنية..
والشكل الرابع هو التهجير العلني، وقد شهت الضفة مؤخرا توزيع منشورات من قبل المستوطنين تدعو الفلسطينيين الى ترك الضفة باتجاه الأردن، ترافقت مع تصريحات لبعض المسؤولين الاسرائيليين، الامر الذي دفع بالمملكة الاردنية الى رفض مخطط التهجير واعتبار ذلك اعلان حرب على المملكة.
وتنتهج اسرائيل سياسة واضحة لجهة السيطرة على الارض من خلال عدة اشكال منها:
– نقل السكان بشكل قسري واجبارهم على ترك منازلهم، اما بقرارات ادارية او حالات عقابية للسكان او لاعتبارات عسكرية..
– هدم المنازل: هدمت اسرائيل عام 2022، وفقا لمعطيات الامم المتحدة 708 منازل خاصة بفلسطينيين، وخلال النصف الاول من عام 2023 فقط هدمت القوات الاسرائيلية 256 منزلا..
هذا اضافة الى اشكال اخرى منها مصادرة الاراضي لأسباب غالبا ما تكون مجهولة، والحرمان من حقوق الاقامة ثم السيطرة على الارض، وهذا يحصل في مدينة القدس، او السيطرة المباشرة عليها من قبل المستوطنين بقوة السلاح وعدم تدخل جيش الاحتلال الذي عادة ما يوفر الحماية للمستوطنين المدججين بالسلاح، حيث اشارت المعطيات الصهيونية عام 2022 بأن هناك 200 الف قطعة سلاح بيد المستوطنين، ومؤخرا قام احد اركان الحكومة الاسرائيلية (ايتمار بن غفير) بتوزيع عشرات الآلاف من القطع الحربية على المستوطنين، اي ان بيد كل اربعة مستوطنين اليوم قطعة سلاح..
التهجير القسري من قطاع غزه:
تعرض قطاع غزه منذ العام 2006 لحصار اسرائيلي بحري وبري، منعت فيه اسرائيل دخول الكثير من المواد والمستلزمات الحياتية. وقد وصف هذا الحصار من قبل الامم المتحدة بأنه “أحد مظاهر العقاب الجماعي” المحظور بموجب القانون الدولي الانساني والعديد من الاتفاقيات الدولية.
ومع بدء العدوان الاسرائيلي على القطاع، بدأ يتضح ان التهجير القسري والجماعي للسكان باتجاه سيناء المصرية هو احد اهداف اسرائيل، لكن ونظرا للمواقف الدولية الرافضة لهذا المخطط، خاصة المصرية، بدأت اللهجة الاسرائيلية تتغير، لكن دون ان يعني ذلك ان المشروع قد انتهى، بل ان كل تفصيل من تفاصيل العدوان يؤكد بأن مشروع التهجير الجماعي لا زال يتصدر اهتمامات الحكومة الإسرائيلية. وقد اكدت الامم المتحدة على لسان المتحدث باسم الأمين العام ستيفان دوجاريك بأن “الأمم المتّحدة في غزة تبلغت من الجيش الإسرائيلي بأنه يجب نقل جميع سكّان شمال وادي غزة إلى الجنوب في غضون 24 ساعة”.
ورغم ان الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والدول العربية اعلنوا رفضهم لمخططات التهجير القسري، غير انها مجرد مواقف لا يمكن الوثوق بها. لأن اسرائيل تواصل استراتيجيتها في التعاطي مع هذا المخطط والسعي لفرضه بقوة النار. ويبدو واضحا ان هناك ما يشبه توزيع الادوار بين اسرائيل والولايات المتحدة، إذ لا يمكن التوفيق بين رفض مشاريع التهجير القسري والجماعي للسكان وبين التغطية التي توفرها الدول الغربية لإسرائيل لمواصلة عدوانها تحت شعارات مضللة عنوانها “الدفاع عن النفس”. لأن الجميع بات يعلم ان إسرائيل تمارس بشكل واقعي سياسة التهجير الجماعي من شمال قطاع غزه باتجاه وسط القطاع وجنوبه كمرحلة اولى ومن ثم التهجير باتجاه مصر وربما ابعد من ذلك في مرحلة ثانية.
من الناحية العملية، فان الولايات المتحدة الامريكية لا ترفض تهجير الفلسطينيين خارج قطاع غزه، ومواقفها وسياساتها اليومة تؤكد انها تتبنى هذا المخطط. وبعيدا عن مواقف البعض من اعضاء الكونغرس الذين يدعون صراحة الى تهجير اللاجئين من غزه باتجاه دول عدة، فقد تسربت وثيقة مرسلة مؤخرا من الادارة الامريكية الى الكونغرس تطلب فيها فتح اعتمادات بقيمة 106 مليارات دولار، منها نحو 4 مليارات مخصصة “لدعم اللاجئين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، وكذلك للتعامل مع الاحتياجات المحتملة لأهل غزة الذين سيفرون إلى بلدان مجاورة… فالازمة في غزه قد تؤدي إلى تهجير عابر للحدود واحتياجات إنسانية متصاعدة في الإقليم والتمويل المطلوب يمكن أن يستخدم للتعامل مع الاحتياجات خارج غزة”، وفقا للرسالة الصادرة عن إدارة مكتب الإدارة والميزانية في البيت الأبيض..
ان “اسرائيل” تحاول تضليل الرأي العام بأكاذيب لا صحة لها. فمرة تقول انها حددت مناطق آمنة في جنوب غزه يجب على المقيمين في الشمال الذهاب اليها، علما ان عدد الشهداء في منطقتي الجنوب والوسط هي اعلى منها في الشمال، ما يؤكد ان ليس هناك مكان آمن في كل اراضي قطاع غزه.. ومرة توزع خرائط وتحدد الوجهة التي على السكان التوجه اليها، في رسالة مخادعة للرأي العام العالمي بان اسرائيل لا تستهدف المدنيين..
ان ما حصل اثناء فترة “الهدنة الإنسانية” التي بدأت في 24 تشرين الثاني واستمرت لاسبوع، يؤكد حقيقة ان إسرائيل لديها نوايا جدية بفرض التهجير القسري، حيث رفضت عودة السكان الى شمال القطاع، ومن حاول العودة منهم كان الرصاص الإسرائيلي بانتظاره.. لكن رغم ذلك، فان الشك يخيم على امكانية نجاح اسرائيل في مخططها لتهجير الفلسطينيين المقيمين في منطقة شمال قطاع غزه، الذين يصرون على البقاء في منازلهم رغم القصف، لأنهم يدركون طبيعة المخطط الاسرائيلي اولا، وقناعتهم ثانيا بأن قطاع غزه، بشماله وجنوبه ووسطه في مرمى العدوان الاسرائيلي..
ان مشروع التهجير الجماعي للشعب الفلسطيني من قطاع غزه والضفة هو مخطط حقيقي تشارك فيه الى جانب إسرائيل الولايات المتحدة الامريكية وبعض الدول الغربية والعربية، لكن لا يمكن فرضه على ارض الواقع الا في حالة واحدة فقط هو امتلاك إسرائيل للميدان بكل تفاصيله وسحق المقاومة الفلسطينية كواقع وفكرة وثقافة، وهذا امر يبدو واضحا استحالة تحقيقه، ما يجعل الصراع متواصلا بغض النظر عن نتائج العدوان على قطاع غزه، لأن تهجير الشعب الفلسطيني خارج فلسطين سيبقى ركنا أساسيا من اركان المشروع الصهيوني الذي بدأ يتخلخل في الكثير من تفاصيله..
7 كانون الأول/دجنبر 2023