حكايات من الزّمن الغابر: الحرّية والاستبداد… صراع لا ينتهي إلّا بانتصار الحرّية

حكايات من الزّمن الغابر: الحرّية والاستبداد… صراع لا ينتهي إلّا بانتصار الحرّية




حكايات من الزّمن الغابر:
الحرّية والاستبداد…
صراع لا ينتهي إلّا بانتصار الحرّية





بقلم: حَمَّه الهَمّامِي

إنّ الصّراع بين الحرّية والاستبداد قديم قِدَمَ الأنظمة الطّبقيّة الظّالمة والاستغلاليّة. وكثير هُمُ الأحرار في تاريخ الإنسانيّة الذين حُبِسُوا ونُكّل بهم وأُعْدِموا في خضمّ هذا الصّراع. وهؤلاء الذين دفعوا حياتهم قربانا للحرّيّة يتخطّون حدود الزّمان والمكان. هم ينتمون إلى كلّ الأزمنة وإلى كلّ الأعراق والأمم والشّعوب والثّقافات والحضارات. وما يُميّز هؤلاء الأَبْطَال، على اختلافهم وتنوّعهم، قَوْلُ حقّ أو دفاعٌ عن فكرة أو رأي أو إطلاقُ نقد أو الصّدحُ بجديد يصدم قديما أو التجرّؤُ على حاكم أو سلطان مستبدّ دون خوف من العاقبة. والعاقبة غالبا ما تكون مفزعة… حبسا وتنكيلا أو قتلا وتمثيلا بالجثّة. وبقدر ما كانت همجيّة الاستبداد لا تجول بخاطر إنسان في قسوتها وصلفها، كان صمود الضّحايا يتجاوز حدود “المعقول” ليرتقِي إلى مستوى أسطوريّ يشهد على قدرة البشرّية التائقة إلى الحرّية والتحرّر على التحمّل والتّضحية والعطاء ونكران الذّات.

وقد شهد تاريخ العرب والمسلمين أُناسا أحرارا من هذا المعدن العزيز النّادر… تكلّموا وكتبوا ونشطوا وتحدّوا فكان مصيرهم على قدر كلامهم وكتاباتهم وأنشطتهم وجرأتهم وشجاعتهم. وكانت التّهمة التي تُلْصَق بهم جِزافًا، “الزّندقة” وهي شبيهةُ تهمة “التّآمر” التي تحوم اليوم بجناحيها في سماء بلادنا لتسقط، فجأة، على رأس أحدهم أو إحداهنّ (مع تقدّم الزّمن لَحِقَ النّساءُ بالقافلة لينلن نصيبهنّ ويتساوين مع الرّجال، على الأقلّ، في العذاب). ونذكر فيما يلي حكايات عدد من “أجدادنا الأحرار” الذين سبقونا بجرأتهم وتحمّل مسؤوليّة مواقفهم وآرائهم ولا حقتهم تهمة “الزّندقة”، على أمل تخصيص جزء ثان يهتمّ بحكايات من عصرنا الحالي وهي أيضا كثيرة في مختلف مناطق العالم بما فيها منطقتنا وحتّى بلادنا الصّغيرة. إنّ هؤلاء جميعا بقديمهم وحديثهم، برجالهم ونسائهم، يضيئون لنا الدّرب ويذكّروننا بأنّ الطّريق نحو تحقيق الكرامة الإنسانيّة في أنظمة الاستغلال والقهر بمختلف أنواعها، من العبودية حتى اليوم، مزروعة بالأشواك ومُعمَّدة بالدّماء والدّموع.

حكاية الجعد بن درهم (666م-742م)
أصله من خراسان التي هجرها للإقامة في دمشق، العاصمة الأمويّة. وهو يعتبر تاريخيّا من أوائل “المتكلّمين” و”رأس طائفة المعَطِّلةِ”. وينسب إليه قوله: “أنّ اللّه ما اتّخذ إبراهيم خليلا، ولا كلّم موسى، وأنّ ذلك لا يجوز على اللّه”. ويندرج هذا الرّأي في إطار نقاش لاهوتي بين الفرق الإسلاميّة. فقد نزّه جعد اللّه، في إطار تعميق فكرة “تجريد التوحيد”، أن تكون له صفات تجعله شبيها بالبشر. لذلك قيل إنّه من “المعطّلة” أي من الذين “عطّلوا الصفات والأسماء ونفوْها”. وهو ما أدّى به إلى القول، وهذا رأي، “بخلق القرآن” أي القول بأنّ “القرآن خلقه اللّه كسائر الخلق” و”ليس منزّلا لأنّ التّنزيل يوحي بأن الكلام صفة من صفات اللّه وهو ما لا يجوز”.

وهو ما يتعارض مع العقائد السّائدة في عهد الأمويّين التي كانت ترفض أي منزع تفكيري يمكن أن يؤدّي إلى وضع الأسس التي بنى عليها هؤلاء خلافَتَهُم وطبَعُوها بطابَع مقدّس، موضع نقد أو شكّ. فعِوَضَ مُوَاجَهة جعْد بن درهم بسلاحٍ فكريّ وفكريّ فقط، اعْتُبَِر من قِبَلِ “فقهاء البلاط” “زنديقا” و”كافرا” وهو ما “يُحلّلُ” دمَه. وحين عَلِمَ جعد أنّه مطلوبٌ فرّ من دمشق إلى الكوفة حيث واصل نشر مذهبه. فقَبَض عليْه الوالي خالد بن عبد اللّه القسري، أثناء خلافة هشام بن عبد الملك. وفي أوّل أيّام عيد الأضحى عام 742م قال خالد وهو يخطب خطبة العيد: “أيّها النّاس ضحّوا تقبّل اللّه ضحاياكم فإنّي مُضَحٍّ بجعد بن درهم، إنّه زعم أنّ اللّه لم يتّخذ إبراهيم خليلا ولم يكلّم موسى تكليما. ثمّ نزل فذبحه في أصل المنبر”.

هكذا ذُبح جعد بن درهم بكلّ وحشيّة وتُرِكَ يتخبّط في دمه. وبما أنّ الاستبداد هو الاستبداد، فإن من يخدمه اليوم يمكن أن يكون ضحيّته غدا، فقد دائرة الدّائرة على خالد بن عبد اللّه القسري في زمن خلافة الوليد بن يزيد الذي أمر بقتله. ويقال إنّ يوسف بن عمر الثّقفي، والي العراق، تولّى تعذيبه وحمله من دمشق إلى الكوفة حيث واصل تعذيبه “وقيل وضع على رجليه الأعواد وقام عليها الرّجال حتى تكسّرت قدماه”.

حكاية غَيلان الدّمشقي (تاريخ الميلاد 724م، تاريخ وفاته مجهول)
صاحب واحدة من أقدم فرق المتكلّمين المسلمين وتُسمّى “الغَيْلانيّة”.

وهي تقوم أيضا على الفكرة القائلة بأنّ الإنسان حرّ، مخيّر لأفعاله، مسؤول عنها. ولم يكن غيلان الدمشقي ليقبل بمذهب الأمويّين “الجَبْرِي”.

كان غيلان ينتقد الدولة الأموية ويعارض خياراتها الاقتصادية والمالية والاجتماعية ويرفض عقيدتها المنافية للحرية ويستقطب المعارضين لها في دمشق ويدعو النّاس إلى مواجهتها. فقُتل وصُلب بأمر من الخليفة هشام بن عبد الملك.

كانت محاكمة غيلان الدّمشقي شكليّة، فقط لتبرير إعدامه المقرّر مسبقا. وقد تولّى مهمّة الادّعاء عبد الرّحمان الأوزاعيّ، أحد أئمّة “الجبرية”، فسأل غيلان ثلاثة أسئلة أوّلها رأيه فيما تقوله “الجبرية” من “أنّ اللّه نهى آدم من الأكل من الشّجرة ثم قضى عليه بأكلها” وثانيها “أنّ الله أمر إبليس بالسجود لآدم ثم حال بينه وبين السجود” وثالثها “أنّ اللّه حرّم الميتة والدم ولحم الخنزير ثم أعان عليها”. وكان جواب غيلان عن الأسئلة الثلاثة: “ليس عندي في هذا شيء”(بلغة اليوم: ما عندي ما نجاوب) لاقتناعه بصورية المحاكمة وعدم جدوى الدّخول في مناظرة مع “فقيه السّلطة”. فأمر هشام بن عبد الملك بقتله.

تقول الرواية إنّ هشام بعد أن أمر بضرب عنق غيلان الدمشقيّ لـ”زندقته” طلب من الأوزاعي أن يفسّر له مغزى الأسئلة التي طرحها عليه ممّا يعني أنّ قرار القتل جاهز مسبقا قبل المساءلة المهزلة. وبلغة عصرنا فإنّ الخليفة بعد أن أمر بإعدام غيلان سأل الأوزاعي “فسّر لي ما قلتَ له”.

وثمّة رواية أخرى لابن عساكر المؤرّخ تقول إنّ الخليفة قال لغيلان في مجلس الخلافةّ مُدّ يدَك، فمدّها فضربها بالسّيف فقطعها ثم قال: مدّ رجلك فقطعها بالسّيف.

“وبعد حين مرّ به رجل والذّباب على يده (المقطوعة) فقال له يا غيلان، هذه قضاء وقدر! فقال: كذبتَ ما هذا قضاء ولا قدر. وصلبه على باب كيسان في دمشق لكن غيلان استمرّ في انتقاد الأمويّين حتّى وهو مصلوب فأمر هشام بن عبد الملك بقطع لسانه فمات”.
يا له من رجل شجاع. “الإنسان يمكن أن يُدمّرَ لكنّه لا يُهزم”. Un homme ça” “peut être détruit mais pas vaincu (أرنست هيمنجواي، رواية العجوز والبحر).

حكاية عبد اللّه بن المقفّع (724م-759م)

صاحب “كَليلَة ودِمْنة” و”الأدب الكبير” و”الأدب الصغير” وهو يُعتبر رائد الأدب السياسي والاجتماعي في التاريخ العربي الإسلامي.

دعا إلى ضرورة احترام الإنسان وتحقيق حرّيّته. كما دعا إلى إقرار المساواة الاجتماعيّة بين البشر وإرساء قيم العدالة بينهم مهما اختلفت أجناسهم ومعتقداتهم وانتماءاتهم الاجتماعيّة. وكان يرى أنّه “لا صلاح للشّعب إلّا بصلاح الحاكم”.

قُتل على يد سُفْيان بن مُعَاوية بن يزيد المهبَلي بإيعاز من الخليفة العبّاسي المنصور. ويُرْوى أنّ جلّاديه أشعلوا تنّورا فيه النّيران ثم بدأوا يقطعون جسمه قطعة بعد قطعة وهو حيّ ويُلقى بها في التنّور حتّى يَرى أطرافه وهي تُحرق ويقال إنّهم كانوا يُرغمونه على أكل لَحْمِهِ ثمّ أُحرقت بقيّته دفعةً واحدةً.

ومن أجمل ما قال ابن المقفّع في آداب النّقاش والجدل: “تعلّم حسن الاستماعِ كما تتعلّم حسنَ الكلام. ومن حسنِ الاستماع إمهالُ المتكلّم حتّى ينقضيَ حديثه، وقلّةُ التلفّت إلى الجواب والإقبالُ بالوجه والنّظرُ إلى المتكلّمِ، والوعْيُ لما يقولُ”، الأدب الكبير والأدب الصّغير.

وأيضا:
“إن سمِعْتَ من صاحبكَ كلاما أو رأيت منه رأيا يعجبك فلا تنْتحِلْهُ تزيّنا به عند النّاس. واكتفِ من التزيّن بأن تجْتنِيَ الصّواب إذا سمعته وتنسبه إلى صاحبه واعلم أنّ انتحالك ذلك مسخطة لصاحبك وأنّ فيه مع ذلك عرا وسُخْفا”، الأدب الكبير والأدب الصّغير.

حكاية أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (801م-873م)
برع في الفلك والفلسفة والكيمياء والطبّ والرّياضيات والموسيقى وعلم النّفس والمنطق. وهو يُعدُّ “أبو الفلسفة العربيّة” أو “فيلسوف العرب”.

صُودرَتْ مؤلّفاته في عهد الخليفة العبّاسي المتوكّل على اللّه وجُرِّد من مَلْبَسِه وهو في عمر الستّين وجُلب في ميدان عامّ وسط تكبير النّاس الواقعين تحت تأثير “أئمّة السّلطان”، المعادين لحرية الفكر وللعلم. ويَذكر بعض المؤرّخين أنّه توفّي في بغداد وحيدا في عهد الخليفة العبّاسي المعتمد.
ومن أشهر ما قال: “لا ينبغي أن نخشى الأفكار الجديدة، أيّا كان مصدرها. ويجب ألّا نخشى الحقيقة حتّى لو آلمتنا، لا ينبغي أن نخجل من تقدير الحقيقة والحصول عليها من أيّ مصدر، حتّى لو أتتْ من أعراق بعيدة وأمم مختلفة عنّا”.

حكاية أبو عبد اللّه حسين بن منصور الحلّاج (857م-922م)
ولد الحسين بن منصور الحلّاج سنة 858م. وهو أحد أبرز مشايخ الصوفية في التاريخ الإسلامي. وقد جعل الحلّاج من التصوّف جهادا ضدّ الظلم والطّغيان. وهو ما جعله في قلب رحى الصّراعات السّياسيّة في عهد الخليفة المقتدر باللّه.

عرف عنه تجواله بين بلاد المسلمين داعيا لإصلاح المجتمع وإنهاء خضوع النّاس لظلم حكّامهم. وقد كسب تعاطف جمهور واسع بل وحتّى عدد من رجال السّلطة والمقرّبين منها.

حُوكِم عام 922م بتهمة الزّندقة. واستباح القضاء والفقهاء وشهود الزّور (شهداء الزّور من قبيل xxx-xx-x موجودون من قديم الزّمان واعتُمِدت شهاداتُهم في قضيّة الحال) دمَ هذا “المحرّض” عليهم وعلى حكّامهم وأسيادهم للتخلّص منه.

بعد الحكم بالإعدام على الحلّاج انطلقت رحلة تعذيبه وعذابه حتى الموت. ففي الليلة الأولى قطع الجلّاد يده اليمنى ثم يده اليسرى. وبعد ذلك شدّوا وثاقه إلى آلة الصّلب. قضى أولى ليالي الصّلب مقطوع اليدين. وفي صباح اليوم الثاني قُطِعت رجله اليُمنى ثم اليُسرى ثم ارتفعت السّياط لتمزيق ما بقي من جسمه إضافة إلى الصّفع والرّكل والسبّ والشّتم. وفي اللّيلة الثانية قطعوا رأسه وأحرقوا جسده.

ويُرْوى أنّ جسده وُضِع في بارية (الحصير المنسوج من قصب) وصُبّ عليه النّفط وأُحرق وحُمل رمادُه على رأس منارة لتنْسِفَهُ الرّيح في 26 مارس من سنة 922م. ونصب رأسه لمدّة يومين على الجسر ببغداد ثم طِيفَ به في خراسان حيث كان للحلّاج أنصار كثيرون.

حكاية أبو العلاء المعرّي (973م-1057م)
صاحب “اللّزوميّات” و”سقط الزّند” و”رسالة الغفران”. وهو شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشّعراء. اشتهر بكونه “رهين المحبسين”، لفقدانه البصر في صغره واعتكافه في منزله.

اعتبر “ضرير معرّة النّعمان” زنديقا وملحدا وفي أفضل الأحوال شاكّا. واعتمد متّهموه على ما اعتبروه “استهزاء بالأنبياء وإنكارا بالبعث والحساب” في شعره ونثره. انتقد الأديان كلّها ولم يفاضل بين إسلام ومسيحية ويهودية ومجوسيّة في نقده.

مات وهو “منفيّ” في منزله.
وطال التكفير حتّى من رَثَوْهُ بعد وفاته فاعتبروهم “جهلة وضالّين”
ومن المعلوم أن أبا العلاء مجّد العقل تمجيدا:
“كذب الظنّ لا إمام سوى العقل
مُشيرا في صبحه والمساء”
——-
“أيّها الغرّ إنْ خُصِصْتَ بعقل
فاسألنْهُ فكلّ عقل نبي”
——-

“أَنُكذبُ العقلَ في تصديقِ كاذبهِم
والعقل أولى بإكرام وتصْدِيقِ”

حكاية أبو الفتح يحيى السَّهْرَوْرَدِي “المقتول” (1154م-1191م)
اشتهر باسم السّهروردي المقتول وهو رجل صُوفّيّ يقال إنّ تفوّقه العقلي جلب عليه نقمة الفقهاء إضافة إلى تعظيمه العلم ونبذه كلّ مظاهر تسلّط الحكّّام. قال عنه أستاذه المارديني: “ذهنه يتوقّد ذكاء وفطنة”.

وتذكر كتب التّاريخ أنّ حاكم حلب، الظّاهر الأيّوبي نظّم مناظرة بين السهروردي و”فقهاء حلب” وهم عادة من “فقهاء السّلطان”، وهي مناظرات تنظّم عادة بصورة شكليّة لإقامة “الحجّة” على المُقرّر إعدامه مسبقا.

وقد أجمع “علماء” حلب بعد هذه المناظرة التي تفوّق فيها السّهروردي عليهم، على “كفره وزندقته” و”إلحاده” واتهموه بتبنّي أفكار القرامطة، بسبب آرائه الحرّة وتفكيره بشكل مختلف عن النظام الرّسمي وسعة اطلاعه على آثار الفلاسفة (أفلاطون خاصّة) والحكماء وأرباب المنطق ورفضه الانصياع لغير قناعاته وأفتوا بقتله.

ويُروى أنّ “الظّاهر الأيّوبي”، حاكم حلب، خيّره بأيّ طريقة يريد أن يُعدم فاختار “أن يُحْبس دون طعام وشراب حتّى يُهْلكَ”. فَحُبس حتّى مات جوعا وعطشا. ولم يكن عمره يتجاوز آنذاك 36 سنة. وثمّة من يقول إنّه قُتل بالسّيف. وفي كلّ الحالات فقد مات شهيد الرّأي الحرّ ولم يتنازل حتّى الموت.

حكاية ابن رشد (1126م-1198م)
انتصر ابن رشد للعقل وبجّله تبجيلا واشتهر بشرح كلّ التّراث الأرسطي وبلغ عدد مؤلّفاته الـ108 وصلنا منها 58 مؤلّفا بنصّه العربي وهي متنوّعة المواضيع.

اتّهم بالزّندقة والإلحاد وقضى القاضي بحرق كتبه. وأمر الأمير المنصور بنفيه إلى قرية خاصة باليهود. وأصدر منشورا يَنْهى المسلمين فيه عن قراءة كتب الفلسفة أو التّفكير وهدّد من يخالف أمره بالعقوبة الصّارمة. ويأتي هذا المنشور الذي يجرّم الفلسفة بعد “الوثيقة القادريّة” التي أصدرها الخليفة العبّاسي القادر بالله (947م-1030م) التي تحدّد المعتقدات التي يجب على المسلمين اتّباعها والمعتقدات التي يمنع عليهم اتّباعها ومنها الاعتزال. كما منعت هذه الوثيقة الاجتهاد تحت طائل العقوبة. وهو ما فتح الباب لعصور الانحطاط.

وقد علّق ابن رشد على حرق كتبه وهو يرى أحد تلامذته يبكي على الفكر الذي تلتهمه النّيران: “إذا كنت تبكي حال المسلمين فاعلم أنّ بحار العالم لن تكفيك دموعا، أمّا إذا كنت تبكي الكتب المحروقة فاعلم أنّ للأفكار أجنحة وهي تطير لأصحابها”.

ومن أشهر ما قال ابن رشد:
“من العدل أنْ يأتي الرّجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتيه لنفسه”، “الحسن ما حسنه العقل، والقبيح ما قبّحه العقل”، “ولو سكت من لا يعرف لقلّ الخلاف”.

هذه حكايات…
هذه “حكايات” بعض رجال الفكر في تاريخنا… عانوا ما عانوا من أجل فكرة أو رأي. لم يُخِفْهُمْ تعذيب أو تنكيل أو قتل شنيع… وتوجد في التاريخ أمثلة أخرى كثيرة من مختلف الأمم والحضارات تخبرنا عن تعرّض مجدّدين ومحدثين ومكتشفين لشتّى أنواع التّنكيل…

اتّهم سقراط بإفساد الشّباب والهرطقة وحكم عليه بالإعدام ورفض الهروب وقُتل بجرعة سمّ… وحوكم غاليلي ودامت محاكمته (على عكس محاكماتنا البرقيّة) من 1610 إلى 1633 واتّهم بالهرطقة وحكم عليه بالسّجن “إلى أجل غير مسمّى” ومات وهو تحت الإقامة الجبرية عام 1842…

ومع ذلك لم تتوقّف الأرض عن الدّوران… كما لم تتوقّف الأفكار عن التطوّر واجدة في كلّ زمن من يتحمّل مسؤوليّة هذه المهمّة والسّير بالبشريّة من مجتمع الضّرورة إلى مجتمع الحرّيّة.
ولولا هذه التضحيات لما تقدّم فكر ولا علم…

ولولا هذه التّضحيات لما دبّ وعي في صفوف “العَوامّ” ولما جدّت ثورات عبر العصور على السّائد، البائد وعلى الظّلم والاستبداد والاستغلال…

إنّ للحرّية تاريخا… كلّ شبر منها يُفتكّ غصبا عن جائر ويُسْقَى بدم أحرار وحرائر ويُحْفَظ بأوجاعهم وعذاباتهم…

إنّ الاستبداد يحاول دائما “إجبار البشر على احتقار أنفسهم” عبر إهانتهم والتنكيل بهم لترهيبهم وإذلالهم وإخضاعهم. ولكنّ البشر الذين اقتنعوا أنّه “لا توجد كرامة دون ألم”، حسب عبارة “أندري مالرو” الشّهيرة، ودون تضحية، تمكّنوا دائما من رفع رؤوسهم وإلحاق العار بجلّاديهم وإجبارهم هُمُ على احتقار أنفسهم.

وكما وُجِدَ في غابر الزّمان أحرارٌ من العرب والمسْلِمين لم َيَرْضخُوا لجبروت الحكّام والسّلاطين المستبدّين وفقهائهم التّابعين، الجائرين فقد وُجِد في أزمنتنا الحديثة أحرار آخرون، من الرّجال والنّساء، أخذوا منهم المشعل واستمرّوا في الدّفاع عن الحرّيّة ضدّ الاستبداد وهم على يقين أنّ هذا الأخير الذي مثّل على الدّوام لازمة المجتمعات الطّبقية الاستغلالية سينتهي بنِهايتِها لتُصْبِح الحُريّة هي القيمة “الطّبيعيّة” لأيّ مجتمع إنساني…
“عش عزيزا…”

حَمّه الهَمَّامي
تونس في 25 ماي/أيار 2025