واقع اليسار في المغرب اليوم

واقع اليسار في المغرب اليوم
الرفيق عبد الله الحريف

عبدالله الحريف


واقع اليسار في المغرب اليوم

1. ما هو اليسار في المغرب اليوم؟

تتميز المرحلة الحالية، في المغرب، بالصراع من أجل التحرر الوطني من هيمنة الإمبريالية الغربية، وخاصة الفرنسية، والكتلة الطبقية السائدة المشكلة من البرجوازية وكيلة الشركات المتعددة الاستيطان وملاكي الأراضي الكبار. هذا الصراع الذي تخوضه الطبقات الشعبية (الطبقة العاملة، الكادحون الغير عمال في البوادي والمدن والبرجوازية الصغرى والجزء من البرجوازية المتوسطة المصطف بجانب الطبقات المذكورة سابقا). ويتكون اليسار من القوى التي تطمح إلى تمثيل هذه الطبقات والفئات والشرائح الشعبية وتناضل من أجل مصالحها الآنية (تحسين أوضاعها المادية والمعنوية) والاسترتيجية المتمثلة في التحرر الوطني والديمقراطية وتدافع على قيم التقدم والحرية والعلمانية والمساواة والكرامة.

وأود التأكيد هنا على مسألة أساسية وهي أنه، خلافا لليمين الذي يوحده الدفاع عن جوهر النظام القائم، أي الرأسمالية التبعية، فإن اليسار يعاني من انقسام عضوي بين يسار جذري يناضل من أجل القضاء على الرأسمالية وبناء الاشتراكية ويسار إصلاحي يحلم بأنسنة أو التعايش مع الرأسمالية.
-اليسار الجذري يتشكل، بالأساس، من القوى الماركسية المشكلة من التوجهات الرئيسة التالية:

° التوجه الماركسي أو الماركسي-اللينيني الذي يناضل ضد الرأسمالية ومن أجل الاشتراكية ويسعى إلى بناء حزب الطبقة العاملة وعموم الكادحين كأداة لإنجاز مهام التحرر الوطني والديمقراطي على طريق الاشتراكية.
° التوجه التروتسكي الذي يرى أن الصراع، في جميع بلدان المعمور، هو، الآن، بين البورجوازية والطبقة العاملة وأن المهمة المطروحة عالميا هي الثورة الاشتراكية.
– اليسار الإصلاحي هو يسار اشتراكي-ديمقراطي يناضل ضد الانعكاسات الخطيرة للرأسمالية على أوضاع الجماهير الشعبية وليس ضد الرأسمالية كنمط إنتاج ويعتبر أن الانتخابات هي الوسيلة الأساسية لتغيير الأوضاع.

هكذا فإن اليسار في المغرب اليوم يتكون من “حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي” والمؤتمر الوطني الاتحادي” و”الحزب الاشتراكي الموحد” و”النهج الديمقراطي” ومجموعات تروتسكية صغيرة (“المناضل(ة)” و”التحرر الديمقراطي” و”رابطة العمل الشيوعي”) ومجوعات منحدرة من القاعديين، أساسا “البرنامج المرحلي”.

2. واقع اليسار المغربي اليوم:

إن أهم سمات اليسار اليوم هي:

° الضعف الكمي لتنظيماته المختلفة.
° ضعف ارتباطه بالطبقات والفئات والشرائح التي من المفترض أنه يمثل مصالحها، وفي مقدمتها الطبقة العاملة والكادحين يشكل عام.
° ضعف ارتباطه بالنساء رغم كونه يدافع عن المساواة التامة بينهن والرجال وضمان الحقوق الخاصة للمرأة كامرأة وأم.
° ضعف ارتباطه بالشباب.

– التشرذم: إذا كان من العادي والطبيعي أن يتواجد في اليسار تياران أساسيان (تيار جذري وآخر إصلاحي)، فلماذا ينقسم كلا التياران إلى عدد من المنظمات عوض البحث على ما يوحد (على الأقل بالنسبة لليسار الماركسي، العمل المشترك من أجل توسيع الإشعاع والانغراس وسط الطبقة العاملة وعموم الكادحين) ولماذا لا يبحث التياران على قواسم مشتركة ويبنيان جبهة للنضال حول المشترك؟

– التيه الفكري بسبب أزمة البديل الاشتراكي الناتج عن انهيار تجارب بناء الاشتراكية وضعف المجهود لتطوير الفكر الماركسي وعن اختراق الفكر البرجوازي للمنظمات والمناضلين اليساريين، وخاصة فكر ما بعد الحداثة الذي يشكك في أسس الفكر التقدمي وجدوى التغيير ويطرح كبديل الاكتفاء بالعمل على قضايا جزئية وعلى الهويات وعلى قضايا مجتمعية كقضية المرأة مثلا والترويج للعمل في”المجتمع المدني”.

الشيء الذي دفع العديد من اليساريين إلى الابتعاد عن الماركسية بل التحول إلى لبراليين. أما أغلب المناضلين المخلصين والمكافحين، فتوجهوا إلى الانغماس في الحركية واختزال الصراع الطبقي في النضال في النقابات وجمعيات المجتمع المدني والمنتديات الاجتماعية العالمية والقارية والإفراط في الرهان على الحركات المناهضة للعولمة مع أنها حركات مائعة. كما تعاني أغلب تنظيمات اليسار من تراجع الاهتمام بالنظرية وتراجع القناعة بإمكانية التغيير الجذري وبالاشتراكية.

– كان التوتر والصراع والأحكام الجاهزة تطبع العلاقة بين اليسار والإسلاميين: فاليسار كان يعتبر الإسلاميين قوة ظلامية متجانسة لا تخترقها التناقضات وأن التمايزات داخلها ثانوية لا تعبر، في العمق، عن تموقعات طبقية مختلفة. والإسلاميون كانوا يعتبرون اليسار كقوة متجانسة واليساريين كملحدين.

لقد انخرطت جل تنظيمات اليسار، بقوة وحماس، في حركة 20 فبراير ولعبت دورا هاما في إذكاء جذوتها،

كما يقود اليسار أو يتواجد، بشكل وازن، في منظمات جماهيرية حقوقية ونقابية لا يستهان بها. فهو يقود أكبر جمعية حقوقية، “الجمعية المغربية لحقوق الإنسان” في إفريقيا والعالم العربي ولها إشعاع دولي. وهو يقود مركزية نقابية (الكنفدرالية الديمقراطية للشغل) ونقابات أساسية (الجامعة الوطنية للفلاحة والجامعة الوطنية لعمال وموظفي الجماعات المحلية والنقابة الوطنية للتعليم-التوجه الديمقراطي) منضوية ضمن المركزية النقابية “الاتحاد المغربي للشغل”. وهاتان المركزيتان من ضمن المركزيات الأكثر تمثيلية. ويقود اليسار العديد من التنسيقيات، سواء منها الفئوية أو الموضوعاتية (التعليم، القضية الفلسطينية…) أو حول مشكل محدد (الحركة ضد غلاء فواتير الماء والكهرباء وندرة مياه الشرب وضد الاستيلاء على الأراضي الجماعية…) وكذا تنسيقيات الدفاع عن الشأن المحلي (السكن، النقل، الأمن…) وغيرها من الحركات الشعبية. كما يتواجد اليسار بقوة في النقابة الوطنية للتعليم العالي ويقود الجمعية الوطنية لحملة الشواهد المعطلين…ودعم اليسار وانخرط مناضلوه ومناضلاته في الحراكات الشعبية التي عمت العديد من المناطق (حراك الريف وجرادة وغيرهما).

وبالرغم مما سبق، يعيش اليسار عزلة جماهيرية حيث لا تؤدي نضالاته المتعددة إلى توسيع صفوفه.

هذا ناهيك عن كون هذه التنظيمات النقابية والحقوقية تتسم بتقلصها (نسبة التنقيب لا تتجاوز 5 في المائة) وتستهلك طاقات هائلة وتشكل ميدانا للصراع على المواقع بين قوى اليسار عوض أن تكون ميدانا للتنافس على خدمة مصالح الجماهير الشعبية والتقارب وتطوير القواسم المشتركة.

3. آفاق اليسار المغربي:

في وقت يتأكد فيه أكثر فأكثر تعفن الرأسمالية وتهديدها للبشرية بالفناء، لعل أخطر ضعف يسم اليسار في العالم، ومن ضمنه المغرب، هو هيمنة الاتجاهات الاصلاحية داخله والتي تراهن على اصلاح الرأسمالية والتي تؤدي الشعوب ثمنها غاليا (أنظر تجربة الأنظمة التقدمية في أمريكا اللاتينية التي راهنت على التعايش مع الرأسمالية: بوليفيا وفينزويلا ونيكاراغوا وغيرها).

وتتوحد هذه الاتجاهات الاصلاحية في كونها لا تطرح ضرورة تجاوز الرأسمالية. وهي، بشكل عام، صنفان:

– القوى الاجتماعية-الديمقراطية التي تعرف التراجع بسبب خياناتها المتتالية للطبقات الشعبية والقوى الشعبوية اليسارية التي بدأت تعيش التآكل (سيريزا وبوديموس وفرانس أنسوميز).

– المناضلون(ات) اليساريون(ات) الذين يكتفون بالنضال في منظمات المجتمع المدني ويرفضون العمل السياسي، فأحرى الحزبي.

لذلك أعتقد أن اليسار لن يتعافى من ضعفه وتشرذمه إلا بقدر ما يسترجع اليسار الجذري الماركسي هيمنته داخل اليسار. وهو ما يتطلب منه:

أ. خوض صراع فكري قوي من أجل استرجاع الماركسية وهجها، كمنهج للتحليل ونظرية في التغيير الثوري، وضع ماركس وأنجلز حجرها الأساس والتي تغتني باستمرار على ضوء الممارسة النضالية وبالاستفادة من التطور العلمي. وعلى هذا الصراع أن يواجه أهم الطروحات الراهنة التي تشكك في الأسس التي إنبنت عليها الماركسية، وخاصة:

– ضد الأفكار التي تنفي الصراع الطبقي وتعوضه بنضالات مشتتة ضد أنواع من الاضطهاد تخترق الطبقات (الجنس، الهوية الإثنية أو الدينية أو العرقية…). والغائب هنا هو النضال ضد الرأسمالية.

والحال أن هذه الأشكال من الاضطهاد حقيقية ولا يصح اعتبارها ثانوية أو مؤجلة إلى حين انتصار الثورة، بل يجب العمل من أجل أن تتمفصل هذه الحركات المشتتة مع الصراع الطبقي من خلال تبيان أن جل القضايا التي تطرحها تمظهرات لأنماط إنتاج سابقة تستعملها الرأسمالية لتفتيت وحدة الطبقة العاملة وعموم الكادحين وإحكام سيطرتها على المجتمعات، وفضح دور الرأسمالية، في مرحلتها الحالية، في بروز هذه الحركات وتهيكلها من خلال إضعاف الدور الاجتماعي للدول لفائدة تضخم دورها القمعي، خاصة في دول المحيط الرأسمالي، ومسئولية الرأسمالية في تهميش مناطق متعددة وشاسعة من خلال تمركز النشاط الاقتصادي والثروة في بضع متروبولات ومدن كبيرة بالأساس.

– ضد نفي كون أن الصراع الطبقي بين الطبقة العاملة والبرجوازية في نمط الإنتاج الرأسمالي هو الصراع الأساسي.

إن نفي كون الصراع الطبقي بين البرجوازية والطبقة العاملة هو الصراع الأساسي له أيضا نتائج تنظيمية ملموسة تتمثل في أن أدواته (النقابة كأداة للنضال الاقتصادي والحزب كأداة للنضال السياسي) أصبحت متجاوزة ويجب تعويضها بالحركات الاجتماعية والمجتمع المدني الذي تسيطر عليه المنظمات غير الحكومية الممولة، في الغالب، من طرف المؤسسات الإمبريالية.

– ضد “الوهم الديمقراطي” الذي يطمس الأساس الطبقي لأية ديمقراطية. ويعتبر بالتالي أن التغيير الجذري يمكن أن يتم من خلال الانتخابات فقط والتي تقدم وكأنها أعظم تعبير عن الديمقراطية وتعطي نفس الحظوظ للجميع وأن أجهزة الدولة محايدة في الصراع الدائر في المجتمع. والحقيقة أنه بدون التحكم في المفاصل الأساسية للاقتصاد وتفكيك أجهزة الدولة الموروثة عن الأنظمة السابقة وإعادة بنائها على أسس ديمقراطية شعبية، يسهل على البرجوازية، التي حافظت على هيمنتها الاقتصادية، استعادة هيمنتها السياسية( حالة البرازيل وبوليفيا والتشيلي أيام أليندي…).

– ضد التوجهات اليمينية التي تقبل بالوضع القائم أو تروج لإمكانية إصلاحه من خلال العمل في مؤسسات النظام التمثيلية والفوضوية وضد النزعات الهوياتية الانعزالية المتطرفة وضد اعتبار أن الصراع الأساسي، الآن وهنا، هو بين القوى الإسلامية واليسارية وضد اليسراوية التي تكتفي بطرح الشعارات والأهداف الثورية دون تحديد كيفية تحقيقها في الواقع الملموس، أي دون التوفر على الإستراتيجية الثورية والتكتيكات والتحالفات الملائمة.

ب. إن اليسار الجذري، في نفس الوقت الذي ينتقد هيمنة التوجهات الإصلاحية وسط اليسار، يجب أن يخوض الصراع، بدون كلل أو ملل، من أجل الوحدة النضالية لكل مكونات اليسار.

ج. التقدم في سيرورة بناء الطبقة العاملة لحزبها المستقل وجعل الحركة النقابية في خدمتها وبناء الجبهة الشعبية من خلال:

– القيام بنقلة نوعية في سيرورة بناء هذا الحزب كمهمة آنية لا تقبل التأجيل.

– جعل التواجد مع العمال والكادحين عمل يومي لا يقتصر على مساندتهم في نضالاتهم. الشيء الذي يستوجب تغيير المناضلين(ات) الثوريين(ات) لأساليب عملهم، بل نمط عيشهم. هذا العمل الذي يجب أن يربط بين نضال العمال والكادحين من أجل الدفاع عن مكتسباتهم وحقوقهم وتحسين أوضاعهم وبين بناء أداة تحررهم، أي حزبهم المستقل عن البرجوازية.

– إقناع أكبر عدد من المناضلين(ات) الماركسيين(ات) بأن مهمة تأسيس حزب الطبقة العاملة وعموم الكادحين مهمة لا تقبل التأجيل وحثهم على الانخراط فيها والنقاش معهم(ن) من أجل المزيد من توضيح الرؤية حول بناء هذا الحزب.

– العمل المستميت من أجل تصحيح أوضاع الحركة النقابية اعتبارا لكون العمل النقابي هو مدخل أساسي للإنغراس في الطبقة العاملة وأول مدرسة للصراع الطبقي للعمال ضد البرجوازية.

– إن بناء حزب الطبقة العاملة وعموم الكادحين سيتم في معمعان الصراع الطبقي الذي يتخذ، الآن وهنا أساسا، شكل نضالات تخوضها تنظيمات ذاتية شعبية عديدة ومتنوعة مستقلة عن القوى السياسية والنقابية والجمعوية المناضلة. لذلك فإن تحصين وتقوية وتوسيع هذه التنظيمات وإيجاد تمفصل سديد وقوي بينها وبين القوى الحية السياسية والنقابية والجمعوية مسألة أساسية. ومن خلال هذا التمفصل ستتشكل الجبهة الشعبية الحقيقية والفاعلة والمؤهلة لقيادة النضال من أجل التغيير لأنها الجبهة التي تضم أوسع القوى المناضلة التي في مصلحتها التغيير. إن الجبهة الشعبية ليست تنسيقا لخوض معارك مشتركة فقط، بل كجبهة للتغيير يجب إن تقدم البديل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي للنموذج التنموي الرسمي الذي فشل فشلا ذريعا. إن أحد نواقص حركة 20 فبراير أنها لم تكن تتوفر على بديل متوافق عليه مكتفية بشعارات فضفاضة: حرية، كرامة، عدالة اجتماعية. ولذلك لا بد من إعطاء أهمية كبرى للحوار العمومي وتركيزه على بلورة برنامج للتغيير، على غرار السودان.

– التوفر على تكتيك سديد يستحضر الواقع الملموس (أوضاع اجتماعية متفجرة، فقدان الوسائط الرسمية لمصداقيتها…) من خلال العمل على بناء جبهة واسعة للتخلص من المخزن باعتباره العقبة الكأداء أمام أي تغيير لصالح الشعب، جبهة تضم كل المتضررين، مهما كانت مواقعهم الطبقية ومرجعياتهم الفكرية، من استبداد وافتراس وفساد المخزن، وخاصة نواته الصلبة المافيا المخزنية.