نظرات في تاريخ الحركة الثقافية بالمغرب الحديث

نظرات في تاريخ الحركة الثقافية بالمغرب الحديث

نمط (من مظاهر التعبير الشعبي) المسنود رسميا خصوصا ظاهرة الشيخات، ولعل النموذج الفاقع في هذا الصدد الشيخة الحمداوية.

نستطيع حصر بداية الحركة الثقافية في المغرب الحديث وبروز البوادر الأولى للإبداع، في بداية التحول الذي طرأ على البنيات المجتمعية المغربية على إثر التدخل الفرنسي في المغرب، وبالضبط بداية تكسير البنيات المجتمعية القديمة، وإحلال بنيات جديدة مستوردة من الغرب، وإعاقة هذا التحول أيضا، وجعله يقف في مستوى جديد لا هو بالقديم ولا هو بالحديث. وهكذا سوف يدخل المغرب مرحلة حديثة مع عشرينيات القرن الماضي تتسم باستحداث بنيات اجتماعية جديدة واكبتها بنيات فكرية جديدة كان هاجسها البروز والفعل الثقافي من أجل الإفصاح عن الحاجات الجديدة للمجتمع ومواجهة الاستعمار.

وقد كانت النخب المعبّرة عن هذه الكتل تحمل ثقافة مزدوجة، جانبها الأول عماده ثقافة عربية دينية رافدها القديم يرتكز على المؤسسات التقليدية خصوصا القرويين وجامع ابن يوسف، ورافدها الحديث متمثل فيما يرد من الشرق من كتب ومجلات وفرق مسرحية. وجانبها الثاني عماده فرنسا بوصفها حاضرة بقوة على الصعيد العسكري والإداري والتنظيمي والعلمي والثقافي. وهكذا سوف تعمل هذه النخب على أفق إصلاحي أولا، وبانسجام مع الاستعمار الفرنسي، ولن تدخل في مواجهة الاستعمار الفرنسي إلا في مرحلة لاحقة عندما تعي تعارض مصالحها مع التواجد الفرنسي في البلاد، وعندما سوف تتنامى جبهة المقاومة وجيش التحرير، وتتقوى ثقافتها الداعية إلى المواجهة.

لقد كان الهدف المركزي هو البحث عن سبل التعبئة والدعاية ضد الاستعمار، لهذا وقع استثمار الواجهة الثقافية للقيام بمهام سياسية، ولعل هذا ما سوف يدشن بداية العلاقة بين العمل السياسي والثقافي في بلادنا، وتبعية هذا الأخير لمتطلبات المرحلة السياسية وتكتيكات السياسيين. كما انبنى تصوّرهم الثقافي على مزيج من السلفية؛ أي تمجيد السلف الصالح واعتبار أن حال الأمة لن يصلح إلا بالاحتذاء الحرفي للسلف الصالح، والعروبية التي تفترض أننا عرب، وأن اللغة العربية هي الموحّد الفعلي لنا قطريا في انتظار الوحدة العربية، ولكن هذه السلفية تضمنت أيضا موقفا مزدوجا من الغرب. ولم يكن الاهتمام ينصب على الأدوات الفنية وسبل تطويرها، ولكن المهم كان هو إبراز الشعار والتعبئة لإظهار الرفض للمستعمر، والتهييئ لمرحلة المواجهة.

وبعد إعلان الانفصال المباشر للمغرب عن فرنسا سوف تدخل البلاد في مرحلة جديدة مفعمة بقدر كبير من التفاؤل، ورغبة عارمة في العطاء، وبناء المغرب على يد أبنائه. بقيت الحركة الثقافية تعمل في تناغم تام مع الدولة الجديدة. ولم تكن الحركة الثقافية تمانع الأفق العام للدولة، ولم تسع إلى الخروج عما ترسمه.
وقد هيمنت خلال هذه المرحلة موضوعات ترتبط بالمرحلة الاستعمارية، وكيف استطاع رجال المقاومة هزم الاستعمار. كما ارتبطت الموضوعات بالفرح الساذج، واعتبار أن المغرب قطع مع الصراع والخلاف والمشاكل وودّعه إلى غير رجعة. وركزت الأعمال الفرجوية والمسرحية على مظاهر هامشية وثانوية من الصراع، لعل أبرز تجلياتها ثنائيات العروبي والشلح/ المسلم واليهودي/ القروي والمدني. وقد تمت هذه العملية عبر استثمار اللكنة والرطانات المحلية، وكذلك التصرفات النمطية للشخصيات الواقعية، واستثمار شخصية المغفّل متأخر الذكاء بعرض مشاكله وسط عالم متطور. يقفز بسرعة إلى الدهن في هذا الصدد نموذجا عبد الرؤوف وفرقة بوشعيب البيضاوي. كما انخرطت الأغنية في تمجيد الأوراش الكبرى للبلاد. وعموما كانت هذه الأعمال الفرجوية تعكس رؤية جديدة كانت تحملها فئات مدينية متعلّمة كانت غايتها خلق نموذج جديد، أو تنميط الشخصية المغربية، وإدخالها في قالب جاهز أهم خصائصه الثقافة المدنية المسلمة المتعلمة أو المكتسبة لثقافة عامة تمكنّها من العيش وسط واقع جديد، يدرك دهاء المدينة، ويتقن اللغة الفرنسية.

في الجهة المقابلة سعت الدولة خلال هذه المرحلة إلى تطوير الأغنية المغربية، من خلال مسارين يستند أولهما على ظاهرة الغناء الفردي المصحوب بالجوقة والمردّدين مثلما نجدها في النموذج الشرقي أو التخت الشرقي، بينما استند المسار الثاني على تحويل مظاهر من التعبير الغنائي الشعبي إلى نمط مسنود رسميا خصوصا ظاهرة الشيخات، ولعل النموذج الفاقع في هذا الصدد الشيخة الحمداوية.

وسوف تتراكم معطيات على أرض الواقع سوف تدفع نحو تكسير الزواج بين الحركة الثقافية والدولة، وسوف تتباين المسافة بين الطرفين ولعل أهمها؛ تعطيل العمل بالدستور، وتأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، واندلاع انتفاضة 23 مارس وما ترتّب عنها من تأسيس الحركات اليسارية الجذرية، وانتهاجها العمل السري وربط العلاقة مع الجماهير عبر العمل الثقافي. وكانت النتيجة انقسام الحقل الثقافي إلى حقلين كبيرين على الأقل، بقي أولهما متناغما مع أفق الدولة وخاضعا في جزء كبير منه. وقد طغى على أعماله البهرجة والاحتفال، والاستعراضات الرسمية.

أما الحقل الثاني فقد أعلن القطيعة مع الدولة، وشرع في تأسيس أفق مغاير تجلى بالأساس في البعد التعبوي النظري، وفي الاهتمام بحل المعضلات السياسية في الدرجة الأولى. وقد شكلت القضية الفلسطينية مدخلا قويا لهذه الفئة تمرّر من خلالها خطابها عبر التضامن والتعاطف مع القضايا القومية والأممية. وانسجاما مع الأفق السياسي التحريضي سارت الإنتاجات الثقافية في اتجاه شرح الصراع ومعضلاته، وترويج قيم المواجهة والنضال من جهة. ومن جهة أخرى عملت على تشكيل جبهات ثقافية للتصدي لمخططات الدولة ومواجهة برامجها. وقد تبلور هذا من خلال حركة مسرح الهواة، وتأسيس الجامعة الوطنية لمسرح الهواة، وحركة النوادي السينمائية، وتأسيس جامعة الأندية السينمائية أيضا. وتجلت الحركية من خلال الأسابيع الثقافية في مرحلة أولى والمهرجانات المسرحية والسينمائية في لحظة ثانية. كما برزت خلال هذه المرحلة ظاهرة المجموعات الغنائية التي شبّت وسط المسرح ومسرح الهواة وبدأت تعمل بشكل مستقل. هذا دون إغفال بعض التجارب الغنائية المتفردة مثل الإخوان ميكري.

وبطبيعة الحال لم تكن هذه الفورة في المجال الثقافي لتكون بعيدة عن أعين المخزن، ولا يمكنه أن يتركها تنمو بعيدا عنه، لهذا بدأت تتحرك مخططات الدولة نحو الاحتواء والمحاصرة، وقد تجلّى هذا من خلال سياسة تروم المحاصرة والتضييق من جهة، والاحتواء من جهة ثانية. وهكذا يمكننا التوقف عند محاصرة ومراقبة دور الشباب، عبر مجموعة من المذكرات الضبطية. ومنع بعض الجمعيات الفاعلة من النشاط، واعتقال بعض روادها والفاعلين في المجال الثقافي. وفي الوقت نفسه ستظهر الجمعيات الجهوية والتي لقبت “بجمعيات الوديان والأنهار”. وقد كان هدفها احتكار الإشعاع الثقافي، وتوجيهه نحو خدمة أجندة الدولة وبرامجها. كما ستصدر رسالة ملكية حول المسرح توجهه نحو الاحتراف ظاهريا في حين أن غايتها العميقة هي قطع الفنان عن جذوره الاجتماعية، وجعله في خدمة الدولة مقابل أجر زهيد وغير واضح المعالم.

وقد تزامن مع الإجراءات دخول حركة اليسار التقدمي في سلسلة من المراجعات أسفرت على الصعيد الثقافي عن بداية اقتناع الجمعيات الثقافية بضرورة التوقف عن إسقاط القضية الفلسطينية على كل قضايا المجتمع المغربي، وضرورة الانخراط في مرحلة جديدة من الإبداع عنوانها الأكبر تطوير الأدوات الفنية والجمالية خصوصا في مجالي الأغنية والمسرح. وتعزيز فكرة التنسيق بين الجمعيات والانخراط في اتحادات فنية بين جمعيات ذات توجهات متقاربة وخلق أنشطة إشعاعية من عيار ثقيل بدأ بالأسابيع الثقافية ووصل إلى حدود المهرجانات الوطنية والمغاربية والعربية والدولية. كما برزت على الساحة الثقافية جمعيات وطنية موضوعاتية تهتم بمحور واحد مثل القضية الأمازيغية أو قضية المرأة أو حقوق الانسان. وبدأت تتشكّل شبكات تهتم بقضية واحدة، وتسعى إلى نشر قيم ثقافية جديدة مرتبطة بمحور اشتغالها، كما تعمل على دفع الدولة نحو الاستجابة لبعض المطالب التي تخص وتوحّد هذه الجمعيات. وقد برزت هذه الفكرة بقوة في قضية المرأة وحقوق الانسان والقضية الأمازيغية.

والخلاصة المؤقتة التي يمكن الاطمئنان إليها أن الحقل الثقافي أضحى حلبة صراع كل واحد يحاول الهيمنة عليه وانتزاعه من الطرف الآخر؛ المخزن بمقاربته الأمنية والسلطوية، والجمعيات الدولية بأموالها وتوجهاتها التنموية السطحية، والتيارات المحافظة بثقافتها الشعبوية المحافظة المرتكزة على تصور سطحي شكلي للإسلام، والتيارات المتنورة داخل المجتمع التي لاتزال تصوراتها مشوّشة بين الهيمنة والدمقرطة.

(يتبع)

رشيد برقان
فاعل جمعوي ومهتم بالشأن الثقافي