أوضاع الطبقة العاملة الفلسطينية تزداد تدهورا واقتصادنا الوطني في حالة تراجع
بقلم : تيسير خالد
تحتفل الطبقة العاملة الفلسطينية هذا العام بعيد العمال العالمي ومستقبل نضالنا الوطني يقف على مفترق طرق. وفي مناسبة كهذه يقف من هو في اليسار وفي صف الحركة العمالية والنقابية في موقع الدفاع عن حقوق ومصالح العمال في مواجهة ما يتعرضون له من ظلم واستغلال على أيدي أرباب العمل. هذا هو الطبيعي والمتعارف عليه في تراث وتقاليد الحركة العمالية والنقابية.
اقتصادنا الوطني هو الآخر يقف على مفترق طرق، فإما التحرر من التبعية للاقتصاد الاسرائيلي والانطلاق نحو افاق أرحب تفتح أمامه فرص التطور وإما مواصلة الدوران في مزيد من التبعية والتدهور والركود. وفي الظروف الاقتصادية والوطنية الصعبة التي نمر بها لا أجد من موقعي كيساري فلسطيني حرجاً في الدفاع عن الطبقة العاملة الفلسطينية وعن الصناعيين الفلسطينيين والصناعة الفلسطينية في آن. ليس في هذا أي إخلال في الالتزام الفكري أو الأيدولوجي، الذي أحمله نحو الطبقة العاملة دون غيرها. صحيح أنني لا أنتمي إلى “حزب أو طبقة الرأسماليين والصناعيين”، بل إلى حزب يدافع بثبات عن حقوق ومصالح العمال وفقراء الفلاحين وسائر الكادحين، غير أن ما وصلت إليه أوضاعنا المعيشية والاقتصادية على وجه التحديد يدفعني من الموقعين الوطني والطبقي لمحاولة التوفيق بين الدفاع عن حقوق ومصالح العمال والدفاع عن الصناعة الوطنية، التي تدهورت أوضاعها على نحو مفزع ليس فقط بسبب سياسة الاحتلال بل وكذلك السياسة الخاطئة التي مارستها الحكومات المتعاقبة في السلطة الوطنية الفلسطينية.
هنالك ترابط واضح بين حالة التدهور التي تمر بها الصناعة الوطنية بشكل خاص والاقتصاد الوطني بمختلف فروعه وخاصة الانتاجية منها بشكل عام وحالة الاحباط والاحتقان التي تمر بها الطبقة العاملة الفلسطينية. الصناعة الوطنية صناعة بسيطة، وهي في هيكلها الأساس صناعة تحويلية، بعضها شق طريقه بصعوبة بالغة في ظل القيود والضغوط الهائلة لسياسة الاحتلال الاسرائيلي وفي ظل القيود التي كبلها بها اتفاق باريس الاقتصادي، الذي تم التوقيع عليه مع حكومة إسرائيل عام 1994. سوق اقتصادية واحدة وغلاف جمركي واحد بين اقتصاد بسيط وآخر متطور تقوده ثورة العلوم والتكنولوجيا والاتصالات، وضعت قيوداً وولدت ضغوطاً لا يمكن تجاهلها بانعكاساتها السلبية على أداء الاقتصاد الفلسطيني وتطور الصناعة الفلسطينية. ورغم ذلك شقت بعض الصناعات الفلسطينية طريقها في ظل هذه القيود والضغوط . صناعات أخرى شقت طريقها على أساس التعاقد من الباطن مع الاقتصاد الإسرائيلي والسوق الإسرائيلية، ورغم كل القيود والضغوط ارتفعت مساهمة الصناعة الفلسطينية في الناتج المحلي الإجمالي من 11% عام 1994 إلى 18% عام 2000 لتعود بعد ذلك الى الانخفاض وتبقي على امتداد السنوات العشر الماضية تتراوح هبوطا وصعودا بين 10 – 13 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي. وفي ظل ذلك كان هيكل الانتاج يتحول ويتطور وإن ببطء شديد، وكذلك الحال هيكل العمالة ومدخلات الناتج القومي الإجمالي، الذي كانت عوائد الدخل من الخارج وفي الأساس من العمل في المشاريع الإسرائيلية ومن تحويلات المغتربين تشكل جزءاً مهماً من مكوناته يصل في المعدل العام وفي حالات الاستقرار وفتح سوق العمل الاسرائيلي أمام العمال الفلسطينيين يتراوح بين 30 – 35 % من الناتج القومي الاجمالي . تلك نسبة عالية بكل تأكيد وكانت في محطات معينة تفوق في قيمتها ومعدلاتها حصة قطاعات الصناعة والزراعة والإنشاءات مجتمعة.
وعلى امتداد السنوات العشر الماضية عاش الاقتصاد الوطني فترات من الصعود والهبوط وكان معدل نمو الناتج المحلي الاجمالي يعلو ويهبط متأثرا بالتطورات الجارية محليا بالدرجة الرئيسية وبشكل عام بالضوابط والكوابح التي تفرضها سياسة سلطات الاحتلال مع تفاوت بالضرورة في معدلات النمو بين الضفة الغربية ومثيلاتها في قطاع غزة لاعتبارات متعددة بعضها سالب يتصل بالحصار المفروض على قطاع غزة وبعضها موجب يتصل ايضا بتدفق مساعدات إعمار ما دمرته الالة الحربية الاسرائيلية في القطاع كذلك، أما نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي في فلسطين (الضفة + القطاع ) فبقي يراوح في حدود 1750 دولار صعودا وهبوطا، مع الاخذ بعين الاعتبار بأن الحسابات تختلف إذا ما أخذنا الضفة الغربية وقطاع غزة كلا على حده وهو ما نجده أحيانا في حسابات المؤشرات الاقتصادية لدى بعض المختصين ومراكز البحث وحتى في حسابات جهاز الاحصاء المركزي الفلسطيني.
وبالنسبة للقطاعات الانتاجية فقد مرت بمراحل تطور شهد فيها كل من هيكل العمالة وهيكل الانتاج تراجعا على نحو واضح . فقد كانت حصة الزراعة في الناتج المحلي الاجمالي في سبعينات القرن الماضي تساوي 35 يالمئة ولكنها هبطت مطلع هذا القرن الى 9.5 بالمئة وواصلت عملية الهبوط الى ما هو دون ذلك بكثير، وكان قطاع الزراعة يوفر العمل لنحو 39 % من العاملين في القطاع الخاص لتتراجع هذه النسبة على نحو مفزع بعد قيام السلطة لاعتبارات متعددة. فقد طال التغيير في هيكل العمالة القطاع الزراعي لإقبال العاملين في هذا القطاع على العمل في المشاريع الاسرائيلية من ناحية والعمل في الوظائف الحكومية للسلطة الوطنية من ناحية أخرى. وهكذا بدأ الاقتصاد الفلسطيني يعاني تشوهاً في تركيبته وبنيته، حتى أصبح قطاع الخدمات يشكل حوالى 66% من إجمالي الناتج المحلي الاجمالي على حساب القطاعات الإنتاجية، وقطاع الزراعة يشكل حوالى 3% والصناعة 13% والإنشاءات 8%، لنستنتج من ذلك أن بنية الاقتصاد الفلسطيني لم تعد مولدة للعمالة كون الجزء الأكبر منها يتركز في القطاعات غير الإنتاجية.
دون شك أخذت الأوضاع تتغير ودخل الاقتصاد الفلسطيني وفي المقدمة منه فروع الصناعة الوطنية رحلة تراجع كبير وتدهور مفزع بعد إعادة احتلال الجيش الإسرائيلي للمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية في نيسان 2002 وما رافق ذلك لسنوات من سياسة الإغلاق والحصار وأوامر منع التجول وتدمير البنى التحتية التي أنفقت عليها السلطة في السنوات الاولى مئات الملايين من الدولارات بهدف تحسينها لتسهم في دورة عجلة الاقتصاد ، حيث كان لها إلى جانب قيود وضغوط اتفاق باريس الاقتصادي أثر بالغ للغاية على تدهور وتراجع هيكل الانتاج وهيكل العمالة وعلى الناتج المحلي الإجمالي. فالناتج المحلي الإجمالي تراجع في هذه السنوات وحصة الفرد من الناتج القومي الاجمالي انخفض بحدة والبطالة أخذت تتصاعد بمعدلات عالية، ومعدل الإعالة الاقتصادية أخذ يرتفع في الضفة الغربية بمعدلات ملحوظة وفي قطاع غزة بمعدلات اكبر. ومستوى خط الفقر أخذ بدوره يرتفع في الضفة الغربية وفي قطاع غزة. سياسة الحصار والخنق الاقتصادي وسياسة تدمير البنى التحتية، التي مارستها حكومة إسرائيل انعكست آثارها السلبية بصورة واضحة على الاقتصاد الفلسطيني وفروعه المختلفة بما فيها الصناعة الوطنية وعلى أوضاع الطبقة العاملة كذلك. وجاء بناء جدار الفصل العنصري ليزيد من المعاناة ومن حالة التدهور والتراجع في أوضاع العمال وفي انتشار البطالة في صفوفهم، إذ لم يعد سهلاً بالنسبة لعدد كبير من العمال الالتحاق بمواقع العمل في المشاريع الاسرائيلية من خلال السوق السوداء.
سياسة حكومة إسرائيل هذه كانت متوقعةً ولم يكن أحد يتوقع أن يمد الاحتلال يد المساعدة للاقتصاد الفلسطيني وتخفيف المعاناة عن المواطن الفلسطيني وبشكل خاص الطبقة العاملة الفلسطينية، التي شكلت قاطرة النضال الوطني في ظل الانتفاضة الاولى الباسلة ، فهذا هو منطق الأمور. في الوقت نفسه كانت سياسة السلطة الفلسطينية سياسة عاجزة تماماً على كل صعيد، فقد غاب عن سياسة السلطة الاهتمام بأوضاع الاقتصاد الوطني وفروعه المختلفة وخاصةً قطاع الصناعة الوطنية، الذي أخذ يعاني من غياب سياسة اقتصادية وطنية رشيدة، فتدهورت أوضاعه خاصةً في أعقاب سياسة الانفتاح التجاري وما تولده من ضغوط تنافسية هائلة على المنتجات الوطنية. فتحت السلطة أبواب استيراد السلع الرخيصة من الصين وبلدان جنوب شرق آسيا وتركيا على مصراعيها وأغرقت السوق الوطني بهذه السلع دون ضوابط أو رقابة ولم تتخذ في الوقت نفسه أية تدابير لحماية المنتج الوطني من منافسة المنتج الاسرائيلي الذي استمر يغزو الاسواق الفلسطينية بكثافة، فانعكس ذلك بنتائج سلبية للغاية على المنشآت والورش الصناعية الوطنية. النتائج ظهرت واضحة وبسرعة، فقد كان عدد المنشآت الصناعية عام 2000 نحو 3500 منشأة كانت تشغل نحو 40 ألف عامل، ومع هذا الانفتاح وانتعاش الاقتصاد الطفيلي تراجع عدد هذه المنشآت إلى الثلث تقريباً وجرى بفعل ذلك إلقاء نحو 30 ألف عامل في سوق البطالة.
وجاءت سياسة إغراق الأسواق بالسلع الرخيصة المستوردة دون ضوابط أو قيود لتسهم في تردي أداء الاقتصاد الوطني وتراجع أوضاع القطاع الصناعي وازدياد معدلات البطالة وتدهور مستوى المعيشة وتفاقم حالات وظواهر الفقر. ونتيجة هذه السياسة، إلى جانب تأثيرات سياسة الخنق الاقتصادي التي تمارسها حكومة إسرائيل، واضحة للعيان على أوضاع المنشآت الصناعية؛ نسبة لا بأس بها من هذه المنشآت أخذت تجد صعوبةً في تسديد الايجارات وأخرى تجد صعوبةً في تسديد التزاماتها للبنوك. كما ساهم في تردي أداء الاقتصاد الوطني كذلك وتراجع أوضاع القطاع الصناعي غياب سياسة وطنية لتشجيع الاستثمار وضعف وتراجع دور البنوك والمصارف في تقديم التسهيلات الائتمانية وغياب دور سلطة النقد الفلسطينية.
صحيح أن لدينا قانون لتشجيع الاستثمار، غير أن القانون بحد ذاته لا يكفي، وصحيح كذلك أن الاستثمار وجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية بحاجة إلى درجة من الاستقرار السياسي وإلى خفض عنصر المخاطرة، غير أن الصحيح أيضاً أن السلطة الفلسطينية لم تبذل جهداً ملموساً في هذا الاتجاه وأعفت نفسها من أي تدخل، وقد كان مطلوباً، من أجل توجيه دور الجهاز المصرفي والمالي وحفزه للتدخل وتقديم التسهيلات الائتمانية الضرورية. فقد كان ولازال على السلطة الفلسطينية، أن تعمل على حفز سلطة النقد الفلسطينية لتعزيز رقابتها على الجهاز المالي والمصرفي ودفعه نحو تقديم التسهيلات الائتمانية فضلاً عن التدخل لوقف تحويل ودائع المواطنين إلى الخارج، وكان عليها أن تسعى جدياً لتأسيس بنك إقراض صناعي من أجل تنمية القطاع الصناعي وتوفير القروض الضرورية للمشاريع المتوسطة والصغيرة هذا إلى جانب التحرر في الحد الادنى من بعض قيود اتفاق باريس الاقتصادي بخفض ضريبة القيمة المضافة على المنتجات المحلية من أجل تشجيع الطلب عليها وتحسين قدرتها التنافسية وتوفير الحماية لعدد من الصناعات الوطنية من خلال ذلك ومن خلال فرض رسوم جمركية على عدد من السلع المستوردة المنافسة وخاصة السلع الاسرائيلية ، التي استحوذت دون ضرورة أو حاجة على نسبة جيدة من السلع المعروضة في الاسواق الفلسطينية.
وفي ظل هذا كله كان العمال الفلسطينيون في الاراضي الفلسطينية المحتلة منذ حزيران 1967 يستقبلون الأول من أيار في كل عام بالمرارة والإحباط والغضب في ضوء الظروف المعيشية القاسية، التي يواجهونها. فمن جهة يواجه هؤلاء العمال عمليات قمع وإهانات يومية من قوات الاحتلال على حواجز الطرق وبوابات العبور سواء الى الداخل الفلسطيني او حتى الى مراكز العمل في المستوطنات ويواجهون أعمال استغلال بشعة للعاملين منهم في المشاريع الاسرائيلية، بما فيها تلك التي أقامها المستوطنون على الاراضي الفلسطينية في المستوطنات، ومن جهة اخرى يقفون في مواجهة البطالة والفقر والتهميش ويتطلعون نحو الحكومات الفلسطينية عسى ان تضعهم على جدول أعمالها للبحث عن حلول وطنية تخفف من معاناتهم وترفع عنهم ولو بقدر معقول وضمن ما تتيحه الموارد المالية المتاحة وما تتيحه الظروف التي يمر بها الاقتصاد الوطني والقطاع الخاص الفلسطيني كابوس ظلم لم يعد يحتمل وشروط عمل هي أحيانا اقرب الى السخرة منها الى علاقات عمل تعاقدية بشروط مقبولة نسبيا.
على مستوى العلاقة مع الاحتلال يعيش عمالنا في ظل اضطهاد مركب الابعاد. فالاحتلال بحد ذاته يعني الخضوع لإرادة المحتل وللآليات، التي تمكنه من ادامة سيطرته بالقوة على المجموع الوطني بما فيه الطبقة العاملة، التي تتحمل اكثر من غيرها الاثار المترتبة على سياسة الاحتلال. ذلك لا يعني ان الفئات الاجتماعية الوطنية الأخرى لا تتحمل هي الاخرى اعباء هذه السياسة وانعكاساتها، بقدر ما يعني ان القسط الاوفر من المعاناة يقع على كاهل العمال، وخير الشواهد على ذلك اعداد الشهداء والجرحى والمعاقين والأسرى في معسكرات الاعتقال الجماعية الاسرائيلية. سياسة الحصار والإغلاق والخنق الاقتصادي ونشر الحواجز العسكرية في طول الضفة الغربية وعرضها تنعكس بأثار قاسية على المجموع الوطني، ولكنها بالنسبة للعمال الفلسطينيين تعني كذلك ارتفاع معدلات البطالة والفقر وتدهور مستوى المعيشة.
معاناة العمال الفلسطينيين من سياسة وممارسات الاحتلال لا تقف عند هذه الحدود، فالاحتلال ليس احتلالا عسكرياً وحسب بل هو الى جانب ذلك احتلال استيطاني. في المستوطنات، التي اقامتها اسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة منذ حزيران 1967، بنى المستوطنون والمستثمرون الاسرائيليون مناطق صناعية وزراعية رأسمالية حديثة نسبيا، تعتمد على العمالة الفلسطينية. في هذه المشاريع التي اقيمت على اراضي المواطنين الفلسطينيين يمارس أرباب العمل الاضطهاد والاستغلال بأبشع صورة ضد العمالة الفلسطينية. شروط وعقود العمل قاسية وظالمة وأصحاب العمل يرفضون مساواة العامل الفلسطيني بالعامل الاسرائيلي، بل انهم على امتداد سنوات طويلة كانوا يطبقون على العامل الفلسطيني، الذي يعمل في هذه المشاريع، احكام قانون العمل الاردني، الذي كان سارياً حتى العام 1967. قبل سنوات قليلة فقط وبعد معركة قضائية تواصلت 14 عاماً في المحاكم الاسرائيلية اعترفت المحكمة العليا الاسرائيلية بانطباق قانون العمل الاسرائيلي على العمال الفلسطينيين والعاملين في هذه المشاريع، وبما يشمل الحقوق الاجتماعية والحد الادنى للأجور ومستحقات العطل السنوية والإجازات المرضية والأعياد ومخصصات التقاعد، وحق التنظيم النقابي. ورغم ذلك لم يتغير الشيء الكثير على أوضاع هؤلاء العمال، الذين يقبلون بالقليل حفاظاَ على مكان العمل ومصدر الدخل في مواجهة منافسة شديدة في سوق العمل بفعل ارتفاع معدلات البطالة في سوق العمل الفلسطيني.
واذا كان هذا هو الحال مع عمالنا في ظل الاحتلال وسياساته وممارساته، فما هو حال هؤلاء العمال في سوق العمل الفلسطيني وفي المشاريع الوطنية. بنظرة موضوعية للأمور، لا احد يستطيع ان يقلل من صعوبة وخطورة الاوضاع، التي يمر بها الاقتصاد الوطني ويعمل في ظلها القطاع الخاص الفلسطيني. فالاقتصاد الوطني لا زال اسير اتفاق باريس الاقتصادي وأسير سياسة الحصار والإغلاق والخنق الاقتصادي ليس في قطاع غزه بل وكذلك في الضفة الغربية. المعاناة التي يعيشها قطاع غزه لا حدود لها ويعجز عنها كل وصف. وقد تفاقمت الامور وتدهورت نحو الاسوأ بعد سيطرة حماس على القطاع حيث اصبح الاغلاق خانقاً الى درجة ترتب عليه انخفاض حاد في الصادرات كما في الواردات، وتوقف عن العمل اكثر من ثلثي المنشآت الصناعية، وتراجعت انتاجية ما تبقى منها الى حدود نصف طاقاتها الانتاجية وما دون ذلك. معدلات الفقر ارتفعت على نحو حاد وكذلك معدلات البطالة وأصبح أكثر من 70 بالمئة من الاسر في القطاع يعيش تحت خط الفقر، اي بمعدل دولارين للفرد في اليوم الواحد. كذلك هي الاوضاع التي يمر بها الاقتصاد الوطني، والتي يعمل في ظلها القطاع الخاص في الضفة الغربية. انها ليست بالأوضاع المريحة وهي بالتأكيد لا تدعو الى التفاؤل، هي افضل منها في قطاع غزه، غير ان معدل البطالة مرتفع ومعدلات الفقر مرتفعة كذلك. وبالنسبة للقوى العاملة في القطاع الخاص، فان نسبة المستخدمين، الذين يعيشون تحت خط الفقر تحافظ على نفسها في أحسن الاحوال في ظروف الاستقرار النسبي وترتفع بشكل ملموس في ظروف التوتر وعدم الاستقرار.
ليس من السهل او الممكن ان نضع جانباً الوضع الكارثي الذي يعيشه قطاع غزه على المستوى الاقتصادي، ولكن حتى لو تجاوزنا ذلك وأمعنا النظر في مستقبل النمو الاقتصادي في الضفة الغربية، فان المعطيات التي تقدمها مؤسسات دولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي لا توحي بالتفاؤل، فالنمو الاقتصادي ما زال ضعيفا ومعدل النمو السكاني يفوق معدل النمو في الناتجين المحلي الاجمالي والقومي الاجمالي وآخر التقديرات الأولية تشير إلى حدوث تباطؤ في نمو الناتج المحلي الإجمالي في فلسطين في السنوات الاخيرة وخاصة في قطاع غزة، وعلى كل حال فإن الاوضاع، التي يمر بها الاقتصاد الوطني والتي يعمل في ظلها القطاع الخاص باتت معروفة ونقدر ما يترتب عليها من صعوبات في معالجة معدلات البطالة المرتفعة ومعدلات الفقر كذلك.
واذا ما واصلت الحكومة الفلسطينية الحالية السير على نهج من سبقها من حكومات (وهي كما هو واضح تسير على ذات النهج)، فسوف لن يجد المواطن فسحة من أمل. إن المواطن يتساءل كم هي النسبة المئوية، التي جرى تخصيصها من مجمل الموارد المالية المتاحة للسلطة الفلسطينية على امتداد سنوات سواء من العائدات الضريبية المختلفة او اموال الدول والجهات المانحة للاستثمار في التنمية للنهوض بأوضاع القطاع الخاص. الاجابة مفزعة حقاً، حيث لم تتجاوز هذه النسبة حدود 5 بالمئة، على امتداد هذه السنوات. أبعد من ذلك، فقد مارست الحكومات الفلسطينية سياسة ساهمت في الحاق افدح الاضرار بقطاعات الاقتصاد الوطني الفلسطيني الصناعية والزراعية والخدماتية، عندما فتحت الاسواق الوطنية لكل ما هو مستورد على حساب تشجيع المنتجات الوطنية وتوفير حد مقبول أو حد ادنى من متطلبات حمايتها. هذا فاقم من أزمة الاقتصاد الوطني واسهم بكل تأكيد في نمو البطالة وفي زيادة معدلات الفقر وفي تدهور مستوى المعيشة وفي تدني مستوى الاجور في القطاع الخاص بفعل المنافسة الحادة في سوق العمل، وهو ما يملي على هذه الحكومة مراجعة جادة ومسؤولة للسياسة الاجتماعية والاقتصادية التي سارت عليها الحكومات الفلسطينية المتعاقبة.
يجب التحرر من القيود الثقيلة لاتفاق باريس الاقتصادي من أجل فتح الطريق أمام تنمية فلسطينية مستدامة واقتصاد وطني فلسطيني قادر على النمو والتطور وفق شروط وطنية. الاعتبارات لذلك كثيرة من بينها أن إسرائيل تتحكم بالمعابر والحدود وحركة النقل والتجارة وحركة الافراد من والى فلسطين بالكامل، ولا يستطيع الاقتصاد الفلسطيني الاستيراد أو التصدير من ومع دول لا تقيم إسرائيل علاقات سياسية او تجارية معها وبالتالي فالبروتوكول يحرمه من التعامل او الارتباط مع نحو 48 دولة في العالم قد تكون سلعها أرخص وأفضل، فضلا عن أن التجارة الفلسطينية تخضع للمعايير والمواصفات الاسرائيلية ولا يمكن للمستثمرين والمستوردين والمصدرين على حد سواء التعامل التجاري بأي سلع وبضائع لا تنطبق عليها المواصفات الإسرائيلية كما لا يستطيع الاقتصاد الفلسطيني التعامل أو التوسع تصديرا واستيرادا بمستلزمات ومتطلبات قطاع الخدمات ومرافق البنية التحتية (الكهرباء والماء والاتصالات وإقامة الجسور وتعبيد الطرق في المناطق المصنفة سي وبي) بدون الحصول على الموافقات المسبقة من سلطات الاحتلال وهكذا فإن حدود التوسع في القاعدة الإنتاجية مقيد ومحصور جغرافيا وفقا للمخطط الهيكلي الموافق عليه إسرائيليا مع تعديلات تتم بموافقة سلطات الاحتلال المسبقة. كما يحظر على المستثمرين والقطاع الخاص مد أنشطتهم الإنتاجية والتجارية إلى المنطقة “ج”، التي تشكل نحو 62% من مساحة الضفة الغربية.
وندرك جيدا أنه في الموقف من سياسة وممارسات الاحتلال ينبغي ان تتوزع الاعباء على الاطراف المعنية بالعملية الانتاجية، فإذا كان القطاع الخاص يعاني من هذه السياسة والممارسات فان معاناة العمال تحديداً هي الاشد والأقسى. وهذه المعاناة تفتح على أمرين جوهريين: الاول شروط الاستخدام وعلاقات العمل، حيث يلاحظ هنا وبوضوح ان شروط الاستخدام وعلاقات العمل تسلب العمال والمستخدمين الكثير من الحقوق، التي يكلفها لهم قانون العمل الفلسطيني. هنالك انتهاكات يطول الحديث عنها لقانون العمل الفلسطيني بدءا بتخفيض ساعات العمل في الاعمال الخطرة او التي تلحق الاضرار بالصحة العامة، مروراً بانتظام زيارات مفتشي العمل لمواقع العمل للتأكد من الصحة والسلامة المهنية وضمان عدم تحول هذا الواجب الى مهمة شكلية على حساب العامل وانتهاء بالأجور المتدنية والحرمان من الاجازات الاسبوعية والسنوية وإجازات الاعياد والعطل الرسمية والدينية مدفوعة الاجر فضلا عن اصابات العمل وتوفير الضمانات الصحية ونفقات العلاج في مثل هذه الحالات.
نحن ندرك أن للقطاع الخاص دوره في التنمية، وهو في ظروفنا دور حيوي وليس دوراً هامشياً وينبغي توفير متطلبات نهوضه بمسؤولياته ودوره على هذا الصعيد. وفي الوقت نفسه ندرك أنه ينبغي رفع الظلم عن العاملين في هذا القطاع من خلال احترام احكام قانون العمل الفلسطيني، رغم ثغراته ونواقصه. وعلى الحكومة هنا ان تتدخل في اتجاهين رئيسيين: الاول رفع الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص ليقترب معدل الاجور في هذا القطاع من معدل الاجور للعاملين في القطاع الحكومي والزام القطاع الخاص يذلك وربط الاجور بجدول غلاء المعيشة وتعزيز هذه الخطوة بتقديم الدعم للسلع الاساسية التي تخفف من وطأة هذا الارتفاع الفاحش في اسعارها على اوضاع الشرائح الاجتماعية الضعيفة، والثاني التوافق الوطني على قانون التأمينات الاجتماعية وتشكيل مجلس وصندوق الضمان الاجتماعي بكل ما يترتب على ذلك من التزامات تؤديها الحكومة مثلما يؤديها اصحاب العمل والمتسخدمون في القطاع الخاص، لما لذلك من أثر بالغ في توفير الامن الوظيفي وأبسط متطلبات الحياة الانسانية الكريمة لهؤلاء المستخدمين وفي المقدمة منهم العمال، في ذروة عطائهم وفي خريف العمر كذلك. شروط وعلاقات العمل في القطاع الخاص يجب ان تنسجم مع احكام قانون العمل، وسياسة الحكومة يجب ان تسعى في الحد الادنى الى فض هذا التشابك بين مطرقة الاحتلال وسندان البطالة والفقر والتهميش لتخفف عن عمال فلسطين بعضاً من معاناتهم .
والى جانب هذا كله ينبغي توحيد الحركة العمالية والنقابية الفلسطينية وتحريرها من سطوة الهيكل البيروقراطية على اوضاعها وتمكينها من الدفاع عن حقوق الطبقة العاملة وتنظيم دورها في النضال ضد الاحتلال وتعزيز صمودها وتطوير نضالها في مواجهة اتساع نطاق البطالة والفقر والعوز وتدهور مستويات المعيشة وفي مواجهة السياسة الحكومية وما يشوبها من خلل في توزيع اعباء الصمود في مواجهة هذه السياسة الاسرائيلية على مختلف طبقات الشعب وفئاته الاجتماعية المختلفة، والى صون وحماية الحريات النقابية، وتطوير قوانين التنظيم النقابي والتشريعات العمالية، بما يتناسب مع التشريعات والقوانين الدولية وجميع الاتفاقيات الصادرة عن منظمتي العمل العربية والدولية، والتي أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الفلسطينية التزامهما بها، هذا الى جانب تفعيل الصندوق الوطني للتشغيل والحماية الاجتماعية، بما يسهم في الحد من معدلات الفقر والبطالة في صفوف العمال ومن مواصلة دورهم في معركة النضال الوطني والاجتماعي، وتعديل قانون العمل الفلسطيني من اجل توفير الحماية لحقوق العمال والعاملات في سوق العمل الفلسطيني، وإنشاء المحاكم العمالية المتخصصة لفض النزاعات العمالية وحلها بين العمال وأصحاب العمل بعيداً عن التسويف والمماطلة، هذا الى جانب الحاجة الملحة للمساواة الكاملة في الاجور بين العمال والعاملات في المشاريع الخاصة ومحاربة السياسية التمييزية وجميع الانتهاكات التي تتعرض لها المرأة العاملة الفلسطينية والى تطبيق اتفاق الحد الأدنى للأجور لا سيما على النساء العاملات والى الزام جميع المؤسسات والشركات والمكاتب والعيادات وغيرها من أماكن العمل في القطاع الخاص بهذا الاتفاق، والى رفع الظلم عن هؤلاء العاملين والعاملات وتحرير عشرات الاف العاملين وخاصة من النساء من ظروف وشروط عمل هي اقرب الى السخرة والاستعباد.