«التخطيط الارتجالي» في الحالة الفلسطينية الراهنة
«التخطيط الارتجالي» في الحالة الفلسطينية الراهنة
عبد المجيد سويلم
سيأتي يوم نكتب فيه عن كنه وماهية المأزق الراهن للحالة الفلسطينية بكل وضوح وصراحة وتفصيل.
أمّا مردّ تأجيل الوضوح والصراحة والتفصيل فليس، ولا يعود لأسباب ذاتية، وإنما يعود أساساً لأن من شأن ذلك، أي من شأن الصراحة والوضوح أن يحدّا، أو ربما أن يعيقا من الآمال التي ما زالت معلّقة على عملية إنقاذ وطني ما زالت ممكنة، بالرغم من كل الصعوبات والعقبات التي تزداد يوماً بعد يوم في وجه هذا الانتقاد، وسيتضح ذلك من خلال سياق هذا المقال.
وحتى لا نغوص بالتعميم فالحديث يدور هنا عن القرارات التي اتخذتها المؤسسات الرسمية الفلسطينية في عدة دورات للمجلس المركزي، وفي المجلس الوطني حول العلاقة مع سلطة الاحتلال الإسرائيلي، من زاوية الاعتراف، ومن زاوية التنسيق الأمني، والتي كان من المفترض أن تؤدي إلى «إعادة» صياغة هذه العلاقة من منظور جديد يتمحور حول حالة وطنية فيها عملية متكاملة من التراجع والمراجعة.
وحتى تبدو الأمور مبسّطة بقدر ما هو متاح دعونا نسأل السؤال الآتي:
لماذا لم تقدم القيادة الفلسطينية على وضع قراراتها موضع التطبيق، وظلت تكرر التهديد والتلويح بهذه القرارات دون أن تحسم الأمر، ودون أن تقدم عليه؟
برأيي أن القيادة الفلسطينية «خططت» لكي يتحول التهديد والتلويح إلى هدف بحد ذاته، أملاً بأن يؤدي «دوره» في تحريك الأجواء، وفي «تدخلات» عربية ودولية تعيد الواقع إلى ما قبل أو أثناء العام 2014، عندما ركزت الولايات المتحدة بدعم كبير من أوروبا ودول العالم، وخصوصاً من دول الإقليم العربي، وبذل من خلالها جون كيري قصارى جهده لمفاوضات فعالة بهدف إحداث انطلاقة جديدة، أو ربما اختراق سياسي كبير يؤدي إلى انفراجات سياسية ذات معنى حقيقي، أو بإحداث فرق ملموس كانت تبحث عنه كل الأطراف المعنية باستثناء إسرائيل، حيث انتهت تلك الجهود إلى الصفر أو إلى ما دونه في الواقع.
تحت ستار الأزمات السياسية التي بدأت باجتياح إسرائيل بصورة غير مسبوقة، وغير معهودة تهربت حكومة الاحتلال آنذاك، وما زالت تتهرب حتى يومنا هذا من العودة إلى مفاوضات ذات مغزى سياسي يمكن التعويل عليه من وجهة نظر القيادات الرسمية الفلسطينية، وأصبح «تحريك» الوضع السياسي هو السبيل الوحيد المتاح ـ من وجهة نظر هذه القيادات ـ وتحولت القرارات التي اتخذت آنذاك إلى وسيلة القيادات الرسمية لممارسة ضغوطها على المجتمع الإقليمي والدولي، إضافة إلى أن تلك القرارات استهدفت امتصاص حالة الاحتقان الداخلي الناتجة عن استمرار الانقسام، وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وعن مظاهر فاقعة من سوء الإدارة، واستشراء ظواهر وحسابات الولاء والمحسوبيات الضيقة.
صحيح أن القيادات الرسمية قد تصدت لـ «صفقة القرن»، ولم تظهر أمامها أي تردد أو جزع، وصحيح أن تلك المجابهة مع الإدارة الترامبية انطوت على شجاعة سياسية تُحسب لها، إلّا أن تلك المجابهة لم تُترجم على الصعيد الداخلي بأي مراجعات جادّة، ولم تقدم القيادات على أيّ إصلاحات حقيقية كانت تتطلبها تلك المجابهة، وذلك في ضوء أن الإدارة الأميركية، كما كان معروفاً ومتوقعاً كانت بصدد محاولات جدية لحصار الحالة الوطنية، والبحث عن البدائل الممكنة، والإمعان في دعم السياسات الإسرائيلية بكل ما كانت عليه هذه السياسات من صلف وانتهاك للقانون الدولي، وبكل ما كانت ـ وما زالت ـ تمثله من تخريب منظم ومعلن، وعلى رؤوس الأشهاد لأي حلّ سياسي من أي نوع كان، والإصرار الإسرائيلي على فرض الحل الإسرائيلي بالقوة والحصار وسرقة الأموال، وكل أشكال التنكيل بالشعب الفلسطيني.
أي أن التهديد والوعيد والتلويح هي معالم «الاستراتيجية» الفلسطينية لإعادة تحريك الواقع السياسي، وليس وضع تلك القرارات موضع التطبيق.
من هذه الزاوية كانت هناك خطة، وكان عنصر التخطيط قائماً بالفعل على هذا الأساس بالذات وليس على غيره.
أما الارتجال فيتمثل أساساً في عدة محاور رئيسة:
أولاً، وطالما أن تلك القرارات كان مخططاً لها أن تكون، وأن تظل في إطار ودائرة التلويح إلى مرحلة طويلة ـ إذا لم نقل إنها ستظل داخل هذا الإطار، ولن تخرج عنه، طالما أن الأمر كان كذلك فقد كان على القيادات أن تعرف أن مثل هذه القرارات ستجلب علينا ولنا متاعب كبيرة في كل مرة يجري تكرار اتخاذها، وتكرار التلويح بها دون أي خطوات تطبيقية لها.
والحقيقة التي باتت واضحة الآن، وبعد هذا التكرار أن الرسالة التي حاولت القيادات الرسمية إرسالها لم تصل لأحد، لا داخلياً، ولا إسرائيلياً، ناهيكم أنها لم تصل مطلقاً، لا حين اتخذت، ولا حين تم التلويح بها إلى المجتمع الإقليمي ولا إلى المجتمع الدولي.
وثانياً، وتأسيساً على النقطة الأولى فقد استخفت كل الجهات والأطراف التي وُجهت لها رسالة (القرارات) عندما فهمت ولاحظت أن هذه القرارات لم تترافق مع إجراءات، وخطوات كان يبدو من المستحيل أن تأخذ طريقها إلى التطبيق من دونها.
إذ كيف كان ممكناً أن تشرع المنظمة والسلطة الوطنية بتطبيق هذه القرارات من دون أن يتم الإعداد لها في المجالات الآتية:
1ـ تحضير الصياغة القانونية لهذه القرارات، بحيث تتجنب تحميل المنظمة والسلطة أي مسؤولية، أو تبعات من أي نوع كان، خصوصاً وأن «التشابك» الاقتصادي مع الاحتلال هو من الدرجة ما يمكنه من تضييق الخناق الاقتصادي علينا «بذريعة» قانونية في صيغة القرارات.
2ـ كيف سيجابه المجتمع الفلسطيني تبعات هذه القرارات على الصعد كافة وهو منقسم على نفسه، وكيف سيتصدى لهذه التبعات وهو في مثل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي هو عليها؟
3ـ كيف يمكن أن تصل رسالة (القرارات) وحالة النظام السياسي الفلسطيني وهي على ما هي عليه، من تشرذم وانقسام، ومن صراعات على السلطات، ومن احتقانات واستقطابات تصل إلى أعلى درجات الحالة المرضية؟
4ـ كيف يمكن أن تكون تلك القرارات في نظر كل الأطراف المعنية بهذه القرارات وحالة الشرعية السياسية والوطنية على ما هي عليه من «شرعية» الأمر الواقع، أو شرعية «المقاومة»، أو شرعية الاعتراف المتوارث، أو الشرعية الرسمية؟
وهنا نصل إلى: لو أن تلك القرارات ـ وهي قرارات جيدة، بل وممتازة من حيث الجوهر والمبدأ ـ قد بوشر بها منذ اليوم الأول لاتخاذها، وبقيت من دون التحضير المطلوب، والتمهيد الأكثر من ضروري لها على مستوى إعادة إصلاح المنظمة بصورة عميقة وحقيقية، وعلى مستوى إعادة نظر جدية بوظائف السلطة الوطنية، وبعلاقة المنظمة بهذه السلطة، وبإعادة بناء النظام السياسي على أسس ديمقراطية راسخة ومكرّسة.. لو تم تطبيقها من اللحظات الأولى لأعطت مفعولاً إعلامياً كبيراً ربما، لكنها لم تكن لتعطي النتائج السياسية المطلوبة على المستويات كافة.
ولعلّ الارتجال هنا بائن بينونة كبرى.
هذه القرارات كان من المفترض (وما زال الواقع يفترض الآن) أن تكون عنواناً للمرحلة الجديدة، والتي تتحدد ملامحها العامة بالكثير من الحقائق التي باتت في حكم المؤكدة.
الحقيقة الأولى، أن دولة الاحتلال والنظام السياسي الذي يحكمها باتت بكل المعايير دولة للفصل العنصري، وتتحول وتنتقل بتسارع كبير إلى مصاف الفاشية، ما يعني استحالة أن تكون شريكاً سياسياً لنا بأي حالٍ من الأحوال.
بل وأبعد وأعمق وأكثر من ذلك فقد «وقعت» الدولة ونظام الحكم في براثن الصهيونية الدينية، وتحولت مسألة الاستيطان والتهويد إلى الواجهة الأولى، وعنوان هذه الدولة ونظام الحكم فيها لسنوات وسنوات قادمة.
والحقيقة الثانية، أن الولايات المتحدة ليست بوارد الاهتمام بحل سياسي لا يستجيب للمصالح العليا الصهيونية، وأن المجتمع الدولي ليس على أي استعداد للانفكاك عن السياسة الأميركية، وقد لا يملك القدرة على ذلك، وخصوصاً بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا.
والحقيقة الثالثة، هي انهيار الحالة العربية الرسمية، ولم يعد في الواقع العربي سوى بيانات التنديد والشجب والاستنكار.
مواجهة هذا الواقع، وفي ظل الأزمة الإسرائيلية بما تعنيه من انسداد الأفق التاريخي لمشروعها الصهيوني باتت تتطلب أن نعتبر بأن إسقاط نظام الفصل العنصري في إسرائيل هو برنامجنا الوحيد، وهو البرنامج الذي يوحّد شعبنا، ويحدد أداة نضالنا، ويعيدنا إلى دائرة التحرر الوطني، وذلك من خلال الارتباط الوثيق بطبيعة الوعي الإنساني في الظروف التاريخية الجديدة، وارتباطنا الأعمق مع القوى التقدمية الصاعدة في الغرب وفي العالم، بل وحتى بناء شراكة استراتيجية مع القوى السياسية الإسرائيلية التي تناهض الفصل العنصري والفاشية.
من يُرِد أن يضع قرارات «المركزي» و«الوطني» موضع التطبيق عليه أن يشق الطريق على أساس عناوين الوضع الجديد. وهنا لنا عودة، أو أكثر من عودة.