السياسة الثقافية.. من الإستبداد إلى التغيير

السياسة الثقافية.. من الإستبداد إلى التغيير

•● مصطفي الفاز

إن الحديث عن ”السياسة الثقافية” للدولة المغربية يطرح إشكالا مزدوجا، على مستوى المفاهيم حيث تختفي أسس البحث في الإنتاج الثقافي بمعاييره الجمالية والفنية المعبرة عن الوجدان المجتمعي، لتبرز دلالات أكثر تعقيدا من قبيل السياسة والثقافة والدولة… وعلى مستوى المنهج، حيث تتعدد المقاربات من وصفية للظاهرة الثقافية إلى المقاربة السوسيولوجية الأكاديمية المحكومة بقوانين التفسير والاستقراء، فتتشعب مداخل البحث ونصبح أمام صورة نمطية متداخلة يصعب تفكيكها.
فهل نتحدث عن ”السياسة الثقافية” كخطط ومشاريع مرتبطة بالحقل الثقافي؟ أم نتحدث عن ”السياسة الثقافية” كصناعة ومنتوج جمالي وفني؟ هل هناك حدود فاصلة بين الثقافة الشعبية والثقافة العالمة؟ هل نبني مقاربتنا حول الحركة الثقافية بإنتاجها المادي واللامادي في سياق كرونولوجي يسير وفق السياق الزمني للدولة؟ كيف نعزز ثقافة التغيير كنقيض لثقافة الاستبداد؟

فرضية الانطلاق

لنفترض أن الممارسة الثقافية تنتَج في ظل أوضاع تاريخية اقتصادية واجتماعية معينة وأن غايات هذه الممارسة الثقافية وأهدافها تحددها الدولة، فهذا يعني أن الفعل الثقافي خاضع لمبدأ التخطيط وفق برامج حكومية تترجم التوجه الايديولوجي للدولة، ”فهل يمكن أن تخضع الثقافة للتخطيط؟” سؤال مهم تردد على لسان المثقفين عقب الحراك الاجتماعي ربيع 2011.

لكن الدولة التي حددت الغايات الايديولوجية من وراء الفعل الثقافي هي نفسها الدولة التي ورثت رؤية كولونيالية للثقافة:
أولا، من خلال المؤسسات المحدثة من لدن الاستعمار الرسمي 1912 تحت مسمى ”مصلحة الآثار والفنون الجميلة والمواقع التاريخية” وهو توجه يترجم الاستغلال الكولونيالي ومؤسسات المخزن العتيقة للرأسمال الثقافي وجعله في خدمة البنيات الرأسمالية التابعة للمتروبول.

ثانيا، بربط الثقافة بإنتاج الثروة كفلكلور للتنشيط السياحي وتشجيع الاستيطان.

نفس الغايات والأهداف استمرت، خاصة عندما تم الانقلاب على حكومة عبد الله ابراهيم بداية الستينات، إذ شكل قرار إلغاء مكتبة التربية الشعبية وإلحاقها بوزارة الشباب والرياضة وتكريس ثنائية التعليم الأصيل والعصري إشارة لاعتماد المداخل الثقافية واجهات للهيمنة.

لقد كان التخطيط للفعل الثقافي يتم وفق البناء التاريخي للنظام المخزني، وبالتالي لم يكن الجهاز الثقافي للدولة جهازا حياديا ولم تكن لتسمح من موقع الصراع بانبثاق أي نموذج أصيل للثقافة الشعبية.

الثقافة والديمقراطية

لم يكن المثقف المغربي في عزلة عن الحركية الثقافية العالمية خصوصا بعد الحرب الامبريالية الثانية، فقد تعرف على مختلف التجارب مع الحفاظ على الموروث الشعبي من عادات وتقاليد وأشكال احتفالية شعبية. وكان الفعل الثقافي الرسمي متجاذبا بين رؤيتين:

رؤية البورجوازية المدينية التي لم تتخلص من أصولها السلفية، والتي فصلت بشكل تعسفي بين الثقافة والديمقراطية لمواجهة برنامج الإسلام السياسي الذي أسس لهذا الفصل، ولكنها حافظت على خدمة الثوابت الدينية للنظام المخزني وجعلت من عنصري الشرف والبيعة أهم الخطوط الحمراء، وهذا أحد تجليات الهيمنة القائمة على قبول ديمقراطية جهاز الدولة كتعبير عن تحالف طبقي في طور التشكل، والتعبير عنه ثقافيا رغم أن البورجوازية المدينية ساهمت من خلال تعبيرات جمعوية مرتبطة بالحركة الوطنية في خلق دينامية ثقافية نشطت أساسا في المسرح كخطاب فني للمقاومة.

أما الرؤية الثانية فهي تكنوقراطية بالأساس تتخذ من الوصاية المباشرة لوزارة الداخلية على الحقل الثقافي إحدى المداخل الأساسية لتكريس الهيمنة عبر بلورة ”مشاريع تنموية” و”مخططات ثقافة القرب” وغيرها، تقدم على أنها برامج تعاون لتثمين التراث الثقافي.

(رؤية 2010 للإقلاع السياحي، استراتيجية 2015 للصناعة التقليدية، مهرجانات التراث الشعبي والموسيقى الروحية…) وكلها برامج تصب في خدمة الرأسمال التبعي وليس في خدمة الهوية الثقافية الشعبية.

فكلا الرؤيتين ساهمتا في تثبيت دعائم الثقافة السائدة وفك الربط الجدلي بين الثقافة والديمقراطية، وهي النتيجة التي حتمت علينا منذ البداية عدم الخوض في التحقيب التاريخي للسياسة الثقافية أو الحديث عن الحصيلة والآفاق لأن هذا المسار لن يؤسس لأية استراتيجية في خوض الصراع الثقافي، ولأن الدولة بمؤسساتها الايديولوجية تخوض هذا الصراع من خلال الحفاظ على ضبابية مشروعها الثقافي، والتأكيد على وظيفة المحافظة على التراث، طبعا التراث المخزني.

فليس غريبا أن ننتظر إلى غاية سنة 1974 حتى نشاهد إحداث وزارة مهتمة بشكل صريح بالثقافة، وليس غريبا أيضا أن نشاهد انتقال الدولة بنظامها السياسي إلى تعميق الفصل بين حقول التعليم والشباب والرياضة والثقافة في عز المحاكمات التاريخية وخنق حرية التعبير.

الحرية جوهر الحركة الإبداعية
”غياب تصور واضح للشأن الثقافي” خلاصة تبدو مبهمة وتخفي العديد من التفاصيل، من بينها إمكانية الربط بين ركائز النظام السياسي المخزني والهيمنة على الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية لصناعة النخب والأفكار التي تعيد إنتاج مفهوم السلطة المستبدة. فالأمر لا يتعلق فقط ب”الواقع السياسي المغربي والأزمة الداخلية للأحزاب السياسية والانقسام داخل الحركة الوطنية” كما تشير دراسة (أمينة التوزاني في كتاب السياسة الثقافية) وإنما تحصين النظام السياسي وإبراز ثوابته في وجه كل محاولة للتعبير الثقافي عن جملة المطالب الجماهيرية في الديمقراطية والتغيير، خصوصا بعد تحول الحقل الثقافي إلى مجال خصب للصراع بين القوى الديموقراطية والنظام السياسي. ففي عز الاعتقالات السياسية التعسفية وحظر المنظمة الطلابية وعسكرة الجامعات والمعاهد العليا ومحاصرة الفعل الثقافي الجاد والتحكم في الإعلام والاتصال، استمرت في البروز حركة ثقافية ”مستقلة” أبدعت في مختلف الأجناس الأدبية، من شعر فصيح وزجل شكل أساس الأغنية المغربية الملتزمة وقصة ورواية وظهور أندية سينمائية وحركة مسرحية تسلحت بتنظيرات لمدارس مختلفة من مسرح جدلي والمسرح الفقير والمسرح الثالث وحركة درامية في التجريب ومونودراما، ناهيك عن الصيت الكبير الذي شهدته المجلات الدورية كالجسور وأنفاس والزمان المغربي والبديل… حتى أن المثقفين جعلوا من الحرية جوهرا أساسيا في الحركة الإبداعية، وجعلوا من حركية الفعل الثقافي النقيض الموضوعي للهيمنة الثقافية الرسمية.

لقد ظلت مواقع الصراع الثقافي محكومة بالثلاثي الرقابي جهاز الداخلية والجهاز الديني وجهاز السلطة المنتخبة ناهيك عن الرقابة الذاتية التي تكبل حرية الإبداع حتى يظل دون الخطوط الحمراء.

هكذا تجتمع مهام المراقبة والتدبير والتنظيم والتخطيط بغرض تعزيز ثقافة النخب على حساب الثقافة الشعبية واحتكار المؤسسات الثقافية الكبرى لتكريس غاية الهيمنة بما في ذلك تشجيع الاستثمار الرأسمالي لخدمة هذا التوجه (ضخ 120 مليون درهم في مشروع مسرح الرباط الكبير من طرف وكالة أبي رقراق للتنمية) وتخصيص ميزانيات ضخمة للمهرجانات التي تضفي صور “الحداثة” على الإستبداد.

من ثقافة الاستبداد إلى ثقافة التغيير

“إن المثقف الذي يلوذ بالصمت أكثر خرابا من النظام الديكتاتوري القمعي” هكذا عبر غيفارا عن الثقافة الصامتة التي تخدم الاستبداد حتى وإن تكلمت فإنها تظل صامتة لأنها مفتقرة لأدوات إزاحة هيمنة الثقافة السائدة، فالمثقف الذي لم يدرك بعد وعيه الطبقي يغرق في الفردانية ويسعى إلى الشهرة الذاتية.

وهناك قسم آخر من المثقفين يؤمنون ب”نقاء الفن والإبداع” ويعتبرون حرية المثقف والمبدع تتجسد في عدم تكبيله بالالتزام السياسي، تصور يرد الجمال إلى فكرة الروح المطلق وفق تعبير هيغل.

فهل يحقق كلا التوجهين قدرا من الحرية؟

الحرية تظهر في الحقل الثقافي عندما يسعى المثقف إلى تحقيق ثلاث أغراض: معرفي، تنويري، تحريضي، وبالتالي يكون الإنتاج الثقافي المقدم ليس للاستهلاك كسلعة ولكن للمساهمة في تغيير الشروط الاجتماعية برأسمالها الثقافي وتعزيز قوى الإنتاج الثقافي المعبرة عن الهوية الأصيلة للشعب المغربي، “فكل فكر استبدادي يقوم على الوحدانية” بالضرورة كما يصرح فيصل دراج.

فثقافة التغيير تبدأ حينما يدرك المثقف بأن الثقافة السائدة تسعى إلى إضفاء المشروعية على ركائز النظام السياسي بما فيها تبرير التسلط والقمع وخنق الحريات، وتختزل وظائف الثقافة في التسلية والترفيه والإلهاء وصرف المنح السخية على الرموز الدينية المكرسة للهيمنة كالأضرحة والزوايا.

إن إنتاج خطاب المشروعية السياسية المؤسسة لثوابت الاستبداد تقتضي إنتاج خطاب الثقافة التقدمية المفككة لأصول هذه المشروعية.