الصّراع السياسي في تونس: الأقنعة الزائفة
● علي الجلولي
الصّراع السياسي في تونس: الأقنعة الزائفة
تعيش بلادنا أزمة عميقة وشاملة مستّ كل مناحي حياة الشعب التونسي الذي ثار ضد الدكتاتورية وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية الفاسدة التي لم تجلب للبلاد سوى التبعية وللشعب الفقر والبطالة والبؤس. واليوم وبعد عشر سنوات من سقوط الدكتاتورية لم تتغير أوضاع الوطن والشعب نحو الأفضل، بل هي في جوانب عديدة منها تسير القهقرى. وفي مثل هذه المنعرجات والظروف الصعبة والدقيقة يكون للمثقفين مساهمات وآراء ومواقف فيما جد ويجدّ من أجل تفسير ما يجري و”تأويله” وكشف ما خفي منه وتحديد اتجاهات تطوره وتقديم ملامح حلول له كلّ حسب منطلقاته والمصالح التي يدافع عنها.
المثقفون ليسوا محايدين أو مستقلين.
إنّ المثقفين، كما هو معلوم، ليسوا طبقة اجتماعية منسجمة ولا كتلة بشرية ذات مصالح موحدة، بل هم ينحدرون من أصول اجتماعية مختلفة ويرتبطون بمصالح طبقية وسياسية متباينة في المجتمع رغم ما ينزع إليه بعض المثقفين، عن قصد أو غير قصد، إلى تصوير أنفسهم فوق المصالح الاجتماعية والسياسية المتنافرة والمتناقضة. لكن مسار الحياة يكشف في لحظة من لحظاته حقيقة هذه المزاعم بخلفياتها وأهدافها. وهذه القاعدة تنطبق تماما على مثقّفي تونس وجامعييها وفنانيها ومبدعيها من مختلف الاختصاصات الذين لم يشكلوا بالمرة في مختلف ردهات الصراع السياسي والاجتماعي في بلادنا، منذ المرحلة الاستعمارية إلى اليوم، كتلة متجانسة بل شقّتهم الخلافات والصراعات والاصطفافات وراء هذا المعسكر أو ذاك، فكان منهم الموالي للمستعمر وعملائه المحلّيين، كما كان منهم المعارض لهما المصطف وراء الحركة الوطنية. وكان منهم الموالي للدكتاتورية في العهدين البورقيبي والنوفمبري كما كان منهم المناهض والمقاوم لها. والأمثلة على ذلك كثيرة.
ومن الواضح أن هذه الحالة تتواصل إلى اليوم. إن مواقف المثقفين والمبدعين والأكاديميين لم تكن نفسها من الثورة، وهي لم تكن نفسها من منظومة الحكم ما بعد سقوط الدكتاتورية أيضا. واليوم ومع اشتداد الصراع داخل قوى اليمين، في السلطة وخارجها، وبين منظومة الحكم من جهة والشعب وقواه الحية، الثورية والتقدمية، من جهة، ثانية، تعالت أصوات جامعيين وأكاديميين منادية بضرورة الانخراط في الصراع السياسي الجاري بالبلاد. وقد اختاروا له مظهرا من مظاهره وهو الصراع الذي اندلع في البرلمان ثم في الفضاء العام بين “الحزب الدستوري الحر” الذي تقوده عبير موسي من جهة و”حركة النهضة” في الجهة المقابلة. لقد أعلن بعض المثقفين التفافهم حول “موسي” ودعوا إلى النفير العام لإسنادها “لمنازلة حركة النهضة” في الاستحقاقات الانتخابية القادمة. وحين يناقشهم البعض بحجة أن “موسي” هي من رموز الدكتاتورية والاستبداد وأنها لا ترمز في هذا الصراع إلى الحرية والديمقراطية وإلى العدالة الاجتماعية والتحرر من ربقة التبعية، يتجهون إلى التعلل بأن الأوضاع اليوم وخاصة من جهة موازين القوى تفرض الاصطفاف وراء “موسي” لإلحاق الهزيمة بالظلامية، مدعين أن الانتصار “لموسي” وحزبها هو في كل الحالات انتصار “للتوجه الجمهوري المدني” الذي يمكن الصراع معه سياسيا، وهو لن يمسّ المربعات الأساسية للحرية وأساسا الحريات الشخصية.
إن هذ الموقف يتطلب في تقديرنا المناقشة بهدف الكشف عن تهافته فضلا عن تبعاته الخطيرة على المسار التحرري للشعب التونسي الطامح إلى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في إطار من التحرر التام من كافة أشكال الهيمنة الأجنبية المباشرة وغير المباشرة.
هل يجب أن نلدغ ألف مرّة لكي نتّعظ؟
وجب التذكير بأن ذات الموقف الصادر اليوم وقع تسويقه سنة 2014 بمناسبة الانتخابات العامة الرئاسية والتشريعية. فعلى خلفية هيمنة “حركة النهضة” على المجلس الوطني التأسيسي وعلى السلطة وما أثارته من مخاوف جدية على مصير الحريات في تونس خاصة إثر الاغتيالات التي طالت رمزين من رموز الجبهة الشعبية، وقع تأسيس “حزب النداء” بروافده التي تجمعت حول شعار مناهضة “الإسلام السياسي” وضرورة إعداد العدة لهزمه في الاستحقاق الانتخابي لنهاية 2014. لقد تم تجييش الساحة العامة حول منطق “خطان متوازيان لا يلتقيان أبدا”، وأن “من ليس مع النداء فهو مع النهضة”. وقد لعبت عديد الأوساط الأكاديمية دورا نشيطا لإسناد الباجي قايد السبسي وحزبه حول هذه المهمة، بل إن العديد سوّقوا حينها لفكرة أن “المسؤولية التاريخية” للنخب والمثقفين تتطلب خلق “قطب حداثي” حول “النداء” بعنوان “خلق الكتلة التاريخية” لقلب الأوضاع لصالح “الجمهورية المدنية الديمقراطية”. وقد ناوأ العديد من أنصار هذه الفكرة “الجبهة الشعبية” التي كانت حينها في ذروتها باسم أن “اليسار مازال ضعيف” ولن يقدر على منازلة “الإخوان” وهو ما “يحتّم” في نظرهم الابتعاد عن كل فكرة لتكوين كتلة جديدة تشق طريقها باستقلالية عن شقّي الرجعية “الإخواني” و”الحداثي” الزائف من أجل السير قدما نحو تحقيق أهداف الثورة.
وعندما كنا نجادل هذه الأفكار بطرح الملف الاقتصادي الاجتماعي ومن ثمة العدالة الاجتماعية باعتبارها جزءا من الحداثة، كان مثقفو “الجبهة المدنية” يُصّرون على أن أساس الصراع اليوم هو “النمط المجتمعي” الذي تستهدفه حركة النهضة الإخوانية. والنمط المجتمعي في تقديرهم يتمحور حول الحريات الشخصية أي حرية الضمير والمعتقد والتفكير واللباس… أما المطالب الخاصة بالتوجهات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبالتحرر من ربقة الاستعمار الجديد، فهي مؤجلة، والإصرار على طرحها هو في نظرهم من قبيل “الطفيليّة والشعبويّة ” فضلا عن اتهام اليسار المنعوت “بالأيديولوجي” بـ”عدم النضج” إذ النضج في عُرْفِهم هو التذيل الدائم لأحد أقطاب البورجوازية والرجعية. ولما انتصر “النداء” في الرئاسية والتشريعية، سقطت نظرية “الخطان المتوازيان” وبقية الحكاية معروفة لدى الخاص والعام إذ التقى “الخطان” بقدرة “قادر” (وهذا “القادر” هومصالح اللوبيات المحلية والإقليمية والدولية). ومن المعلوم أن العديد كان على علم بأنه حين كانت الأصوات تعلو من جهة “النداء” زاعمة أن الخطين” متوازيان، ومن جهة “النهضة” أن “النداء” “أخطر من أنصار الشريعة الإرهابيين”، كانت ترتيبات لقاء باريس تتخمّر وراء الأكمة. كما كان على علم بأن خطاب التشنيع والتشهير “بالإخوان” كان في إطار اصطفاف إقليمي كشفت بعض فصوله المخزية أخيرا على شاشات التلفاز (“كرادن” المليارات التي تحدث عنها مؤخرا لزهر العكرمي أحد مؤسسي “النداء”)، وكان أيضا لتفويت الفرصة على الشعب لاستعادة ثورته بمناهضة أطروحات الاستبداد والتبعية جديدها وقديمها. وقد لعب، في هذا السياق، بعض المثقفين دورا نشيطا في تعمية الأبصار والبصائر، وفي إشاعة الوهم، ووجدوا أنفسهم بعد مدة قصيرة جدا على هامش “وفاق الشيخين وحكمتهما”. ومن بقي منهم على “المائدة” تحوّل إلى خادم ذليل في معركة التوريث وصراع العائلات المتنفذة.
ودون أن نسمّي الأشخاص، يصرّ بعض هؤلاء اليوم على القيام بنفس الدور وبنفس الحجج: “نتوحّدو وراء عبير لإسقاط الغنوشي، وبعد ذلك لكل حادث حديث”. ولا يتوانى بعضهم عن الاستنجاد بالمعجم الماركسي فيما يخص التناقضات وضرورة التمييز بين “الرئيسي” منها و”الثانوي” لتوظيفه بهدف تبرير انتهازيته ونزعته الدائمة إلى التهادن مع البورجوازية الليبرالية حيث لا يرى نفسه إلّا ذيلا من ذيولها. وفي هذا السياق لعب هؤلاء، كما يلعب أيّ مثقف انتهازي، دورا في بلورة شعار المرحلة لـ”زعيمة الحركة الوطنية الديمقراطية الجديدة”، عبير موسي، وحزبها وهو شعار “ثورة التنوير” المغشوش. والقصد من هذا واضح وهو دغدغة “أنا” المثقفين الآخرين، المترددين منهم بالخصوص، وتجنيدهم حول شعار “التنوير” باعتباره “شعارهم”. وبهذه الطريقة يكون من السهل اتهام كل من لا يسايرهم بأنه ضدّ “التنوير” وبأنه “تخلى” عن “دوره” و”مهمته” كمثقف. وبالطبع فإنّ التنوير كلمة سحرية وشعار برّاق، وهو الذي انبنت عليه مرتكزات الحداثة الأوروبية في القرنين 18 و19. ولكنّ “عبير موسي” و”مثقفيها” الملتفين حولها لا يرون في التنوير قيمه الاجتماعية ومضمونه الاقتصادي التاريخي، فهم يطمسون الحقيقة التاريخية وهي أن التنوير والحداثة الأوروبية بشكل عام تمت في سياق ثورة اجتماعية عميقة كنست الإقطاع بكل مظاهر تخلفه وعوّضته بالرأسمالية التي كانت خطوة جبارة في التاريخ. وقد كان مثقفوها ومفكروها حاملي رسالة ثورية. أما “مثقفو عبير” فـ”رسالتهم” لا يمكن مقارنتها أصلا برسالة روسو وسبينوزا ولوك وكانط وغيرهم من حاملي لواء التنوير والحداثة التي لامسوا كل شروطها التاريخية.
إن “مثقفي” عبير موسي، لا يتجاوز التنوير عندهم إخراج حركة النهضة من الحكم واحتلال مكانها لمواصلة خدمة مصالح السماسرة، (“الكمبرادور”) في إطار نفس الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية المعادية للشعب والوطن وإقامة استبداد قديم/جديد بغلاف “حداثي” كما كان الأمر زمن بن علي. ومن المعلوم أن السبسي أقام “مشروعيته” هو أيضا على شعار “الحداثة”، لكن في الوقت ذاته كان يرتب للإخلال به. ولم تكن المعركة السياسيّة/الدعائية التي خاضها إلا لتحسين شروط العمل مع “حركة النهضة” بتعليمات خارجية لم ينكرها لا السبسي ولا الغنوشي اللذان صرحا بأن “المصلحة العليا للوطن” تقتضي العمل بعضهما مع بعض، فهما “جناحا تونس” التي لا يمكن أن تطير إلا بوجودهما. فماذا سيكون رأي مثقفينا “الأشاوس” بعد الانتخابات القادمة إذا أعيد نفس السلوك؟ هل غاب عن هؤلاء أن “الإخوان” في تونس نشأوا في أواخر ستينات القرن الماضي في أحضان حزب بورقيبة؟ وهل غاب عنهم أيضا أن “حركة النهضة” كانت أمضت مع بن علي وثيقة الميثاق الوطني” وأن زعيمها كان صرح وقتها أن لا ثقة له إلا بالله وزين العابدين بن علي؟ وللإشارة فإنّ الغنوشي وأقطاب حركته يعتمدون نفس منطق عبير موسي لخلق اصطفاف قوي حولهم، إذ يركزون دعايتهم تارة على أن “الإسلام والمسلمين في خطر” وأن مهمة اليوم هي مواجهة “العلمانيين الاستئصالين” والانتصار عليهم وبعد ذلك “سنرى” وتارة أخرى على أن “الثورة في خطر” لكسب تعاطف القوى التي كافحت ضد الدكتاتورية وتجنيدها ضد “الدستوري الحر” وبعد ذلك “سنرى”. (كما يوجد صنف آخر يسعى إلى خلق اصطفاف آخر حول قيس سعيد بعنوان “مقاومة الخطر الأكبر” أي حركة النهضة، وهذا الصنف لا يهمه هو أيضا ما يطرحه قيس سعيد من أفكار وما يتخذه من مواقف معادية للحريات والديمقراطية والمساواة بدعوى أن الوقت “لا يتطلب إثارته الآن”. (وهذا الموضوع سنعود إليه في مناسبة أخرى).
خيانة المثقف تُضَاعِفُ الخسارة.
إن المثقف العضوي الذي يرتبط بقضايا وطنه وشعبه يلعب دورا أساسيا في إنارة الطريق وشحذ المعنويات وفتح الآفاق. أما المثقف الانتهازي فهو لا يكتفي بارتكاب الخيانة بل يعمل جاهدا على تبريرها بإشاعة التحاليل والقراءات التي تربك بعض الفئات من الشعب. وهو ما أشار إليه قائد الثورة الروسية ومفكرها الرئيسي، ف.إ.لينين بالقول: “إن المثقفين هم الأقدر على الخيانة لأنهم الأقدر على تبريرها”. إن التحاق بعض المثقفين بمشروع عبير موسي ودعوتهم إلى اصطفاف الجميع وراءها، هو نتاج قراءة قاصرة تعكس كمّ الارتباك وكمّ الضعف وضيق الأفق الذي يطال هؤلاء تحت سياط الاستقطاب الثنائي الرجعي. وكم أنّه فظيع عدم الاستفادة من/ والاستنارة بـ/ التجارب السابقة بما فيها القريبة جدا في الزمان وحتى المكان. لقد لعب بن علي على هذه الثنائية الرجعية وخلق اصطفافا “واسعا ” صلب “المثقفين” حوله في بداية التسعينات حين احتدم الصراع مع حركة النهضة. لقد سوّق العديد منهم (وكثير منهم من بين من يسوّقون اليوم للاصطفاف وراء عبير ومن قبلها وراء السبسي) وقتها أن المطلوب هو “مساندة” بن علي للتصدي للظلامية، مروجين أن بعد الانتصار عليها “ستشرق شمس الحرية”. ولكن الجنرال الطاغية ما أن صفّى “خصمه الاخواني” ، حتى التفت، من جملة ما التفت، إلى “داعميه” ليفرض عليهم صمت المقابر. لقد كان المثقفون من أكب ضحايا بن علي الذي عرفت الثقافة في “عهده المبارك” تراجعا غير مسبوق في منزلتها وأوضاعها.
وحتى تكتمل السردية التاريخية فقد لعب بعض “مثقفي البلاط” أقذر الأدوار حين كان الرصاص يدوّي في الحوض المنجمي سنة 2008 وفي كل جهات تونس أثناء الثورة، وقبلهما حين كانت “الماتراك” تعلو ظهور المناضلين والشعب ويُزجّ في السجون بالطلبة والنقابيين والمعطلين والمعارضين الديمقراطيين والثوريين ومنهم مناضلات حزب العمال ومناضلوه. لقد دافعوا عن “ولي النعمة” وأطالوا في أنفاس نظامه، مختلقين شتى الذرائع لتبرير خياناتهم واصطفافاتهم. قلة قليلة فقط من المثقفين كان لها البصر والبصيرة ولم تنخرط في الاصطفاف المغشوش، كما هي قلة قليلة من القوى السياسية والجمعياتية التي وعت طبيعة نظام بن علي الاستبدادية وطبيعة صراعه مع حركة النهضة وأهدافه.
حول طبيعة الصراع “الإخواني/الدستوري” وموقع الشعب فيه.
إن الصراع الدستوري/الاخواني في مختلف ردهاته منذ اندلاعه بداية الثمانينات، لم يكن في جوهره صراعا لصالح الشعب. ولم يكن أيّ من الطرفين يمثل تطلعات الشعب ومطالبه، فالأول كما الثاني يحملان مشروعا قهريا للشعب التونسي. وهذا ما أكدته التجربة المريرة لهذا الشعب، فتقارب الظلاميين مع النظام الدستوري زمن بورقيبة وبن علي، كما صدامهما، كان دائما على حساب الشعب والحرية. فالنظام الدستوري ظل لسنوات طويلة منذ بداية السبعينات إلى بداية الثمانينات “يخدم” بالإخوان للتصدي لليسار خصمه الأساسي، وكان “الإخوان” الأداة الطيّعة. ولما اشتد ساعدهم ومرّوا إلى مرحلة المواجهة، كانت العصا والسجون في انتظارهم، وطيلة عشرية الثمانينات كانت العلاقة بين الطرفين علاقة صدام وتهدئة ولم تكن في يوم علاقة قائمة على مبادئ وقيم من أي جهة منهما، فالنظام استعملهم في معاركه مع خصومه وحين يستشعر خطرهم يضربهم ثم يسرّحهم وهو ما استمر حتى بداية التسعينات حين أعلن عليهم بن علي الحرب الشاملة التي سماها مثقفوه حينها معركة “تجفيف المنابع”. لكن عصا بن علي لم تكن تعبر مطلقا (نقول مطلقا) عن أنّ الصراع معهم كان على خلفية أنهم يمثلون خطرا على الحرية والتقدم، فبن علي لم يكن حينها ولا في أي لحظة من اللحظات رمزا للحرية والتقدم. لقد كانت معركته معهم باعتبارهم خصما سياسيا يهدد كرسي الحكم لا غير. وكان بن علي على دراية أكثر من غيره بتسربهم إلى الأجهزة العسكرية والأمنية وإلى كل مفاصل الدولة، فاستغل الكشف عن جهازهم الأمني الموازي وعن حجمهم التنظيمي خاصة في انتخابات 1989 التي شاركوا فيها ودعموا بن علي، كما استغل الظرف الإقليمي والدولي المواتي للإجهاز عليهم وتحييدهم وبسط سيطرة تكاد تكون مطلقة على المجتمع. وقد كان حزب العمال من القلة القليلة التي فهمت آنذاك الوضع وظل في المعارضة ودفع الثمن غاليا.
موقع المثقف الحقيقي/العضوي في قلب الصراع الحقيقي.
إن إصرار بعض المثقفين على استعادة نفس السلوك ونفس الممارسة، ما هو إلا انخراط في صراع رجعي بين مشاريع منسجمة اقتصاديا واجتماعيا، وحتى سياسيا رغم بعض الخلافات الشكلية. إن الحزب الدستوري لم يكن لا ماضيا ولا حاضرا يحمل مشروعا ديمقراطيا، بل ظل على الدوام رافعة للاستبداد والحكم الفردي والنظام الرئاسوي والدولة القمعية البوليسية. إن الفارق بين حركة النهضة وحزب عبير موسي مثل الفارق بين الطاعون و الكوليرا. وبالمقابل فإن مصلحة الشعب تكمن في ديمقراطية حقيقية، ديمقراطية سياسية واجتماعية، وتحرّر وطني فعلي يقطع مع التبعية والاصطفاف الإقليمي والدولي. إن حركة النهضة تحمل مشروعا ظلاميا. هذا أمر لا مراء فيه. وقد أكدته تجربتها في السلطة. وبالإضافة إلى ذلك فلا أحد يمكنه إعطاءنا دروسا في مواجهتها، فكتاباتنا تدلّ علينا بما في ذلك في فترة “هيئة 18 أكتوبر”. ولكن موسي تحمل أيضا مشروعا استبداديا ذا قناع حداثوي وهو ما أكده النظام المخلوع الذي عملت في ركابه وثار ضده الشعب. كما يؤكده اليوم عداواتها للثورة ومواصلة تمجيدها، بكل صلف، (cynisme) نظام بن علي ومواقفها من مختلف قضايا الشعب بما في ذلك قضايا الحريات والحقوق وآخرها موقفها من عاملة النظافة بمجلس نواب الشعب ومن الإعلاميين وحرية الإعلام.
وحتى يفهم الناس المسألة أكثر من المهم، في خاتمة هذا المقال، ملاحظة هذه المفارقة ذات الدلالة العميقة. إن حركة النهضة الظلامية، بكل تأكيد، تستعمل اليوم القناع الحداثوي لترويج مواقفها وإقناع أولياء نعمتها من القوى الغربية بأنها ليست “إخوانية” ولا حتى “إسلامية”. ومن الجهة الأخرى فإن عبير موسي التي تدّعي أنها “حاملة لواء الحداثة” في تونس و”السد المنيع” ضد “الإخوان” ترتبط إقليميا بأكثر القوى رجعية وظلامية وعلى رأسها السعودية والإمارات إضافة إلى نظام الفاشية العسكرية العميلة في مصر. وهو ما يبين زيف الطابع “الحداثي” لهذا وذاك واشتراكها الجوهري في الاستبداد بقطع النظر عن بعض الفوارق التي لا بطل ذلك الجهر المشترك. ومن هذا المنطلق فإن موقع المثقفين الحقيقيين لا يمكن أن يكون إلا ضد هذين الطرفين ومشروعيهما. إن موقع المثقفين العضويين الأصلي هو مع شعبهم وتطلعاته العادلة والمشروعة في الشغل والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهي تطلعات لا يحملها لا اليمين ذو القناع الديني ولا اليمين ذو القناع الحداثوي، وإنما تحملها القوى الثورية ذات المشروع التاريخي في التغيير التقدمي لصالح الكادحين والمضطهدين والمثقفين والنساء والشباب، أي لصالح أغلبية المجتمع. إن هذا المشروع يمكن أن يظل، لأسباب موضوعية وذاتية، ضعيفا وأقليًّا لفترة من الزمن، تطول أو تقصر، ولكنه يبقى المشروع الجدي والوحيد القادر على تحقيق آمال الشعب وطموحاته التي كافح من أجلها وما يزال يكافح. إنه الطريق الأمثل والأسلم ولكنه يتطلب صبرا ومثابرة وقناعة وهو ما لا يتوفر لدى المثقف “المزروب”…