إرهاصات تحول التقاطبات والتحالفات: أية علاقة بأزمة الرأسمالية؟

إرهاصات تحول التقاطبات والتحالفات: أية علاقة بأزمة الرأسمالية؟





إن الأزمة التي انفجرت في 2008 في دول المنظومة الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي تمثلها مجموعة السبعة (الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان وكندا) هي نتيجة لركود مستدام أدى إلى تراجع تدريجي لثقلها في الاقتصاد العالمي.

وقد واجهت هذه المنظومة، وخاصة الامبريالية الأمريكية، هذه الأزمة بواسطة:

– الهجوم على المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية وعلى الحقوق والحريات وتكثيف استغلال الطبقات العاملة وتفقير الطبقات الوسطى وتشجيع القوى اليمينية المتطرفة والفاشية للتصدي للنضالات العمالية والشعبية.

– تصعيد نهب الخيرات الطبيعية للدول التابعة وخوض العديد من الحروب مباشرة أو بالوكالة أو بواسطة مرتزقة لضمان هيمنتها على المناطق الغنية في إفريقيا وأوكرانيا ومناطق أخرى والسعي إلى إخضاع روسيا التي تتوفر على مخزون كبير جدا من النفط والغاز وعلى معظم أنواع المعادن وعلى إنتاج فلاحي هائل، خاصة من الحبوب، وتركيع الصين.إن هذا ما يفسر الحرب بالوكالة التي تخوضها هذه المنظومة، بكل ما أوتيت من قوة، ضد روسيا في أوكرانيا والحرب الباردة ضد الصين ومحاولاتها المزيد من غزو أسواق إفريقيا والنهب لخيراتها والاستغلال لطبقاتها العاملة.

– فرض العقوبات الاقتصادية والحصار على الأنظمة الوطنية والتقدمية والاشتراكية التي تواجه هيمنتها وسرقة أموالها المودعة في بنوك هذه المنظومة. وذلك لتأزيم الأوضاع الاجتماعية لدفع الشعوب إلى الانتفاض ضد أنظمتها (الثورات الملونة). في نفس الوقت تعمل هذه المنظومة على صنع بدائل لهذه الأنظمة ذات طبيعة رجعية وموالية للامبريالية.

– لجوء الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحماية الجمركية، خاصة ضد الصين.

– هكذا هناك 38 بلدا تفرض عليها الامبريالية الأمريكية عقوبات بسبب رفضها الهيمنة عليها وأنظمة تعتبرها أمريكا أعداء لها (الصين وروسيا وإيران وكوبا ونيكاراغوا وفنزويلا وكوريا الشمالية…) وأنظمة تسعى إلى الحد من هيمنة الغرب الامبريالي عليها (الهند ودول الخليج والأنظمة الوطنية والتقدمية في أمريكا اللاتينية…). وتسعى هذه الدول، إما إلى الحصول على هامش مهم من الاستقلالية لقرارها الوطني أو، كما هو الحال بالنسبة للصين وروسيا تناهض الامبريالية الأمريكية. ولذلك، فإنها، أرادت ذلك أم أبته، مضطرة إلى فك الارتباط، إلى هذا الحد أو ذاك، مع النظام العالمي الحالي الذي يهيمن عليه الرأسمال المالي الاحتكاري الغربي بقيادة أمريكا. كما أن عدد من دول غرب إفريقيا (بوركينا فاسو والنيجر ومالي والسنغال) شهد حركات شعبية أدت إلى طرد القواعد العسكرية الفرنسية والأمريكية والتأكيد على السيادة الوطنية ضدا على القوى الاستعمارية.

ويوفر القطب الروسي – الصيني بديلا معقولا لهيمنة القطب الامبريالي الغربي على المستويين الاقتصادي والعسكري (التعادل النووي بين روسيا وأمريكا والقوة الاقتصادية للصين)، أو، على الأقل، إمكانية للحد من التبعية له.

– هناك إذن أمكانية للتلاقي الموضوعي بين تنامي عداء الشعوب للامبريالية الأمريكية وطموحها (أي الشعوب) إلى عالم متحرر من هيمنتها، عالم أكثر عدلا ومساواة من جهة، ومحاولات العديد من الأنظمة والقوى، إما تقليص تبعيتها لهذه الامبريالية أو مواجهة هيمنتها، بما في ذلك عسكريا، كما هو الحال بالنسبة لروسيا الآن في أوكرانيا وكما قد يقع بالنسبة للصين من جهة أخرى. هكذا سيعرف العالم تغيرات جوهرية تتمثل في تكريس عالم متعدد الأقطاب: القطب الذي تتشكل نواته الصلبة من الولايات المتحدة الأمريكية أوروبا الغربية واليابان والقطب الذي تتشكل نواته الصلبة من الصين وروسيا وأقطاب إقليمية قد ترتبط بهذا القطب أو ذاك أو تكون محايدة. إن هذه التطورات، لكونها تؤدي، في نهاية المطاف، إلى تصفية هيمنة الرأسمال المالي الغربي الاحتكاري والريعي والمفترس المسئول الأساسي عن انتشار الحروب ونهب الخيرات الطبيعية والتدمير المتسارع للبيئة وفرض السياسات اللبرالية المتوحشة التي تنشر الفقر وتعمق الفوارق الطبقية، على مناطق شاسعة من المعمور وغالبية سكان العالم، فإنها في مصلحة الشعوب والطبقات العاملة.

لقد سرعت الحرب في أوكرانيا هذه السيرورة لأنها كشفت الطابع العدواني والتوسعي لهذه المنظومة ونفاقها وأكاذيبها. لكن شكل طوفان الأقصى والإبادة الجماعية والتطهير العرقي لغزة لحظة فارقة حيث أدى إلى السقوط المدوي لكل السردية الغربية حول حقوق الإنسان والديمقراطية وحرية التعبير والتظاهر وغيرها من الشعارات البراقة والزائفة وبين، بشكل غير مسبوق، أن هذه المنظومة الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية هي العدو الأكثر شراسة لكل شعوب العالم. هكذا ساهم طوفان الأقصى في المزيد من عزلة هذه المنظومة على المستوي الدولي وضرب مشروعيتها، بما في ذلك في عقر دارها، وخاصة وسط الشباب.

وتتجسد سيرورة تشكل عالم متعدد الأقطاب، الآن، في التحالف الاستراتيجي بين الصين وروسيا وتوسع البريكس ومنظمة شانغهاي للتعاون وغيرها من التحالفات في بعض المناطق، وخاصة في أمريكا اللاتينية (التحالف البوليفاري لشعوب امريكا…)…

لكن لا بد من الإقرار أن هيمنة المنظومة الامبريالية لا زالت قوية لكونها منظومة مندمجة على المستويات السياسية والاقتصادية والمالية والعسكرية والأمنية. إن ذلك لا يعني غياب تناقضات بين مكوناتها. لكن هذه التناقضات ليست تناقضات إستراتيجية، بل تظل ذات طابع تكتيكي وغير عدائي ما دام الصراع الطبقي في مكوناتها لا يهدد هيمنة البرجوازية المالية الاحتكارية السائدة.

هكذا تتوفر هذه المنظومة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على مجموعة السبعة التي هي نوع من القيادة الإستراتيجية الجماعية لها وعلى ذراع عسكري يتمثل في منظمة حلف شمال الأطلسي وأحلاف عسكرية أخرى هجومية وعلى ما يقرب من ألف قاعدة عسكرية ونفقاتها العسكرية تمثل 70 في المئة(1) من مجموع النفقات العسكرية في العالم ويمثل الكيان الصهيوني قاعدتها الأمامية في العالم العربي والمغاربي والشرق الأوسط عموما. كما تتوفر على مؤسسات مالية واقتصادية قوية (البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية) والاتحاد الأوروبي…بينما لا يتوفر القطب االروسي – الصيني على قيادة إستراتيجية من هذا النوع والأحلاف العسكرية البديلة هي دفاعية ولا ترقى إلى مستوى الأحلاف الامبريالية ولا يتوفر سوى على عدد قليل جدا من القواعد العسكرية خارج حدوده والبريكس لا يمثل، لحد الآن، بديلا للبنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والاتحاد الأوروبي.

لكن، برغم القوة الحالية لهذه المنظومة، فإن تراجع ثقلها الاقتصادي وفقدانها لمصداقيتها وتغولها وطموح الشعوب إلى الإنعتاق من هيمنتها وهمجيتها والإمكانيات الهامة لتوسع البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون وبناء روسيا والصين علاقات تحترم سيادة دول الجنوب وتساهم في نموها قد تسرع بتشكل عالم جديد أكثر مساواة وعدلا.

لقد سعت هذه المنظومة، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، إلى تطويق روسيا بهدف الإجهاز عليها ورفضت، رفضا باتا، توفير ضمانات لأمنها القومي، بل استغلت، باعتراف مسئوليها (هولند وميركل)، اتفاقية مينسك التي تقر باعتراف أوكرانيا باحترام اللغة الروسية والحكم الذاتي لسكان الدونباس، لتسليح أوكرانيا والعصابات النازية للهجوم على الدونباس والتطهير العرقي لسكانه الروس. وهي كانت تعرف أن ذلك خطا أحمرا بالنسبة لروسيا. لقد راهنت المنظومة على أن روسيا هي الحلقة الضعيفة لأن اقتصادها ضعيف وهي معزولة سياسيا ودبلوماسيا وقد تنهار بسرعة في حالة دخولها للحرب، وذلك دون أخد بعين الاعتبار أن روسيا تعافت اقتصاديا وطورت صناعتها وتتوفر على خيرات طبيعية هائلة وقيادة سياسية حازمة وبنت علاقات إستراتيجية مع الصين وطورت علاقاتها مع العديد من الدول في إطار منظمة بريكس وبشكل ثنائي، بل حتى مع أنظمة في الخليج…

لقد وعت الامبريالية الأمريكية أن هذه المنظومة قد أخطأت الحساب وقد خسرت الحرب وأن استمرارها يعني التدخل المباشر لمنظمة حلف الشمال الأطلسي، وبالتالي احتمال كبير لانتقال الحرب إلى حرب نووية لا تبقي ولا تدر. لذلك تسعى إلى توقيف الحرب. إن الدول الأوروبية، التي كان يسيل لعابها على خيرات روسيا، تجد نفسها الخاسر الأكبر لأن التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للحرب كانت كارثية عليها بينما استفادت أمريكا اقتصاديا من هذه الحرب وستكون الرابح الأكبر بعد نهاية الحرب حيث ستأخذ حصة الأسد من الخيرات الطبيعية لأوكرانيا. لذلك ليس من الغريب أن يلجأ قادة هذه الدول إلى الخطابات الحربية النارية. لكن هدف هذه الممارسة هو فقط الضغط على أمريكا لتحسين حصتها من نهب خيرات أوكرانيا.





هامش:
(1)
Actual US military spending…
Gizela Cernadas et John Bellamy Foster
Monthly ReviewDecember 2023