دَليلُ الرُّقَيَّات ـ شعر : زهير فخري
(إلَى “مِّي رقيَّة”، أمّ الشّهِيد عَبد الحَقّ اشْباضَة(*))
وَردَةُ الْجَنُوبِ
تُصَادِقُ تُراباً كَرِيماً
نَسِيَهُ النَّرجِسُ الْمُترَاكمُ فِي الأَفئِدَة
عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيق
وَبِأَملٍ رَغيبٍ تَعدُّ الْأَيَّامَ
وتُغمِضُ عَينَيْها كَي لَا ترَى شَجراً
سَاقِطاً منْ قَلبهَا
يُدَاسُ بلَيلِ الْعَجَلاتِ
تَتجَاوَزُ خَطوَها مِثلَ اسْتِعَارةٍ بَعيدَة
تَفيضُ بالغَيْم والضَّوْءِ
تُلاحِقُ القَذَى الرَّاقصَ فِي عَيْنِ الشَّمسِ
وَتُبدِّدُ تَقطِيبَةً مَحفُورةً عَلى جَبينِ الصَّبَاح
ذَخيرَتُها
أمَلٌ مُزمِنٌ وَحُبٌّ عُضَال
وَحُدوسٌ واثقَةٌ ووَصِيَّة للشَّهِيد…
وَمَرْمَاهَا
شَمسٌ خَضْرَاء
وَظِلالُ دَوْحٍ لِلمُتعَبِين…
رُقيَّةُ، يَا أُمَّ الشَّهِيد
تَتْبعُكِ الرُّقيَّاتُ وَيَترُكنَ ابْنَ قَيْسٍ مُتلَعثِماً
يَبحثُ فِي البَحرِ البَسِيطِ عَن وَرْدَتِه السَّوْدَاء
يَعتِبْنَ علَى النَّرجسِ المُنْتفخِ فِي صَدرِهِ
يَكسِرْنَ أَنانِيَتَهُ
وَلا يُطْبِقْنَ جُفونَهنَّ عَلى القَذَى
ثُمَّ يُصَادِقنَ عُشْباً بَرِّيًّا وَدُوداً
كُنْتِ الدَّليلَ إِلَيْهِ…
يَا أُمَّهُنَّ وَيا صَاحِبَتهُنَّ وَيا ابْنَتهُنَّ
الطَّاعِنةَ فِي حُبِّ ابنِهَا وَالبِلَاد
مِنْ بَاطنِ القَدَميْنِ حتَّى ظَاهرِ الشَّمسِ
كُلَّما مَررْتِ بسِجْنٍ
هَبَبْتِ رِيحاً حَانِيةً وَنسِيماً مُرتَجَى
وَآوَيْتِ كمَدَ الْجَمْعِ وَكَفْكفْتِ دَمْعَهُمُ الدَّافِقَ
عَلى دَمِ الشَّهِيد
وَأَرخَيْتِ ذَهَبَ الشَّمْسِ عَلَى لَيْلِ أَحْزَانِهِم…
يَا ذَاتَ الْعِنَاد
تَعتَرِضينَ الرِّيحَ في الْمَهبِّ
وَتَفُكِّينَ أَسْرَ الأَشرِعَة
وتَشُدِّينَ أقدَارَ السُّفنِ بالرَّغْبَةِ الرَّاغبَة
يَا سَاهِدةً فِي اللَّيْلِ
يَا حَالِمَةً فِي النَّهَار
يَا صَاخِبةً فِي هَدْأَةِ الْأَصِيل
يَا مُتَوَجِّسةً فِي الْمَسَاء
وَيَا مُنطَلِقةً مِثلَ شَمْسِ الصَّبَاحِ
فِي الصَّبَاح
يَا تعِلَّةَ الْوَالِغينَ فِي الْوَلَع
يَا كَاتِمَةَ الْأَحْزَان
وَيَا وَاهِبةَ الظِّلَال…
خَبِّري الْغَافِلِينَ
عَن سِرِّ اشْتِعَالِ القَنَادِيلِ فِي صَدْرِ الشَّهِيد
وَعَنْ سِرِّ عِنَادِ الشَّجَرة الَّتِي تُثمِرُ النِّسَاء
وَتَدُلُّهنَّ عَلى الْمَمْشَى الْمُسْتَقِيم
خَبِّري ابْنَ قَيْسٍ
أنَّ الرُّقَيَّاتِ شَذَّبْنَ حُبَّهُنَّ
وَكَسَرْنَ عِنَادَ الرِّيح
وَاسْتَدْرَجْنَها صَوْبَ الْمَدَى الْفَسِيح
خَبِّرِيهِ
أَنَّهُنَّ تَرَكْنَ النَّسِيبَ الْمُتْرَفَ لِ”نَؤُومَاتِ الضُّحَى”
قُولِي لَهُ:
لَنْ تكُونَ الرُّقيَّاتُ طَوْعَ يَدَيْك
قُولِي لَهُ:
لَا سُرَّةَ لكَ مِنهُنَّ وَلَا وَردَةٌ سِرِّيَّة
قُولِي لَهُ:
لَا مَوْجَ فِي بَحْرِكَ وَلَا مِلْح
فَاجْمَعْ صَحائِفَكْ
وَاشْحَذْ صَفَائِحَكْ
وَاقْفُ أثَرَ الرِّيح
فَ“إنَّ الْأُلَى كُنْتَ تَهْواهُمْ قَدِ انْطَلَقُوا” (**)…
■■■■■■■■
(*) أَحد شُهدَاء اليسار المغربي، استشهد على إثر إضراب عن الطعام بسجن “لعلو” في 19 غشت 1989.
(**) عَجُز بَيت شِعري شَهير لاِبنِ قَيْس الرُّقيَّات، هَذا صَدرُه: “ يَا قلبُ وَيْحَكَ لا تَذهَبْ بكَ الحُرقُ“.