في ذكرى رحيل الفقيد سعيد الشاوي: وقفة تأمل حول الحوار القطاعي بالجماعات
في ذكرى رحيل الفقيد سعيد الشاوي:
وقفة تأمل حول الحوار القطاعي بالجماعات
جمال العلاوي: عضو اللجنة الادارية للجامعة الوطنية لموظفي الجماعات الترابية والتدبير المفوض/إ.م.ش
قبل أن أشرع في كتابة هذه الأسطر، تساءلت مع نفسي: ما الجدوى من ذلك في زمن أصبحت فيه القراءة والكتابة في القضايا النقابية، بمثابة هدر للجهد والوقت بالنسبة للكثيرين؟؟ وحتى الفئات التي كانت تفكك النصوص وتسعى إلى الفهم ثم النقد والتحليل والرد لم تعد مهتمة لا بالقراءة، ولا بالتفاعل، ولا بإبداء الرأي بشكل مكتوب..
ترددت في الكتابة بسبب زحمة الانشغالات وكثافة الالتزامات، لكن روح الفقيد سعيد الشاوي في ذكراه الثالثة كانت الحافز والدافع نحو خط هذه الأسطر على بساطتها؟ كيف لا ونحن أمام ذكرى رجل وهب الجزء الأكبر من عمره لشغيلة القطاع وللطبقة العاملة على حساب حياته الخاصة، وكان له من الوقت ما يكفي ليمنحه لمئات المناضلين عبر التواصل المستمر معهم والاستماع باهتمام لمقترحاتهم، والتعبير عن تطلعات آلاف العاملين بالقطاع عبر آليات التفاوض والترافع…، لذلك فقرار إبداء رأيي حول وضعية الجمود التي يعرفها الحوار القطاعي بالجماعات نابع بالأساس من مبدأ الوفاء لروح وتضحيات الفقيد القائد سعيد الشاوي.
وكما يعلم الجميع، فالوضع بالجماعات أصبح يسائل كل المناضلين العاملين بهذا القطاع، لأن حجم التذمر والاستياء وسط الشغيلة الجماعية انتقل من مستوى إنتاج ردود الأفعال، إلى مستوى الاستسلام للاحباط العام، ونهش الجسد الداخلي بعد أن تم الفشل في مواجهة الخصم الخارجي وانتزاع مكاسب فعلية تعيد الأمل في مستقبل أفضل بالقطاع، ولا يحتاج هذا الأمر إلى كثير من التحليل والبحث واستحضار الأدلة، لأن نظرة خاطفة حول بعض مجموعات التواصل الاجتماعي الخاصة بموظفي القطاع، وجولة سريعة على المكاتب الادارية بالجماعات، كفيلة بأن تعطينا صورة واضحة عن الوضعية النفسية والمادية والاجتماعية المتدهورة للموظفين الجماعيين.
فهل لا زال الرهان على الحوار القطاعي – المؤجل بشكل مستمر دون أي رد فعل احتجاجي – رهانا صائبا؟ أم أن هذا الحوار (السراب) بات يشكل عبئا ثقيلا على الشغيلة الجماعية والحركة النقابية بقطاع الجماعات؟ والسؤال الآخر الذي بات يفرض نفسه بحدة هو لماذا التنسيق النقابي بالجماعات لا زال عاجزا عن فرض حوار حقيقي بأجندة زمنية محددة يفضي إلى نتائج ملموسة تعالج جزء من الأزمة البنيوية التي يعيشها القطاع؟
نعم، نتفهم الاكراهات العديدة التي تصعب من خيار التصعيد النضالي، والمرتبطة أساسا بطبيعة البنية البشرية العاملة بالقطاع، والتراجع الحاد لفئة الشباب باعتبارها أكثر الفئات دينامية وحيوية بسبب تجميد التوظيف، والتناقضات الحادة التي تخترق مكونات التنسيق النقابي بسبب ارتباط بعضها باختيارات حزبية وسياسية تقيد فعاليتها، والتباين الواضح في طبيعة تركيبتها التنظيمية وآليات اشتغالها، لكن كل ذلك لا يعفي التنسيق النقابي من مسؤولية الإجابة عن اشكالية فشل كل محاولات اقناع وزارة الداخلية أو على الأقل المديرية العامة للجماعات بجدوى الحوار المفضي إلى نتائج فعلية.
نتفهم أيضا طبيعة المحاور وأسلوب التعالي الذي يحكم علاقته بكل المجالات التي يشرف عليها وضمنها الجماعات الترابية، وندرك بأن وزارة الداخلية منشغلة بالهواجس الأمنية والحسابات الانتخابية أكثر من انشغالها بتحسين أوضاع الشغيلة الجماعية، وتجويد خدمات المرفق الجماعي، ومنح المزيد من وسائل التدبير الحر للجماعات عبر السماح لها بإطلاق مباريات توظيف واسعة، وجعل الشغيلة الجماعية في وضع اعتباري واجتماعي يسمح لها بأن تكون مؤهلة لصنع وتنفيذ وتقييم القرار المحلي، لكن ذلك لا يعفي أيضا التنسيق النقابي من مسؤوليته في التحرر من قيود الداخلية، واتخاذ قراراته النضالية المستقلة بما يتوافق مع حجم التذمر والاحباط السائد في أوساط الموظفين الجماعيين والعمال المرتبطين بالقطاع.
نتفهم أيضا السياق العام الذي يتحرك فيه التنسيق النقابي، والمتسم بالتراجع العام في مواجهة المخططات الكبرى التي تستهدف الحقوق الاجتماعية (التعاضد، التقاعد،…) والحريات النقابية، والهجوم الشامل على الوظيفة العمومية، وتفكيك القطاعات الاجتماعية الحيوية، وفصلها تدريجيا عن القطاع العام عبر مسميات مختلفة رغم وحدة الخلفيات والأهداف النيولبرالية الفاشلة التي تحكم هذه الاختيارات، كما هو الشأن بالنسبة للمجموعات الصحية الجهوية بالنسبة لقطاع الصحة، والأكاديميات الجهوية بالنسبة للتعليم، والشركات الجهوية بالنسبة للماء والكهرباء والتطهير السائل…الخ، لكن ذلك لا يشكل مبررا لرفع الراية البيضاء بالنسبة للتنسيق النقابي بقطاع الجماعات، لأن القطاعات الأخرى وإن تم تمرير جزء كبير من المخططات السالفة الذكر، فإن النقابات النشيطة فيها والتنسيقيات المرتبطة بها فرضت على الأقل تفاوضا لابأس به ــــ في حدود ميزان القوى بكل قطاع ـــ حول الملفات التي كانت عالقة، وحصنت بعض المكتسبات المرتبطة بالترقيات وتسوية وضعية بعض الفئات وتجويد الأنظمة الأساسية، والاحتجاجات لا زالت جارية ببعض القطاعات، وقد تساهم في فرض وحماية بعض الحقوق والمكاسب الأخرى.
مسألة أخرى تثير الكثير من علامات الاستفهام حول وضعية التنسيق النقابي بالجماعات، وحدود تماسكه دفاعا عن مطالب شغيلة القطاع، وهي موقفه من بعض القوانين التي تمس بشكل مباشر الحريات النقابية بالجماعات وعلى رأسها مشروع قانون الاضراب، طبعا قد يقول قائل بأن مكونات التنسيق النقابي مرتبطة بمواقف مركزياتها النقابية وليست ملزمة بإنتاج موقف أو قرار موحد بخصوص هذه القوانين، والجواب هو أن أحد الأدوات التي يفترض أن يستعملها هذا التنسيق لفرض مطالبه على وزراة الداخلية هو الاضراب، ومن واجبه أن يحمي هذا الحق ويساهم في توحيد صف الشغيلة الجماعية دفاعا عن أحد أهم أسلحتها النضالية، خاصة وأن القطاع قد يصبح أكثر المتضررين من مشروع قانون الاضراب إن تم تمريره لاعتبارات كثيرة لا تسمح المساحة المخصصة لهذا الرأي بالتفصيل فيها، وعلى رأسها ما تضمنه المشروع من شروط تعجيزية كشرط الجموعات العامة ونسبة المشاركين فيها، والتي قد يستحيل على أي مكون من مكونات التنسيق النقابي توفيرها بفعل ضعف الانتساب النقابي للموظفين بأغلب الجماعات الكبرى.
قد يتساءل بعض المناضلين وعموم الفاعلين النقابيين عن طبيعة الأجوبة الممكنة إزاء هذا الوضع المعقد الذي يعيشه القطاع، والجواب الأولي الذي يمكن تقديمه في هذا الصدد هو أن التنسيق النقابي مطالب بأن يتحول إلى تنسيق نضالي برؤية جماعية موحدة بدل أن يبقى مجرد وسيلة مؤقتة لاستجداء وزارة الداخلية وانتظار سراب الحوار عبر رسائل أثبتت التجربة بأنها غير مجدية، وإن لم يكن هذا التنسيق النقابي قادرا على فرض حوار جدي بالأساليب النضالية السابقة، فالأجدر به أن يبدع وينوع ويكثف من هذه الأساليب ويطورها لأن أصل الفعل النقابي هو الابداع في التأطير والاحتجاج. كما أن هذا التنسيق مطالب بأن يرفع من سقف المطالب ويعيد ترتيبها، لأنه لا جدوى من المطالبة بتحسين وضعية الموظف الجماعي دون المطالبة بتحسين البنية الادارية والبيئة السياسية التي يشتغل ضمنها، وتخفيف الأعباء والمهام على الموظفين المزاولين عبر اطلاق مباريات توظيف واسعة تعوض آلاف الأطر المتقاعدة والمغادرة للقطاع، والحفاظ على خدمات المرفق الجماعي وتعزيزها.
طبعا حاولت أن أتحدث عن التنسيق النقابي بدل التركيز عن الجامعة الوطنية لموظفي الجماعات الترابية والتدبير المفوض (umt) التي أنتمي اليها، لأن موضوع الحوار القطاعي يعني التنسيق النقابي بكل مكوناته، ولأن الأمل لا زال معقودا على هذا التنسيق ليحرز التقدم في اتجاه خلق ميزان قوى لصالح الشغيلة ويفرض مطالبها على الوزارة، وإن تأخر في اتخاذ ما يلزم من قرارات نضالية وردود أفعال جدية تجاه الأسلوب الهزلي الذي تتعاطى به وزارة الداخلية معه، فإنه بدوره ــ أي التنسيق ـــ سيتحول إلى عائق أمام الفعالية النضالية التي يمكن أن تحافظ على بعض الحيوية النقابية المطلوبة بالقطاع.