العمّال بين الكورونا ورأس المال

العمّال بين الكورونا ورأس المال

العمّال: بين الكورونا ورأس المال


يواجه عالمنا اليوم أزمة وبائيّة أودت بحياة أكثر من سبعين ألف شخصٍ. فيروس ينتشر بيننا بسرعة لا ندركها ولم نسمع عنها قطّ. فهي لا تقارن بأيّ من الأوبئة التي شهدها العالم في العقود القليلة الماضية. جائحة باغتتنا فأسقطت كلّ الأقنعة وسلبت الأنظمة السّياسية والاقتصادية هدوءها واستقرارها. جائحة جعلت السّياسيين يواجهون أمام الرأي العام إفلاس برامجهم ومشاريعهم ممّا جعلهم في مواجهة النقد اللاذع. وقد انعكس هذا على طريقة تعامل الحكومات مع تداعيات الوضع، فكان الأداء متباينا وإن سوّقت كل دولة أنها اختارت الطريقة التي ارتأتها ملائمة لشعبها إلا أنها في الحقيقة ملائمة بالأساس لمصالح الشركات الكبرى.

فعلى سبيل المثال نرى بوريس جونسون، رئيس وزراء المملكة المتحدة البريطانية يدعو شعبه إلى مواجهة الكورونا مواجهة الجندي الأعزل لعدوّه حتى يكوّنوا ما يسمّى بـ”مناعة القطيع”، فيما يخاطب ماكرون الفرنسيّين بخطاب عاطفي معلنا أن شعبه في حالة حرب ضدّ هذا العدو اللامرئي. في الأثناء ينشغل ترامب بصفقات السّلاح والذخيرة ويفرض عقوبات على فنزويلا متجاهلا تماما الخطر الذي يحوم حول بلده، فقد كان يوجّه إلى شعبه خطابا يعكس تماما نرجسيّته مدّعيا أنه يمتلك أحدث الأدوات الطبّية وأفضل الكفاءات الصحّية العالمية، إلى أن تجاوزت الولايات المتحدة الصّين من حيث عدد الإصابات.

لم يترك الفيروس للأنظمة السّياسية القائمة أيّ فرصة لتتدارك تقصيرها وأخطائها. فمعظم الدول لم تخصّص ميزانيّة لمثل هذه الأوضاع، فهمّشت الصحة العمومية وسعت نحو خوصصة جميع المجالات الحيوية لتترك مصير الشعوب بين أيدي الشركات الكبرى التي لا يزال أعرافها يتحدّثون، بكلّ تجاهلٍ، عن النمو الاقتصادي وعن خلق فرص في ظلّ الأزمات.

سجّلت تونس يوم 01 مارس 2020 أول حالة إصابة بفيروس كورونا المستجدّ، وهي حالة مستوردة قادمة من إيطاليا وقد اكتشفت الحالة بعد حلولها في تونس بأيّام وهذا يكشف تهاون الحكومة في حماية المطارات والموانئ، وأن الإجراءات التي اتُّخِذت لم تكن كافية لمنع الفيروس من التسلّل إلينا وقد يتعلّلون بأن هذه الحكومة هي حكومة جديدة، وهذا ما يعني أنها لا تؤمن كثيرا باستمرارية الدولة، أو لأنها قد وجدت كلفة إحالة كلّ الوافدين على الحجر الذاتي الإجباري ومراقبتهم هي كلفة باهظة على حكومة تتلمّس خطواتها الأولى.

وإن كان وقع الخبر كارثيّا على البعض ومثّل ذلك اليوم يوما عصيبا على بعض التونسيّين والتونسيات، جعل الكثير منهم يدخل في حالة من الهستيريا والذّعر، فإننا نفهم أن الكثيرين لم يتخطّوا مرحلة الإنكار نظرا لضعف الإجراءات الوقائية التي فرضتها الحكومة وارتباكها. ومرحلة الإنكار هي أول مرحلة من مراحل الصّدمة النفسية الخمس كما تعبّر عن ذلك “اليزابيث كوبلر روس”. فظلّوا يرتادون المطاعم والمقاهي كأنّ شيئا لم يكن، ولم يُلغ البعض مراسم زفافهم ظنّا منهم أنّهم أقوى من الكورونا وأنه إذا حدث لهم مكروه فذلك من مشيئة القدر. لكن الجائحة لم توقفها الزغاريد والطبول واستكملت تسلّلها من جسد إلى آخر مخلّفة قلقا وخوفا كبيرين لدى الجميع.

عند ارتفاع عدد المصابين إلى عشر حالات بدأت الحكومة باتّخاذ إجراءات “استباقيّة” كي لا تضع نفسها أمام إحراج المائتي سرير. فتأجّلت بذلك كل الأنشطة الثقافية والرياضية وأغلقت المسارح وقاعات السينما والفضاءات العامة. يُصدِر بعدها مباشرة رئيس الحكومة أمرا يقضي بغلق المطاعم والمقاهي ابتداءا من الساعة الرابعة مساءا، في خطاب مرتبك بين الأصوات الدّاعية للحجر الصحي الشّامل، وهي أصوات الأطباء والخبراء والمتابعين لتطور الوضع الوبائي في العالم من الحقوقيّين والنشطاء، وبين الأصوات الداعية لمواصلة عجلة الإنتاج من أصحاب الأعمال والأموال.

وبالرغم من ذلك فإنّ هذا الخبر كان وقعه شديدا على جميع التونسيّين والتونسيّات، بين من يمثّل ذلك مورد رزقه الوحيد وبين من اعتاد ارتياد مثل هذه الأماكن خاصة بعد يوم عمل عصيب، كما كان من الطبيعي أيضا أن يقابل هذا الأمر بالرّفض والتلكّؤ من طرف أصحاب بعض المحلّات. أيام قليلة بعد ذلك يعلن فيها رئيس الجمهورية قيس سعيد حظر التجوّل متوجّها بخطاب جافٍّ لم يفهمه معظمنا ولم يخلّف بذلك في نفوسنا أثرا كبيرا.

لم تكفَّ حالة الهلع عن الازدياد، فتهافت الجميع نحو المغازات والمخابز ليقتنوا مؤونة تكفيهم شرّ الكورونا، الكل يتابع بِحيرةٍ بلاغات وزارة الصحة وإطلالة الدكتورة نصاف بن علية. الكل ينتظر بفارغ الصبر أيّ خبر من شأنه أن يخفّف وطأة هذا المصاب.

وفي صراع حول الصّلاحيات، لم يعلن قيس سعيد في خطابه عن أيّ تفاصيل غير الحجر الصحي الشامل، تاركا بذلك الفرصة لإلياس الفخفاخ رئيس الحكومة ليزوّد الشعب بأكثر معلومات حول الإجراءات التي قد تعتمدها الدولة للتخفيف من حدّة انتشار الفيروس.

متأخّرا بأكثر من ساعتين، يبدأ الياس الفخفاخ الخطاب بدعوته لكل المواطنين والمواطنات إلى ملازمة منازلهم والالتزام بالحجر الصحي العام مؤكّدا على ضرورة تكاثف الجهود. ليسوِّق لنا فيما بعد جملة من الإجراءات الخاصّة بالأفراد والشركات. رأى البعض أنّ خطاب رئيس الحكومة كان مطمئنا وباعثا لأمل جديد، فقد تكلّم عن أصحاب المهن الحرة والمفقّرين والمهمّشين وذوي الإعاقة مؤكّدا أنّه سيخصّص لهم صناديق اجتماعية قيمتها 450 مليون دينارا. لكن رأى الكثيرون أن رئيس الحكومة كان قد خصّص نصيب الأسد من الإجراءات لا للتّحاليل والاختبارات أو المواد الطبية بل خصّصها لدعم المؤسّسات ورسملتها. لم تخضع معظم الشركات إلى قرارات الحجر الصحي، فواصل أصحاب المصانع الإنتاج غير مبالين بمرض العالم ولا بصحة العمال، الذين واصلوا العمل تحت التهديد بالطرد أو كما سمّاه رئيس الحكومة “البطالة الفنية”. لم تكترث الشركات بما قد يصيب الشعب من بلاء، لم يكترث أعرافها إلا لنسبة ازدياد أرباحهم.

في الوقت الذي يهدّد الفيروس استقرار العالم بأجمعه مصحوبا بانهيار في البورصة وانخفاض في أسعار البترول لم يشهده العالم منذ 18 سنة وهدّد بذلك استمرارية الشركات وكشف عن جشع رأس المال وجعل الحكومات عاجزة على مواجهة الشركات الخاصة وجها لوجه لا سيّما أنها اعتمدت في العشريّة الأخيرة سياسة الخوصصة وفرّطت في أغلب القطاعات الحيويّة فلم تجد سبيلا غير إرضائهم على طريقتها الخاصة. فنرى الفخفاخ يؤجّل أقساط قروض المواطنين والمواطنات في الوقت الذي يعفي الشركات من المتخلّد بذمّتها من ضرائب جبائية وديوانية. وبينما يخصص صناديق اجتماعية للمفقّرين يفتح أسواقا جديدة للشركات المصدّرة، أسواقا محلية وقد تُنافِس بضاعتها بضاعة الحرفيّين أو بضاعة الباعة المتجوّلين.

كان من الواضح أن خطاب الفخفاخ كان خطابا يهدف إلى إسكات الأفواه الناقدة له ولحكومته التي لم تتّخذ إلى الآن أيّ إجراء حقيقيّ ملموس لإنقاذ الملايين من أبناء شعبنا من براثن الفقر، فالصناديق التي تكلّم عنها لم ترَ النور إلى يومنا هذا ولم تعرف المنح إلى أصحابها سبيلا، بل نرى في المقابل اكتظاظا في مكاتب البريد واحتجاجات في ثلاثة أحياء من العاصمة تطالب بقوتها اليومي، احتجاجات تكشف عجز الدولة عن تلبية مطالبهم ويظهر ذلك في خطاب رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم 31 مارس أمام مجلس الأمن القومي وهو يسائل نفسه والحاضرين عن مكان الأموال الطائلة التي لا تظهر إلا في الانتخابات، في اعتراف ضمنيّ منه أنه ليس مُلمِّا بجميع المسالك الاقتصادية في البلاد. يعترف أيضا بالأخطاء التي ارتكبتها الحكومة والتي إلى الآن لم تحدّ من انتشار الفيروس، ولعلّ من أهمّ هذه الأخطاء إسناد رخص عمل من طرف وزارة التجارة والصناعة لفائدة مراكز النداء ومصانع الشركات عبر القطرية التي تعتبرها دولتنا قطاعات حيويّة، قطاعات تضع العمّال، أي شعبنا، بين المطرقة والسندان.

مازالت حافلات مصانع النّسيج تُقِلّ العاملات بداية من أوّل ساعات الفجر، وبعض شركات برمجيّات الإعلامية مازالت لم تمنح عمّالها فرصة العمل عن بعد، ظروف في غاية الخطورة، أماكن العمل ضيّقة والكراسي لا يبعد بعضها عن البعض إلا بعض السّنتمترات. فضلا عن مكاتب الدراسات الخاصة بالمستثمرين الأجانب التي أصبحت بلادنا تعجّ بها والذين جاؤوا طمعا في يد عاملة رخيصة، فنجد في المكتب ما يقارب عن أربعين شخصا يعملون في فضاء واحد مشترك، وعندما عبّر أحد العملة على ضرورة الالتزام بالحجر الصحي، لم يكن للمدير –ألماني الجنسية- إلا التحجّج بالخوف من سرقة البرمجيّات التي يشتغلون عليها، بالرغم من أنها برمجيات ليست باهظة الثمن. وهذا برهان على أن رأس المال مستعدّ للتضحية بـ”رأس ماله البشري” مقابل برمجيات إعلامية رخيصة.

يحدث كلّ هذا أثناء ارتفاع حصيلة ضحايا الفيروس وأثناء تذمّر الكثيرين من عدم التزام بعض المواطنين أو المواطنات بالحجر الصحي متجاهلين تهاون الدولة في توفير أساسيات الحياة لأولئك الذين لم يتحصّلوا على عمل إلا بعد سنوات طِوالٍ من البطالة وبعقود عمل مجحفة لم يكن لهم الخيار سوى القبول بها، أولئك الذين قد يفقدون عملهم لمجرّد خوفهم على حياتهم أو على حياة أحبّائهم، أولئك الذين كبّلت أياديهم وألجمت أفواههم.

أوّل حالة كورونا في ولاية بن عروس كانت أيضا ضحيّة جشع المستثمر، مهندس بقطاع الصناعات الجوّية يلتقط العدوى أثناء رحلة عمل إلى فرنسا. ومازال الكثير يتلقّى رسائل نصّية ومكالمات هاتفية تحثُّهم على القدوم إلى العمل خلسة، لبَّى بعضهم الطلب بينما فضحهم آخرون على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.
علت هتافات الشّكر والتّهليل لعاملات القيروان اللاتي دخلن في حجر صحّي داخل المصنع لصناعة أكثر عدد ممكن من الأقنعة، لكن الكثيرين كان لهم رأي مخالف حين تأكّد أن هذا القرار لم يكن نابعا كلّيا من العاملات وأنّ صاحب المصنع هدّد الكثيرات منهنّ بالطرد، وفي نفس الوقت يرفّع في سعر القناع الواحد بمنتهى الجشع والانتهازية، ممارسات قد يراها بعض مسؤولي الدولة على أنّها جريمة حرب، يقضين بذلك يومهنّ كاملا بين ضجيج الآلات وصدئها.

يذكّرنا هذا المشهد بعاملات النّسيج في أوروبا في مطلع القرن العشرين اللّاتي كُنّ يعملن حوالي 17 ساعة في اليوم مقابل سنتيمات قليلة. في الواقع هنالك تشابه كبير بين الوضعيّتين، ففي الحالتين يسلب رأس المال العاملة أيّ فرصة لتحقيق ذاتها، فتعمل دون انقطاع معتقدة أنها في يوم من الأيام ستصبح ما تريد. قد يقنعها أنّها بصدد ممارسة دورها في إنقاذ العالم أو في دفع أمّتها نحو الرقي والازدهار. قد يقنعها بنبل قيمة عملها لكنّه يسلبها إيّاه عند سداد الأجور.

في ظلّ الكورونا، تزداد وضعيّة العمال سوءا، كيف لا وهي أوّل طبقة تتضرّر من مثل هذه الكوارث. علينا أن ندرك من خلال الوضع الرّاهن أن التداعيات الاجتماعية والاقتصادية ستكون كارثية وهي في الأصل نتاج سنوات طويلة من القمع والاضطهاد، وهي نتاج نظام عالمي أخضع الجميع لسياسته فهمّشهم وأقصاهم من المشهد السياسي، ثم يتوجّه بخطى ثابتة نحو نيو- ليبيرالية وحشيّة ترسّخ في عقولنا أحلاما بورجوازية، تحمّلنا مسؤولية فقرنا وتتركنا فريسة سهلة للموت.

هشام محرزي