من المصالحة إلى الوحدة الوطنية

من المصالحة إلى الوحدة الوطنية
ذ. أسامة خليفة: باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات




من المصالحة إلى الوحدة الوطنية





أسامة خليفة
كاتب فلسطيني

نصت المادة العاشرة من ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية على أن «يكون للفلسطينيين ثلاثة شعارات: الوحدة الوطنية، والتعبئة القومية، والتحرير».

الآن نطلق مصطلح الوحدة الوطنية على المصالحة بين فتح وحماس، وميثاق منظمة التحرير الفلسطينية أعلن في 28 أيار 1964. قبل ظهور حركة فتح بسبعة شهور، وقبل حركة حماس بأكثر من «23» عاماً، فما المقصود بالوحدة الوطنية المتضمنة في الميثاق؟.

الوحدة الوطنية هي وحدة الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، وبمختلف طوائفه وتشكيلاته الاجتماعية ومجموعاته الإثنية، وهي حالة إشكالية في المجتمع الفلسطيني تعود الى تشتت الشعب الفلسطيني بعد نكبة 1948، في بلدان ومناطق متباينة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، أهمها التجمعات الخمس التي أعلنتها الأونروا مناطق لعملياتها الإغاثية، مضافاً إليها منطقة الـ «48»، مما أوجد ظروفاً وأهدافاً لتجمع ما تتباين عن تجمع آخر، قد تقود إلى تفكك سياسي واجتماعي واقتصادي لكن بقيت الأهداف الكبرى واحدة رغم التباعد الجغرافي. هذا لا يقلل من أهمية أن الوحدة الوطنية حسب التعريف القانوني «هي اتحاد مجموعة من البشر في الاقتصاد والاجتماع والتاريخ والهوية في مكان واحد وتحت راية حكم واحد».

كيف حل مفهوم المصالحة الوطنية مكان مفهوم الوحدة الوطنية؟. متجاوزاً الإطار الشعبي ليصل إلى الاعلام والإطار الرسمي أيضاً، باعتبار المصالحة عملية فض الخلاف بين الطرفين المتصارعين عبر حل يرضي كليهما على أسس من الرؤية الخاصة بهما، وكلاهما يعتبران أن رؤيته هي الصائبة وتخدم الوطن والشعب، فيتم الخلط بين الوحدة الوطنية والمصالحة لوجود رابط يقوم بينهما، فيما إذا كانت المصالحة مقدمة لوحدة وطنية شاملة، ولا تقوم على الإقصاء أو المحاصصة على أساس مصالح الفصيلين ومكاسبهم.

يتجاهل البعض حقيقة أن الوحدة القائمة على المصالح التنظيمية الفصائلية الضيقة فاشلة حتماً، قد تتفق نظرة فصيل مع الوحدة الوطنية أو تختلف لكنها مطلب شعبي عام، فالوحدة الوطنية ليست خياراً حزبياً يمكن قبوله أو رفضه أـو تعديله، بل هي ضرورة لمواجهة التحديات والمؤامرات التي تستهدف القضية الفلسطينية، إنها ضرورة وجودية لحماية المشروع الوطني الفلسطيني، أولها الالتقاء على برنامج وطني يحافظ على الثوابت المتعلقة بالأرض والشعب والهوية والسيادة. فالوحدة تتحقق من خلال الاتفاق على إعادة الاعتبار للبرنامج الوطني الشامل الذي يجسد القواسم المشتركة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية ببرنامج سياسي يتفق عليه، ويحافظ على الحقوق والمصالح العليا للشعب الفلسطيني، وأي اتفاق بهذا الخصوص يجب أن يحتكم به للشعب. إذ يرى البعض أن المشكلة الأساسية في كل محاولات المصالحة ولا سيما بين فصيلين دون الفصائل الأخرى هي إخراج الشعب من معادلة البحث عن الوحدة وحصرها بيد فصيلين رئيسيين. وفي كل مرة يختلف فيها الفصيلان بحكم المصالح التنظيمية لهما تنهار المصالحة وتتهدد الوحدة الوطنية، وقد تكررت حوارات المصالحة وما يصدر عنها من بيانات وإعلانات وقرارات فشل المعنيون بها حتى الآن في وضعها موضع التنفيذ، وكانت بعض الحوارات ولقاءات المصالحة الثنائية بين فتح وحماس بعيدةً عن إطار تصالحي أوسع يشمل جميع الفصائل، بغض النظر عن نجاحها أو فشلها.

الوحدة الوطنية مفهوم واحد غير متعدد بتعدد الفصائل أو بتعدد الأشخاص، هي مفهوم شامل يحتوي عدداً من صنوف الوحدة، التجربة العملية لبعضها تجربة إيجابية تخدم التوجهات الوحدوية، مثل الوحدة الميدانية من خلال غرفة عمليات مشتركة بين الأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة، أما الوحدة السياسية أو الوحدة الداخلية بين الفصائل فلم تستطع أن تصل إلى نتائج عملية إيجابية مبنية على أسس ديمقراطية وبرنامج وطني متفق عليه بين قيادات المقاومة، ولم تتقدم المصالحة بين فتح وحماس خطوة باتجاه الوحدة الوطنية.

هل أخلّت اتفاقيات أوسلو بالوحدة الوطنية؟. يظهر واقع الحال أن الوحدة الوطنية الفلسطينية باعتبارها وحدة الشعب في كل مناطق تجمعاته قد تأثرت بإحلال السلطة الفلسطينية التي تمثل فلسطيني الضفة والقطاع بديلاً لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تمثل عموم الشعب الفلسطيني أينما وجد. المنظمة هي المظلة التي يجتمع تحتها الكل الفلسطيني بكافة أطيافه، وتعطيل دور مؤسساتها هو إضعاف للوحدة الوطنية، كذلك تجاوز الميثاق الوطني الفلسطيني الذي يشكل مرجعية للجميع له ثوابته الوحدوية بالغة الأهمية، اكتسبت المنظمة رغم حالة التفرد في اتخاذ القرار صفة تمثيل الشعب الفلسطيني، ونالت اعترافاً عربياً وعالمياً. ودام الأثر الإيجابي للمنظمة حتى برزت الحلول السلمية التي تنتقص من الحقوق الوطنية، أدى ذلك إلى خلافات في الساحة الفلسطينية، بخروج عدد من الفصائل منها، وامتناع فصائل أخرى عن السعي لنيل عضويتها، وأدت أحياناً إلى الاقتتال الداخلي، يضاف إلى ذلك شطب بعض بنود الميثاق الوطني الفلسطيني، الأمر الذي أحدث إرباكاً في الساحة الفلسطينية، بلغت ذروته بتوقيع اتفاق أوسلو.

ما أهمية الوحدة الوطنية؟. لا سيما في هذه الظروف المصيرية؟. في مرحلة ما بعد طوفان الأقصى وحرب 7 أكتوبر باتت استعادة الوحدة الوطنية أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، في ظل الاستحقاقات الوطنية الكبرى التي تنتظر شعبنا وقضيته الوطنية في ضوء النتائج الاستراتيجية لمعركة طوفان الأقصى وما تلاها من أحداث.

الوحدة الوطنيّة هي أحد أبرز الركائز الوطنيّة وأحد أهم دعائمها ومقوّماتها التي تجمع بين أبناء الوطن الواحد وتربط بينهم، تقوم على حبّ الوطن والانتماء لفلسطين، والاستعداد الدائم للدفاع عن ترابها والسعي لنيل حريتها واستقلالها، وتتمثل أهميّة إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنيّة بانعكاس ذلك على شرعية التمثيل الفلسطيني القانوني والسياسي أمام المجتمع الدولي، هذا الغياب بمؤسساته ومدلولاته المختلفة يشكل خطراً على مستقبل القضية الفلسطينية، ويهدد التضحيات والمكاسب التي يحققها شعبنا في نضالاته وصموده، وقد هُدرت نتائج معركة القدس وسيف القدس بفعل الانقسام القائم في المؤسسات الرسمية، وعدم التوافق على استراتيجية سياسية توحد الحالة الوطنية فإن خسائر فادحة سوف تلحق بالقضية الوطنية.

الوحدة الوطنية خيار استراتيجي ليس من مصلحة أي من التجمعات الفلسطينية على أرض الوطن أو في الشتات غياب الوحدة الوطنية أو ضعفها، تصهر الوحدة الوطنية المجتمع بمختلف فئاته وطبقاته وطوائفه وشرائحه في بوتقة مجمعة على أهداف ومصالح واحدة ومصير مشترك دون تمييز على أساس العرق أو اللون أـو الدين أو المناطقية «الضفة الغربية، قطاع غزة» أو الحزبية. يشكل الجميع شعباً موحداً له مؤسساته السياسية والقانونية والدستورية في منظومة تكفل المساواة في الحقوق والواجبات، واحترام التنوع والاختلاف، بما يؤسس للتعاون والتكامل والعمل الجماعي المشترك لأجل الصالح العام، وتجنّب التركيز على نقاط الاختلاف التي تؤدي إلى الانقسام الذي يمزق المجتمع الواحد. فالوحدة الوطنيّة حالة إيجابية، ومصدر قوة يسعى أي مجتمع إليها لتحقيق التطور والتنمية، أما في مجتمعنا الفلسطيني فهي أهم متطلبات التحرر وبناء الدولة الوطنية المستقلة.

في العام 1964 انطلقت منظمة التحرير الفلسطينية نحو تمثيل شعبها، فصاغت للشتات الفلسطيني هويته كشعب له خصوصيته، وطرحت الميثاق الوطني الفلسطيني رؤية موحدة لشعب مشتت، تدور حول حق العودة وحق تقرير المصير.
في الممارسة العملية تبدو الوحدة الوطنية سلوك يومي لكل إنسان فلسطيني وطني من خلال مؤسسات تنظم المشاركة الايجابية من أجل وحدة شعب فلسطين، باعتبارها مصدر قوة، وغيابها ضعف. فللوحدة الوطنية مقومات من التسامح والترابط والتكاتف بين أبناء الوطن الواحد ونبذ العنف والشقاق والخلاف، وسيادة المحبة والألفة وفق شعار الوطن للجميع ترتبط بالممارسة العملية على الأرض من قبل أفراد المجتمع الواحد.

أصدر «المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية- مسارات» تقديراً استراتيجياً بتاريخ 8 تشرين اﻷول/ أكتوبر 2024 بعنوان «آفاق المصالحة الفلسطينية عشية حوار القاهرة»، من إعداد: هاني المصري. تناول العراقيل التي تقف أمام جهود إنهاء الانقسام، ومتطلبات تحول المصالحة إلى وحدة وطنية شاملة، والسيناريوهات المُحتملة لمسار المصالحة.

وتساءل: «أي مصالحة نريد»؟. لنتدارك انقساماً يهدد بالتحول إلى الانفصال، كون المنطقة حبلى بالاحتقانات والصراعات والتغيرات العاصفة وأمام سايكس بيكو جديد، والإجابة: نريد المصالحة التي تكون مقدمة لإنجاز وحدة وطنية شاملة، «وهو سيناريو لن يتحقق إلا في إطار بلورة رؤية شاملة وتوفر إرادة فولاذية لتحمل الضغوط، ودفع الثمن المطلوب، ووضع خطة أو خطط عمل لتحقيق أهداف البرنامج الوطني الذي لا بد من إقراره في المجلس الوطني التوحيدي، بما في ذلك التوافق على البرنامج السياسي «للسلطة/الدولة» وآليات تنفيذه من خلال الحكومة كأداة تخدم التقدم على طريق تحقيق البرنامج الوطني لمنظمة التحرير. وقد برهنت التجربة الماضية أنه من دون الاتفاق على السياسة والمال والأمن والسلاح والمنظمة و«السلطة/الدولة» وأسس الشراكة، والاحتكام بعد ذلك إلى الشعب، لا يمكن أن تقوم وحدة وطنية حقيقية».

ويخلص التقرير الاستراتيجي أن هذا السيناريو هو الخيار المفضل للفلسطينيين، إلا أنه مستبعد حالياً، لأن القوى التي ستحمله غير موجودة، أو على الأصح لا تزال ضعيفة، لكن قوته تنبع من كونه يقدم حلاً جذرياً إذا توفرت مقومات تحويله إلى خيار وطني وشعبي، ويعبر عن مصلحة وإرادة الأغلبية، لا سيما أنه ينطلق من التوافق على الأهداف والحقوق الوطنية والمصلحة العامة، لا من مصالح الأفراد والفصائل.