كلمة خديجة المنبهي أخت الشهيدة سعيدة
ذكري الشهداء 29 دجنبر 2021.
من هي سعيدة المنبهي؟
ازدادت سعيدة سنة 1952 بمراكش. انخرطت في النضال التلاميذي، في إطار “النقابة الوطنية للتلاميذ” (ن.وت) في مطلع سبعينيات القرن الماضي؛ ثم انضمت إلى النضال الطلابي، عند التحاقها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية – شعبة اللغة الإنجليزية وآدابها- التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط فالتحقت بـ”الجبهة الموحدة للطلبة التقدميّين”، المعروفة باسم “الجبهة”. كانت من مناضلات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب “أوطم”. وانتخِبت مؤتمرة للمؤتمر XV لأوطم. بعد ذلك مارست التعليم والتحقت بالنضال النقابي في إطار “الاتحاد المغربي للشغل” (الجامعة الوطنية للتعليم). انضمت إلى منظمة “إلى الأمام” في مطلع السنة الدراسية 1974-1975.
كانت بداية المأساة-الفاجعة، مع انطلاق الموجة الثانية من الاعتقالات التي استهدفت استئصال جذور الحركة الماركسية اللينينية المغربية (الحلم)- بعد حملة 1972- “مجموعة أنيس بلفريج ومن معه”- في مايو 1974، وامتدت إلى غاية مارس 1976.
عادت سعيدة من ثانوية الخوازمي التي كانت تدرّس بها، إلى بيتها، يوم 13 يناير 1976، فلم تجد عزوز لعريش. في اليوم الموالي جاءت إلى منزلي وأخبرتني باختفاء عزوز لعريش قائلة أنه، لربما، تم اختطافه. وتأكد نبأ اختطافه يوم 15 يناير.
عندئذ صاحبتها إلى منزلها وقُمنا بجمع كل الوثائق ووضعنها في حقيبة سفر سوداء لإخفائها بمنزلي. لم تترك سعيدة إلا الكتب.
مساء يوم 16 يناير 1976، عادت سعيدة إلى شقتها على الساعة السادسة، فتحت سعيدة باب شقتها… كانت أضواء البيت منطفئة… ظلام دامس يغمرها. ومع دخولها صُدمت بوجود أربعة رجال، من “أصحاب الحال” قابعين في غرفة نموها انقضوا عليها وصفَّدوا يديها وعصَّبوا عيناها ب”البنضة” التي ستلازمها خلال كل مدة ضيافتها بجحيم درب مولاي الشريف المشؤوم… قاموا بتفتيش الشقة وقلبوها رأساً على عقب… أخذوا بعض الكتب غير أنّهم لم يعثروا على أية وثيقة… تم اختطاف سعيدة من دارها…
قضت سعيدة 3 أشهر، بالمعتقل “السرّي” درب مولاي الشريف، ذاقت خلالها كل ألوان العذاب والتنكيل على أيدي زبانية النظام الجلادين؛ غير أنّهم لم ينالوا من صمودها، من عزيمتها وإصرارها على كتمان سرّ رفاقها و”سرّي” أنا أختها ولولا ذلك الصمود البطولي، الذي عزَّ نظيره حقّاً لتمّ إلحاقي بها في “الدرب”.
وبعد التنكيل والتعذيب تم إيداعها بسجن غبيلة فبعد إخبارنا بنقل مجموعتها إلى السجن، سارعت، بمعية أمي، إلى زيارتها… كانت شاحبة اللون، هزيلة لكن معنوياتها كانت عالية… خاطبت أمنا قائلة “لماذا سميتموني سعيدة؟.. بكت الأم… وكان أول سؤال وجهته لي هو: “ماذا فعلتي بالجوبة “jupe” السوداء؟ كان جوابي أحتفظ بها في بيتي. فردّت عليّ “احرقيها فقد تعرضت لعذاب شديد للاعتراف بمكان وجودها!…”
إنني افتخر بسعيدة واعتز بكونها أختي….
خاضت سعيدة مع رفيقاتها ورفاقها إضرابا عن الطعام في شهر أكتوبر 1976.
بدأت المحاكمة الصورية لسعيدة مع رفيقاتها ورفاقها في 3 يناير 1977و في 15 فبراير، صدر في حقها حكم بخمس سنوات نافدة وغرامة.
في شهر نوفمبر سنة 1977 خاضت سعيدة مع رفيقاتها ورفاقها إضرابا لا محدودا عن الطعام من أجل المطالبة بتطبيق نظام المعتقل السياسي….فكانت الفاجعة.
تم اغتيال المناضلة سعيدة المنبهي. وارتكبت تلك الجريمة داخل اكبر مستشفى بالدار البيضاء…على مرأى ومسمع مني!!
اقتناعي الراسخ- وقناعتي التي لم تتزحزح، بعد مرور أزيد من أربعة عقود- أنه كان بالإمكان إنقاذ حياة أختي المناضلة؛ التي ظلت في حالة غيبوبة “Coma” لمدّة ثلاثة أيام طوال: تصارع الموت، وحيدة، معزولة وبدون أية عناية…!كانت في غرفتها مُحاطة بجحافل من “العسكر” والبوليس: لمنعها من الهروب ليس إلاّ!نعم،وبكل تأكيد، كانت إمكانية إنقاذ حياة سعيدة مُتاحة ومُمكِنة… لو تجنّد طاقم من الأطباء، المختصين في الإنعاش والعناية المركزة للقيام بما يمليه عليهم “قسم أبقيراط”Hippocrate… غير أن المسؤولين -والجميع يعرف حقّ المعرفة – أصرّوا على إهمالها لتواجه مصيرها المحتوم.
كانت الغرفة التي ألْقَوا فيها بالمناضلة سعيدة مقابلةً للبهْوَ. ومن النافذة كنت أرى رؤوس وقبعات “القوات المساعدة” والبوليس، من دون أن أتمكن من رؤية سعيدة التي كانت طريحة الأرض…
يزورها طبيب وحيد من حين لآخر. كان فرنسي الجنسية، في طور إنهاء خدمته المدنية. كان داخليا “interne” بصدد إتمام تكوينه الطبي. توجَّهتُ إليه، بعد خروجه من الغرفة، التي كانت من المفترض طبياً أن تكون غرفة إنعاش وعناية مكتفة- وصرح لي مباشرة أنه ليس بإمكانه تحقيق معجزة…
طبيب وحيد، لم يستكمِل تكوينه بعد، كيف له أن ينتزع سعيدة من مخالب الموت؟ سعيدة، مغربية شابة، في ربيع حياتها… عزلاء، من دون أية عناية طبية، تصارع الموت، من أجل الحياة…
إنه الظلم بعينه، الموت/الاغتيال المُدبّر، مع سبق الإصرار والترصُّد!
على الساعة الخامسة صباحاً، من ذاك اليوم/الليل المشؤوم – يوم 11 دجنبر 1977- لم أعد أسمع سوى صوت المُخطِط، صوت لم تعُد تصاحبه دقّات قلب سعيدة.
ارتُكبت جريمة قتل في حقّ شابة من 25 سنة بسبب عدم تقديم المساعدة لشخص معرض للخطر- pour non assistance à personne en danger-. إنه قتل عمدً، رفض معاينة وعلاج إنسانة في coma و هي موجودة في أكبر مستشفى بالدار البيضاء.
ماذا كان المقصود من نقلها إلى المستشفى؟ هل كان الهدف هو تبرئة ذمة المسؤولين عن استغلال ذلك ذريعة من أجل قتلها أمام عائلتها والعالم بأسره؟
حين تُرتكب جريمة يكون دائماً شخص مسؤول coupable عن تلك الجريمة من هو المسؤول في حالة موت-اغتيال سعيدة؟
يعتبر عدم تقديم المساعدة للأشخاص المعرضين للخطر جريمة ضد الإنسانية ، حسب المعايير الدولية لحقوق الإنسان.
ما مصير المحاسبة وعدم إفلات المسؤولين من العقاب عن كل ما جرى؟
مَن المسؤول الحقيقي عن اغتيال المناضلة سعيد المنبهي – يوم 11 دجنبر 1977-، لقد قتلت وهي موجودة في أكبر مستشفيات الدار البيضاء. من هُم مُنفِّذوا الجريمة والضالعون في ارتكابها؟ من هُم كل المتورطون في الاغتيال؟
لقد طال انتظارنا وما زلنا ننتظر لحظة الحقيقة، ولا ولن ننسى أبداً ومهما طال الزمن!
يحدثوننا عن المصالحة؟؟
لكن من سيتصالح مع من؟ هل نتصالح مع اغتيال المناضلة سعيدة المنبهي؟
من هو الطرف الآخر الذي ينبغي لنا التصالح معه؟
من البديهي والمعروف، أن المصالحة تستلزم وجود طرفين.
إن الدولة المغربية وأجهزتها المختلفة – هي المسؤول الأول والأخير- عن كل ما جرى… وفي ما اصطلح على تسميته بـ “الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان”…. وهي في الحقيقة جرائم ضد الإنسانية لا يَطالها لا النسيان و لا التقادم في جميع الشرائح والتقاليد والقوانين، الوطنية منها والدولية!
إننا على قناعة تامة وأكيدة أن لا شيء يمكنه أن يمحُوَ، بل حتى أن يخفف من حرقة فراقها وخسارتها… سعيدة، أختي العزيزة على قلبي مع ذلك، قد يؤدي اعتراف المسؤولين بفظاعة جرمهم، ومسؤوليتهم في اغتيالها إلى التخفيف من شدة حرقتنا وحزننا. ذاك هو واجبنا، واجب الذاكرة، وهو فرض عين، إزاء تضحيتها من أجلنا، من أجل الوطن… وإننا لن نتخلى عن ذلك الواجب…
هل تمت مساءلة كل هؤلاء؟ هل تم اعترافهم بجريمتهم؟ هل طلبوا العفو والصّفح من “الضحايا”، ضحاياهم؟ هل تمت المتابعة القضائية لكل من أنْكَرَ ضلُوعَهُ في الجريمة؟
بالرغم من كل هذا، لا مندوحة لنا من قراءة صفحة ماضينا، حتى ولو كانت بعض جوانبها مُظلمة، قاتمة تقطُر ظلماً ودماءً. لا بدّ لنا من مواجهة ذلك الماضي بجرأة، بحِكمة وبما يخدم مصلحة وطننا ويضمن مستقبلاً أفضل لكافة أجيال المستقبل؛ واضعين المصلحة الحقيقية للوطن فوق كل الاعتبارات أيّاً كانت طبيعتها.
إن كل ما نريده، ما ناضلنا وسنواصل النضال من أجله هو: معرفة ما جرى… كل ما جرى وبجميع التفاصيل. من اجل عدم تكرار ماجرى. حماية لنا وللأجيال القادمة. وحتى لا ننسى أبد !!!
أمّا الانتظارات فتكمُن في القيام بمبادرات واتّخاذ إجراءات لن تُكلِّف خزينة الدولة تبذير المال – كما حدث في تجربة الإنصاف والمصالحة. وفي مقدمتها على الدولة المغربية أن تُعلن، صراحة ومن دون أي مراوبة، مسؤوليتها في كل ما حدث.كما عليها أن تتقدّم بالاعتذار للشعب المغربي بكل الجرائم التي ارتكبتها، في حقِّ بناته وأبنائه منذ رحيل الاستعمار.
إن إجلاء كل الحقيقة ليس أقل أهمية من الإجراءات السابقة، لأنّه لا فائدة في “إخفاء الشمس بالغربال”، ولا من الإصرار على كبت كل ما جرى في لا وعينا الجمعي… فالمكبوتات ستُطاردنا جيلاً بعد جيل… لعقود وعقود!
إننا نريد الحقيقة، شفاء للظُّلم الذي يُلقي بظلاله على مجتمعنا!
لا يحركنا لا الحقد ولا الانتقام وإنما مصلحة وطننا فوق كل شيء!
إنّني لن أنسى، ولا أريد، وأصرّ على عدم النسيان، ما بقيتُ حيّة أُرزَق، الساعة الخامسة صباحاً من يوم 11 دجنبر 1977 عندما أوقفوا خفقان قلب المناضلة سعيدة المنبهي. إنها ذكرى أليمة، مُحزنة وظالمة… ومع ذلك قلبي يملؤه الأمل وحب الوطن والتفاؤل ببزوغ شمس جديدة… تنير مجتمعنا وتَغْمره دفءً… سعادة و طمأنينة. إنّه حلم لا بدّ وأن يتحقّق… لأنّ تلك هي إرادة شعب أبيّ!
خلال فترة اعتقالها بسجن غبيلة، واصَلت سعيدة، مع رفاقها ورفيقاها فاطمة عكاشة وربيعة الفتوح، بخوض نضالات وإضرابات عن الطعام لانتزاع حقوقها وصوناً لكرامتها من جهة. وبحكم وعيها الثوري، انصب اهتمامها على المعيش اليومي للمعتقلات في جناح النساء بالسجن. ركزت سعيدة اهتمامها على السجينات الأكثر فقراً ومعاناة ومنهن من تنعت بـ “المومسات”. وقد شرعت في كتابة دراسة حول أوضاعهن المزرية، وهي دراسة لم يقدر لها أن تكتمل بسبب اغتيالها، ثانياً.
كما أنها كانت تكرس الكثير من وقتها للكتابة التي كانت “نقل” على حدّ تعبيرها. كانت تراسلني أسبوعياً- كنت أزورها أسبوعياً في سجنها- كما كانت تراسل أبويها وأختيها وأخويها. وتم نشر كل ما كتبته في كتاب بعنوان “Poèmes- Ecrits-Lettres de Prison” من طرف “لجن مناهضة القمع بالمغرب” في فرنسا سنة 1978، وأعدت نشرها في سنة 2000 مع تقديم رائع للفقيد المناضل محمد بلمجدوب.
بقي لي أن أشيد بكلّ العائلات التي تناضل وتُصرّ على معرفة الحقيقة، كل الحقيقة مهما كلّفها ذلك من تضحيّات… تقاوم الصمت وتزوير التاريخ منذ عقود خلت… تُقارع جبروت الدولة وأسرار الدولة من أجل معرفة مصير أبنائها المجهول، مجهولي المصير والمعتقلون في غياهب مراكز التعذيب… تحية خاصة لكل المحامين المناضلين الذي آزروا، بجرأة وتفاني، كل “ضحايا” القمع والاستبداد!
كلمة أخيرة، أقتبسها من روائع أبو القاسم الشابي، الشاعر التونسي الخالد:
“إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر”
في الأخير، أخبركم أن عائلة سعيدة قد أسست “مركز سعيدة المنبهي للأبحاث والدراسات”في مايو سنة 2016. ويوجد مقر المركز بمدينة مراكش، مسقط راس المناضلة سعيدة المنبهي.