الخلفيات النيوليبرالية للقانون التنظيمي للإضراب
![الخلفيات النيوليبرالية للقانون التنظيمي للإضراب](https://i0.wp.com/annahjaddimocrati.org/wp-content/uploads/2024/07/KABIR_KACHA.jpg?fit=800%2C533&ssl=1)
الخلفيات النيوليبرالية للقانون التنظيمي للإضراب*
ليست النيوليبرالية في عمقها سوى إعادة بعث مشوه للعالم الرأسمالي في عشرينيات القرن الماضي، والذي انتهى بالكساد العظيم ثم الحرب العالمية الثانية، ولذلك فالنيوليبرالية هي عودة جديدة للاستعمار لمحق كل القوانين السيادية ولإزالة كل العوائق والضوابط والحدود والحواجز أمام دخول وخروج البضائع ورؤوس الأموال، وترك البلاد مشرعة على مصراعيها أمام الشركات المتعدية الجنسيات وتمكينها من صناعة القرار الداخلي والتشريع في جميع المستويات بالشكل الذي يسمح للرأسمال من حفظ أمنه وحريته ومصالحه، أما الدولة فغير مسموح لها بالتدخل الا بالقدر الذي يفيد السوق، ويضمن إلغاء كل القيود على أسواق العمل وتخفيف الضرائب على الأغنياء، وتحفيض الضرائب يعني إعطاء الأموال للأغنياء والشركات ليزدادوا ثراء فوق ثرائهم بكل بساطة، علما أن التاريخ لم يقدم ولو دليلا وحيدا على أن تقليل الضرائب يساعد في النمو الاقتصادي أو له أية فائدة، ناهيك عن تقليص حجم الميزانية العامة وتخفيض الأجور الحقيقية والإنفاق العام والتخلص من كل القطاعات العمومية مقابل إغداق الانفاق على أدوات القمع بكل أشكاله ومجالاته، وفي هذا الصدد يندرج قانون المالية لسنة 2025 فمن أصل 28.906 منصب مالي برسم سنة 2025 استفادت وزارة الداخلية من 7.744 منصب وإدارة الدفاع الوطني من 5.792 والمندوبية العامة للسجون من 1000 منصب في حين أن وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي لم تحصل سوى على 364 أي أقل حتى من وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية ب400 منصب، بالشكل الذي يحول البلد إلى دولة أمنية مخيفة مستعدة لنهش كل من يقف في وجه آلهة الربح .
علاقة بما سلف فإن مشروع القانون التنظيمي للإضراب يندرج ضمن المبادرات التشريعية التي تهدف لتصفية كل أدوار الدولة الاجتماعية والتخلص من كل القوانين والضوابط التي تقيد حرية الرأسماليين، وتخليصهم من كلف تنظيمات الطبقة العاملة وقوة الحركة الاحتجاجية بما يسمح للطوفان التدميري للنيوليبرالية بتوسيع سوقه ليطال الصحة وقطاع التعليم والضمان الاجتماعي ورأسملة أنظمة التقاعد عبر ما يسمى حاليا إصلاح صناديق التقاعد والتي ليست في عمقها سوى سرقة للأجور والأعمار وجعل كل شيء في الحياة سلعة نقدية، وهذا نفس ما أكد عليه وزير التشغيل المغربي في تقديمه لمشروع القانون التنظيمي أمام لجنة القطاعات الاجتماعية في مجلس النواب بالقول إن هذا النص لبنة أساسية لاستكمال الترسانة القانونية التي تهم الحقل الاجتماعي وستتعزز عبر إعادة النظر في مدونة الشغل وقانون الوظيفة العمومية مما من شأنه تعزيز فتح أبواب الاستثمار وتحفيزه لولوج السوق الوطنية بكل أمان، وبذلك فإن هذا القانون يندرج ضمن مسلسل تسريع تحويل تام لكل ملكية الدولة إلى الشركات الخاصة وذلك عبر سياسة هجومية منظمة على النقابات العمالية من خلال تجريم أي إضراب غير مرتبط بظروف العمل وتحسين الوضعية المادية للمضربين، كما حددت ذلك المادة الثانية من قانون الاضراب، مجرمة بذلك كل اضراب يمكن ان يمتد لمساءلة التوجهات الاقتصادية للدولة بإيراد مقتضى فريد بهذا الشأن في عبارة لا غموض فيها في المشروع بصيغته الاولى والذي يقول في المادة الخامسة بأنه: “يعتبر كل اضراب لأهداف سياسية ممنوعا” وتم استبدالها في الصيغة المعدلة ب”كل اضراب يمارس خلافا لأحكام هذا القانون هو اضراب غير مشروع”، وبذلك سعى المشرع لتكبيل يد الطبقة العاملة وعموم الكادحين بتجريم كل فعل نضالي يهدف الى الدفاع عن مدخراتهم وثرواتهم الوطنية وحمايتها من أن تطالها أيادي لصوص الرأسمال.
مما لاشك فيه أن الرأسمال لايريد دولة ضعيفة لاتنفعه، فهو يريدها ان تكون قوية بما يمكنه من توسيع الأرباح والتوحش في الاستحواذ على الثروات، دولة في خدمته تهيء له كل أسباب تجاوز معوقات تمدد السوق واتساعه؛ كما انه يريد مجتمعا مفككا مؤلفا من أفراد لا تربط بينهم أي التزامات، و لذلك سعى هذا القانون لتجريم الإضراب التضامني معززا بذلك روحا مهنية أنانية ضيقة ومتقوقعة حول ذاتها ومعزولة عن نسيجها المجتمعي ينكفيء فيها كل فرد حول نفسه، ولتجنب أدنى شبهة من الشك في النوايا النضالية الطبقية للتنظيمات النقابية، وخوفا من قلب موازين القوى داخلها لفائدة فعل نقابي يخدم الطبقة العاملة، سعى النص جاهدا في نسخته المعدلة لتشديد التضييق في حصره للنقابات التي يحق لها الدعوة للإضراب في النقابات الأكثر تمثيلية و في وضعية قانونية سليمة، و هذه عبارة سحرية تفيد وتعني نقابات تحت السيطرة الأمنية أو الحزبية المنافحة عن مصالح الرأسمال، ما دامت وزارة الداخلية هي الجهة الإدارية التي أوكل لها القانون تلقي الملفات القانونية للنقابات تأسيسا وتجديدا، وهي نفس الجهة التي تهندس انتخابات ممثلي المأجورين والموظفين بالشكل الذي يمنح التمثيلية للبعض ويحرم البعض منها، تمثيلية مصالح الاغنياء عوض مصالح العمال بالطبع، وعلى اعتبار قطاع الوظيفة العمومية لايزال في موقع محمي نسبيا ويشكل أهم قلاع العمل النقابي بالمغرب خلافا للقطاع الخاص فإن المشرع عمد لإثخانه بالتنسيقيات من جهة لافقاده ثقله النضالي وإثقاله بجملة من القيود البيروقراطية لاعلان اضرابه وعلى رأسها المدة الزمنية الطويلة بين إعلان الاضراب وخوضه والتي تبلغ 60 يوما مع تجريم الاضرابات على المستويات المحلية والاقليمية والجهوية.
إن سوقا حرة هي الإعتداء على الحقوق والحريات وإعادة رسم لأدوار الدولة بالتخلص من كل أدوارها الاجتماعية وإقرار اللاعدالة وتعزيز التقشف في البرامج الحكومية على حساب تعاظم معدلات البطالة والتي أصبحت في المغرب حسب اخر إحصاء 21,3 في المائة، وسلخ الجلود بالزيادات في الضرائب والتي جعلت المغرب يحتل المرتبة الثانية إفريقيا في الضغط الجبائي، وتوفير فرص انهيار حتى المقاولات الصغرى والمتوسطة وتفريخ المشاكل التي انعكست حتى على الهرم السكاني المغربي وآلت به الى الشيخوخة وعدم القدرة على التجدد حيث أن معدلات الانجاب التي كانت تبلغ 2.95 قبل عقد من الزمن أصبحت حسب الاحصاء الاخير اقل من 0.85 في المائة، زيادة على تغييب كل أشكال الديمقراطية، فالنيوليبرالية تستطيع إتيان كل الجرائم من أجل تعزيز توسع الرأسمال، إنها رأسمالية بلا قفازات أي دون حقوق، بالشكل الذي يجعلنا نستشعر حنينا للرأسمالية التي سادت العالم من 1945 الى سبعينيات القرن المنصرم، وعليه فالمشاكل الاجتماعية أضحت مجرد أخطاء فردية وتعبير عن عدم قدرة على التكيف والتأقلم وليست جرائم من فعل رأسمالية الكوارث، ولذلك جرم مشروع القانون التنظيمي للإضراب كل اضراب للمطالبة بإرجاع المفصولين تعسفيا من العمل وأقر ضرورة خضوعهم للقوانين الجافة للعرض والطلب، أي أنه حول العمال الى مجرد أدوات مستأجرة من قبل اصحاب العمل لا يهم أمرهم أحدا، يمكن التخلص منها بسرعة أكبر وأسهل مما يمكن التخلص من باقي وسائل العمل التي يعد كل مس بسلامتها خطأ جسيما يبرر الطرد، واعتبر أمر الطرد والتسريح والحكم بالموت جوعا على العمال مجرد منازعة قضائية، بالشكل الذي يفقد حتى التنظيم النقابي علة وجوده ويجرده من أي قيمة على مستوى حقل الصراع الاقتصادي والاجتماعي.
إن كارثة حقيقية تحلق فوق رؤوسنا، والوضع بالبلاد تجاوز ما يمكن تسميته أزمة يمكن تخطيها الى مستوى كارثة، وأولئك المتربعون على منظمات العمال لابرامج نضالية بديلة لديهم خارج الصيغ المبتذلة والمستهلكة والمألوفة من بلاغات الشجب والتنديد بتمرير قوانين ضد مصالح العمال، وبعد ذلك يديرون الظهر لعباراتهم وللعمال مساهمة منهم في خلق أفضل مناخ للاستثمار ولاستقرار العلاقات الشغلية في الدرك الذي وصلته بعد نجاح كل غارة من غارات دك كل ما حقق بكلف غالية، فهل أضحى قدر العمال الاستسلام لمشيئة الوحشية التي أبدتها النيوليبرالية وماكينة دولتها الاستبدادية المخزنية في العقود الاخيرة؟ وكيف الخروج من هذا النفق الذي تساير وتجاري فيه تنظيمات العمال تجريدهم من كل الشروط الحياتية والاجتماعية لعيش آدمي في حدوده الدنيا؟.
* نشر بالعدد 590 من جريدة النهج الديمقراطي