كلمة الميدان: إقتصاد الحرب
كلمة الميدان: إقتصاد الحرب
وصل الإقتصاد السوداني إلى مرحلة من الإنهيار الهيكلي لم تعد تحتاج إلى تقارير دولية لإثباتها، رغم أن ما يصدر عن بنك التنمية الأفريقي وبرنامج الغذاء العالمي وغيرهما من المؤسسات الدولية المتخصصة لا يفعل سوى تأكيد ما يعيشه المواطن السوداني يوميًا. فقد تراجعت الإيرادات العامة بما يقارب 80%، وبلغ التضخم مستويات مفرطة تُقدَّر شهرياً بنحو 150%، وفقد الجنيه ما يقارب 90% من قيمته منذ إندلاع الحرب، بينما خرج نحو 75% من الطاقة الصناعية من دائرة الإنتاج، وتفكّكت سلاسل الإمداد والتوزيع، وأُغلقت مصانع أو دُمّرت بالكامل.
ورغم وضوح هذه المؤشرات، تُصرّ سلطة الأمر الواقع في بورتسودان – المعبّرة عن مصالح رأسمالية الحرب الطفيلية – على إنكار الحقائق الإقتصادية الموضوعية، وتتمادى في تبني سياسات مالية ونقدية تُعمّق الإنهيار بما يخدم إستدامة إقتصاد الحرب. فبدلاً من معالجة الإختلالات البنيوية وإيقاف النزيف، تُفرض زيادات متتالية في الضرائب والجمارك تحت ذريعة “مواءمة سعر الدولار الجمركي”، وتُطبع كميات جديدة من النقود دون أي غطاء إنتاجي، بما يسرّع تفاقم الكتلة النقدية المنفلتة ويطيح بما تبقى من القوة الشرائية للجنيه.
وفي موازاة ذلك، أُعيد إخضاع قطاع الذهب لهيمنة شبكات التهريب المرتبطة بمراكز النفوذ داخل البنك المركزي، فيما تُدار تحت الطاولة صفقات منح إمتيازات التعدين وبيع الأراضي لجهات أجنبية مقابل تمويل عسكري يُطيل أمد الحرب. وهو ذات النموذج يعاد إنتاجه في نيالا، حيث تستفيد شبكات طفيلية مرتبطة بسلطة الأمر الواقع هناك من إستمرار النزاع عبر إقتصاد قائم على الجباية والمضاربة والنهب، بعيدًا عن أي أفق للإنتاج أو التنمية.
قبل تسعة أشهر، قدّر بنك التنمية الأفريقي حاجة الإقتصاد السوداني إلى 24 مليار دولار سنوياً لبدء مرحلة التعافي بعد الحرب. أمّا اليوم، ومع تراكم الدمار وإتساع رقعة التفكك الإقتصادي، فالتقديرات الواقعية تشير إلى رقم قد يتجاوز 40 مليار دولار سنوياً للشروع في أي برنامج إصلاح إقتصادي جاد. لكن هذه الأرقام تبقى بلا معنى ما لم يُطرح السؤال الجوهري: كيف يمكن تحقيق التعافي، ومن أين، وفي ظل أي بنية سياسية وإقتصادية؟ فالحقيقة أن جواب السؤال سياسي قبل أن يكون فنياً أو تقنياً، إذ لا يمكن للإقتصاد أن يتعافى في ظل سلطتين تُموِّلان وجودهما عبر إقتصاد الحرب ذاته.
لقد تحوّل النزوح والمجاعة وتفشي الأوبئة من مآسٍ إنسانية إلى مصادر ربح سياسي ومالي لشبكات المصالح التي تعتاش على الحرب؛ فكل يوم إضافي من إراقة الدماء يعني تدفق أرصدة جديدة لمستفيدي الحرب في بنوك خارج الحدود. ومن هنا، يصبح إستمرار الحرب ضرورة وجودية لبقائهم، بينما يمثل وقفها تهديداً مباشراً لبنيتهم الإقتصادية الطفيلية.
إن وقف الحرب ليس شعاراً أخلاقياً أو مطلباً وجدانياً، بل شرط إقتصادي موضوعي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الدولة والمجتمع. ولا يمكن لأي دعم دولي أو برامج إستثمارية أو خطط إعادة إعمار أن تنطلق في ظل إقتصاد تتحكم فيه شبكات السلاح والتهريب والريع العسكري. السبيل الواقعي لفتح أفق التعافي يبدأ بإسقاط شرعية معسكري الحرب عبر إرادة شعبية منظمة تنهي إقتصاد النهب، وتستعيد سلطة الشعب على موارده، وتفتح الطريق أمام إنتقال ديمقراطي جذري يطيح ببنية إقتصاد الحرب ويعيد تأسيس إقتصاد وطني منتج قائم على العدالة الإجتماعية.
إن ما تطرحه قوى الثورة، وعلى رأسها الحزب الشيوعي السوداني، يمثل المخرج الممكن: وقف فوري للحرب، وتفكيك منظومة الريع العسكري، وإستعادة القرار الإقتصادي الوطني من قبضة أثرياء الحرب، وتهيئة البيئة السياسية والإجتماعية لإعادة بناء القطاع العام والإنتاج الوطني على أسس التنمية المستقلة. فلا نهوض إقتصادياً دون سلام عادل، ولا سلام دون إقتلاع الجذور الإقتصادية للحرب.
الميدان 4388،، الثلاثاء 11 نوفمبر 2025م.

