التحولات الراهنة بالمنطقة العربية والمغاربية*

التحولات الراهنة بالمنطقة العربية والمغاربية*




مرت إلى حد الآن، ما يقرب من 15 سنة على اندلاع الموجة الأولى من السيرورات الثورية انطلاقا من تونس لتشمل عددا من بلدان منطقتنا العربية والمغاربية(=المنطقة) ضد الفساد والاستبداد ومن أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ولم تُحقِّق هذه الموجات النتائج المرجوة بإسقاط الاستبداد والفساد وإقامة أنظمة ديمقراطية علمانية متحررة من السيطرة الإمبريالية بما في ذلك على مستوى تونس، التجربة الأكثر تقدما، حيث تم انتزاع أكبر المكتسبات المتمثلة في الحريات الديمقراطية. بل شهدنا صعودا لما يسمى بالإسلام السياسي المعتدل المدعوم من طرف الإمبريالية الغربية وأنظمة الخليج ثم عودة الفلول في بعض التجارب أو عسكرة الانتفاضة وتحويلها إلى ساحات اقتتال لقوى داخلية وخارجية في تجارب أخرى.

وتعود الأسباب الذاتية لهذا القصور بصفة عامة إلى غياب برنامج وقيادة حازمة موحدة للنضال الشعبي التحرري في كل بلد من البلدان المعنية.

ومنذ ذلك التاريخ، أي منذ سنة 2010، طرأت عدة تحولات، ديمغرافية واجتماعية واقتصادية وسياسية هامة. فقد انتقل عدد السكان من 364 مليون نسمة سنة 2010 إلى 482 مليون سنة 2023 أي بزيادة 118 مليون. بينما اتسمت نسبة النمو في نفس الفترة بين التاريخين المذكورين بالميل العام نحو الانخفاض وقد انتقلت من 4.8 في المائة سنة 2010 إلى 1 في المائة سنة 2023. وتقدر منظمة العمل الدولية أن المنطقة سجلت، سنة 2022، نسبة للبطالة وسط الشباب هي الأعلى والأكبر تسارعا عبر العالم، وصلت إلى 24.8 في المائة في صفوف الشباب ما بين 15 و24 سنة بينما المعدل العالمي لهذه النسبة هو 15.6 في المائة.

وتثبت المعطيات، تفشي الرشوة والفساد بالمنطقة، حيث انتقلت نسبة المواطنين الذين يؤكدون أن حدة الرشوة بالمؤسسات العمومية كبيرة أو متوسطة، انتقلت من 78 في المائة سنة 2010 إلى 84 في المائة سنة 2019. وتحتل أغلبية دول المنطقة المراتب الدنيا وفق مؤشر مدركات الفساد لسنة 2021.

وتضاعف رصيد الدين الخارجي العمومي لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وضمنها دول منطقتنا حيث انتقل من حوالي 130 مليار دولار سنة 2012 إلى حوالي 268 مليار دولار 2020. وارتفع إجمالي الدين العمومي سنة 2020 إلى 123 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في البحرين و96 في المائة في المغرب و80 في المائة في مصر والأردن وتونس و355 في المائة في لبنان ما يعني تفاقم التبعية للدوائر الإمبريالية العالمية.

هذا دون أن ننسى تفاقم الفقر والغلاء والفوارق الاجتماعية وتدهور مريع لأوضاع النساء والمزيد من الاستبداد والطغيان والتغول والقمع وتغييب الإرادة الشعبية وانتهاك السيادة الوطنية وكل هذا في ارتباط بتطور أزمة النظام الرأسمالي العالمي.

والخلاصة هي أن الأسباب الموضوعية التي كانت وراء اندلاع السيرورات الثورية المشار إليها وخروج الملايين تحت شعار “ارحل” لا زالت قائمة بل تفاقمت كما رأينا من خلال هذه المؤشرات وهناك غيرها.

لذلك فإن مدا ثوريا جديدا قادم لا محالة. بل شهدنا موجة ثانية من تلك السيرورات وقد همت بخاصة لبنان (أكتوبر 2019) والجزائر (فبراير 2019) وقبلهما السودان (دجنبر 2018) حيث تكابد الثورة السودانية المجيدة وتواجه قطبي الثورة المضادة، الجيش وعصابات الجنجويد أو الدعم السريع.

وقد أبانت الثورة السودانية عن جاهزية مثيرة للانتباه سواء تعلق الأمر بالبرنامج الانتقالي أو الجانب التنظيمي (قيادة الثورة) وصلابة نادرة في وجه القمع والمناورات والدسائس ويقظة وسرعة في الرد وقدرة على التكتيك بالمزج بين أساليب مختلفة في المواجهة الميدانية من المسيرات والاعتصامات إلى الإضراب العام الجماهيري والعصيان المدني وتجاوزت بذلك روتين المسيرات الأسبوعية التي سقطت فيه عدد من التجارب.

ولا غرابة أن تنفجر حراكات شعبية كبيرة ذات طابع اجتماعي، متفرقة على مستوى مناطق معينة، هنا وهناك على مستوى كل بلد على حدة كما رأينا في المغرب وفي العراق وتونس وغيرها من البلدان.

ومن أبرز التحولات تسونامي التطبيع الرسمي مع الكياني الصهيوني الذي يعتبر في الواقع تحالفا عميقا معه من طرف الأنظمة المعنية وضمنها النظام المغربي.

على أن المعارك التاريخية الأبرز هي تلك التي خاضها الشعب الفلسطيني، رأس رمح حركة التحرر الوطني العربية وعلى رأسها معركة طوفان الأقصى المجيدة التي وضعت القضية الفلسطينية في صدارة القضايا العالمية. هذه المعركة:

1- عرت طبيعة العدو الصهيوني القائم على الإبادة والتطهير العرقي والتوسع في اتجاه بناء ما يسميه العدو “إسرائيل الكبرى”.
2- عرت طبيعة القوى الإمبريالية وطابعها الاستعماري الفج ونفاق خطابها حول حقوق الإنسان والقيم الكونية ودوسها على الشرعية الدولية رغم محدودياتها والتفافها كلها وراء الإمبريالية الأمريكية بسبب الاندماج الهائل للرأسمال المالي الاحتكاري العالمي المعولم تحت راية نظيره الأمريكي.
3- عرت طبيعة الأنظمة العربية الرجعية التي واصلت تطبيعها وتعاونها مع العدو رغم الإبادة البشعة. وخير دليل هو سفن الإبادة التي ترسو في طنجة للتزود بالوقود والغذاء، أو تفرغ شحناتها في سفن أخرى، ثم الإبحار نحو موانئ فلسطين المحتلة، وكذا اعتقال مناهضي التطبيع في المغرب خير دليل. وأكدت الدرس السياسي البالغ الأهمية أن الموقع الصحيح لهذه الأنظمة إنما هو ضمن صفوف أعداء الثورة الفلسطينية.
4- أكدت أنه بالإمكان إلحاق الهزيمة بهذا العدو المتغطرس بالمقاومة المسلحة وأن تحرير فلسطين بيد شعبها وشعوب المنطقة وأحرار العالم.

انتصرت المقاومة في غزة، أما في لبنان فقد حقق العدو اختراقا ظرفيا وليس انتصارا ولا ننسى أن المقاومة اللبنانية بدورها أمطرته هي أيضا بضربات واسعة وهي ما زالت قادرة على إعادة بناء نفسها. أما ما حدث في سوريا وهو شديد الارتباط بالمواجهة مع العدو الصهيوني فهو إنجاز مهم لصالح العدو. ولا يسمح المجال هنا إلا بارتسامات ومواقف مركزة، في 6 نقط وهي كالتالي:

1- إن سقوط نظام البعث هو نتيجة لمواقفه المعادية للإمبريالية الغربية وللكيان الصهيوني والداعمة للمقاومة اللبنانية والفلسطينية تسليحا وتدريبا وتمويلا واستضافة حيث تقيم كل الفصائل الفلسطينية القومية واليسارية وفق شروط متفاوض ومتوافق حولها على العموم. وهذا طبعا نسبي، فالنظام لم يواجه الكيان الصهيوني عسكريا بشكل مباشر منذ 1973 وارتكن لنظرية التوازن الاستراتيجي المفلسة وتورط في مواجهات مع المقاومة الفلسطينية سنة 1976 وعمل ما بوسعه لاحتوائها.
2- إن هذا النظام لم يكن بالطبع ديمقراطيا كغيره من أنظمة البعث وما شابهها. بل كان قائما على الاستبداد والحكم الفردي لعائلة الأسد. ولم يكن هناك تداول على السلطة، والأحزاب المسموح لها بالعمل كانت عموما تؤثث المشهد وفقط. ولما قامت الانتفاضة الشعبية في 2011 واجهها بالقمع الوحشي وبالشبيحة. فاستغلت القوى الرجعية الإقليمية والإمبريالية والكيان الصهيوني الفرصة لتسليح الانتفاضة وتحولت سوريا إلى ساحة اقتتال بين قوى محلية وإقليمية ودولية.
3- ولكن إسقاطه لم يتم بسبب طابعه الاستبدادي بل بسب مواقفه الوطنية المشار إليها. إن النظام السائد في العربية السعودية مثلا لا وجود فيه لأي مظهر من مظاهر الديمقراطية في حدها الأدنى ومع ذلك فهو يحظى برضى أمريكا والكيان الصهيوني لأنه عميل لهما.
4- لو كان النظام ديمقراطيا لوجد حلولا سليمة للتناقضات ولقطع دابر الفساد الذي استشرى في شرايينه شيئا فشيئا. ولنجح في قطع الطريق على الأعداء المتربصين بسوريا. أما لو كان قائما على الديمقراطية الشعبية، لتعبأ الشعب للدفاع عن وطنه بالسلاح.
5- إن الأمر لا يتعلق إطلاقا بثورة لمن يعرف معنى الثورة. لقد تم تجنيد مليشيات إرهابية تكفيرية عدد كبير جدا من أفرادها من مختلف أصقاع العالم وتم احتلال أجزاء واسعة من سوريا من طرف أمريكا وتركيا والكيان الصهيوني. تركيا وحدها تحتل حوالي 9 آلاف كلم² (9000 كلم²) وأحد أركان سياساتها اضطهاد الأكراد. ولا بد من مواصلة الضغط من أجل انسحاب تركيا من حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يجب أن تتضافر الجهود عالميا لحله بصفة نهائية.
6- إن النظام الجديد بقيادة الجولاني نظام موغل في التخلف والرجعية، يجمع بين الاستبداد الديني والعمالة للصهيونية والأمريكان. وها هو الآن بعدما نصب نفسه رئيسا على سوريا يرتكب أبشع المجازر في صفوف المدنيين من المسيحيين ومن الطائفة العلوية على وجه الخصوص.

إن ما حدث في سوريا جزء من معضلة تاريخية أعم. ففي جميع البلدان التي قادت فيها البرجوازية الصغيرة الكفاح من أجل التحرر الوطني، ووصلت إلى السلطة إما خلال المعركة ضد المستعمر كما في الجزائر أو على إثر انقلابات عسكرية كما في مصر والعراق وسوريا وليبيا، خسرت الأنظمة معركة التحرر الوطني ضد الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية. وهذا أحد دروس النكسة سنة 1967 وأحد العوامل الأساسية في انبثاق اليسار الماركسي-اللينيني بمنطقتنا. وهو درس يسري أيضا على القوى الوسطى التي قادت معركة التحرر الوطني والديمقراطية في بلادنا: فقد فشلت في ذلك بل اندمجت كلها في البنية المخزنية، السياسية والاقتصادية الاجتماعية القائمة.

لذلك فإن قيادة النضال من أجل التحرر الوطني والديمقراطية هي من صميم مهام الطبقة العاملة وعموم الكادحين، وهو ما يطرح بإلحاح ضرورة بناء حزب الطبقة العاملة وعموم الكادحين وهي مهمة طرحتها منظمة “إلى الأمام” في بداية السبعينات ويواصل النهج الديمقراطي العمالي، باعتباره استمرارية سياسية وفكرية لها، العمل على إنجازها.

إن الأوضاع منفجرة وستزيد انفجارا وتبقى منطقتنا منطقة العواصف بدون منازع والصورة ليست قاتمة لأنها تحبل أيضا بمقاومة الشعوب والمطلوب اليوم ما يلي:

* على مستوى منطقتنا، تأسيس جبهة مناهضة للصهيونية والإمبريالية الغربية، وخاصة الإمبريالية الأمريكية، العدو المشترك والأكثر شراسة لكل شعوب الدنيا، يكون من مهامها (أي الجبهة) دعم المقاومة وخاصة الفلسطينية ودعم الشعوب وخاصة الآن الشعب السوداني والشعب السوري للتخلص من هذا النظام الدمية الإرهابي وجلاء الاحتلال الصهيوني والتركي والأمريكي وكافة القواعد والقوات الأجنبية وبناء نظام ديمقراطي.
* على مستوى كل بلد بناء جبهة موحدة للنضال الشعبي (=جبهة الطبقات الشعبية) وبناء حزب الطبقة العاملة وعموم الكادحين يعمل على قيادتها لإنجاز مهام التحرر الوطني والديمقراطية وضمان انفتاحها على أفق اشتراكي.

في هذه السيرورة النضالية يمكن للقوى التقدمية والشيوعية أن تتطور وتتغلب على الصعاب…

معاد الجحري. 15 مارس 2025.

(*) نص مداخلة الرفيق معاد الجحري في الندوة التي نظمها حزب النهج الديمقراطي العمالي يوم 15 مارس 2025، بمشاركة حزب العمال التونسي والحزب الشيوعي اللبناني تحت عنوان “التحولات الراهنة في المنطقة العربية والمغاربية”.