الحرب في أوكرانيا: دفاع مشروع على أمن روسيا وتسريع لسيرورة بناء عالم متعدد الأقطاب

الحرب في أوكرانيا: دفاع مشروع على أمن روسيا وتسريع لسيرورة بناء عالم متعدد الأقطاب




تعميما للفائدة، ننشر هذا المقال الذي كتب، مباشرة بعد انطلاق الحرب في أوكرانيا، ونشر في عدد مجلة التحرر (خريف-شتاء 2022)





الحرب في أوكرانيا: دفاع مشروع على أمن روسيا وتسريع لسيرورة بناء عالم متعدد الأقطاب

1. أهم سمات الوضع الدولي عشية اندلاع الحرب في أوكرانيا:

يمكن تكثيف أهم سمات الوضع الدولي فيما يلي:

– استمرار ازمة نمط الانتاج الرأسمالي التي انفجرت في 2008 وكشفت فشل الرأسمالية على المستويات الاقتصادية (أزمة خانقة لا زالت مستمرة لحد الآن) والاجتماعية (تكثيف استغلال الطبقة العاملة وتعميق هشاشة الكادحين وتفقير الطبقات الوسطى والايديولوجية (أزمة النيولبرالية و”اليد الخفية” أي الاعتماد على السوق لحل كل المشاكل التي تعترض الرأسمالية) والبيئية (التدمير المتصاعد للبيئة بسبب جري الرأسمالية وراء الربح الأقصى والسريع والحروب وسباق التسلح) والسياسية (أزمة “الديمقراطية” البرجوازية ولجوء الرأسمالية إلى السلطوية والقوى اليمينية المتطرفة، بما فيها الفاشية الجديدة،لمواجهة احتداد الصراع الطبقي).

– جائحة كوفيد-19 التي عمقت هذه الازمات وعرت الافلاس الأخلاقي للرأسمالية (الأرباح على حساب الأرواح) وأظهرت الفشل الذريع للنيو لبرالية في معالجة هذه الأزمة وأهمية تدخل الدولة لتقديم خدمات اجتماعية عمومية جيدة وقوية ومجانية (نظام صحي، نظام تعليمي، إلخ) تفي باحتياجات السكان وأيضًا نظام حماية اجتماعية حقيقي. الشيء الذي يتطلب بناء اقتصاد وطني يضمن السيادة الغذائية وحاجات الشعب الاساسية. كما بينت أهمية التعاون والتضامن داخل كل دولة وبين الدول. وهي سياسات وقيم اشتراكية بامتياز.

– إن فشل الرأسمالية المتعدد الأوجه لا يعني أن وعي الشعوب بضرورة تجاوزها قد أصبح متوفرا: فالآلة الدعائية الضخمة والأخطبوطية الامبريالية غرست في أذهان الشعوب ألا بديل عن الرأسمالية. والحال أن غياب بديل ملموس لها يشكل تحديا حقيقيا. ولذلك لا مفر من المرور بمراحل تعبر عن مستوى تطور الوعي الشعبي.

إن الامبريالية الامريكية، رأس رمح الرأسمالية المالية، تمثل أخطر عدو لكل شعوب العالم (مئات القواعد العسكرية المنتشرة في كل أرجاء المعمور، ميزانية عسكرية تفوق الميزانيات العسكرية للعشر دول التي تليها( روسيا والصين وفرنسا وانجلترا والهند…)، حروب متعددة ساخنة أو باردة أو هجينة، مناورات عسكرية استفزازية قرب الحدود الروسية والصينية، عقوبات ضد 38 دولة وحصار ضد العديد منها ونهب الخيرات الطبيعية ونهب مالي بواسطة الدولار والمؤسسات المالية الدولية، حرب باردة ضد الصين… لذلك يتنامى، أكثر فأكثر، الوعي الشعبي بأن الامبريالية الامريكية تمثل أخطر عدو للشعوب وأكبر خطر يتهدد البشرية بالفناء.

– اعتبار أمريكا الصين عدوا وجوديا لها. ويتجلى ذلك في دخول الامبريالية الامريكية عمليا في حرب باردة ضد الصين (تعزيز التواجد العسكري في القواعد العسكرية المتواجدة وإقامة أخرى وبناء أحلاف جديدة من قبيل الحلف الرباعي الذي يضم، الى جانب أمريكا، الهند واليابان وأستراليا والحلف الأنجلوسكسوني الذي يضم كل من الولايات المتحدة الامريكية والمملكة المتحدة وأستراليا، حرب تجارية وحصار وعقوبات وإثارة قلاقل واستغلال قضية الويغور، الاستفزازات حول تايوان والتراجع عن الاعتراف بها كجزء من الصين…).

– يتوضح، الآن أكثر من أي وقت مضى، أن الاتحاد الاوروبي جزء تابع في المنظومة العسكرية والسياسية والاقتصادية والمالية التي تتحكم فيها أمريكا وشركاتها المتعددة الاستيطان. وأن استقلالية القرار السياسي الاوروبي وهم في ظل الهيمنة الاقتصادية والمالية والعسكرية والثقافية الامريكية على أوروبا. فالإمبريالية الامريكية استطاعت، مع استثناءات قليلة( فرنسا أيام حكم دوغول وموقف فرنسا وألمانيا الرافض للمشاركة في غزو العراق)، حشد المعسكر الامبريالي وراءها ضد الاتحاد السوفيتي باسم “الدفاع عن العالم الحر” وضد الشيوعية. ثم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وسيادة نظام القطب الواحد، أصبح العدو الذي يجب مواجهته هو الأنظمة والقوى التي ترفض وتقاوم هيمنة هذا القطب، إما بشكل مباشر (الحرب لتفكيك يوغسلافيا، الحروب ضد العراق وأفغانستان وليبيا…) أو غير مباشر بواسطة وكلائها( وأساسا الكيان الصهيوني وأيضا الحلف تحت قيادة السعودية في اليمن والآن النظام الأوكراني ضد روسيا)، وذلك تحت يافطة التصدي للإرهاب الاسلاموي التي كانت راعية ومدعمة له أو باسم الدفاع عن الديمقراطية أو باسم “حق التدخل الإنسانوي” المزعوم أو باختلاق أكاذيب كامتلاك صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل والآن بذريعة الدفاع عن أوكرانيا ضد روسيا…

– نمو اقتصادي هائل للصين بوأها الصدارة (أكبر ناتج داخلي خام في العالم من حيث القدرة الشرائية) وتطور اجتماعي هام أدى إلى القضاء على الفقر وتقدم علمي وتكنلوجي باهر.

– تعافي الاقتصاد الروسي وتصدي روسيا لمحاولات الامبريالية الامريكية إضعافها وعزلها وتطويقها، وذلك من خلال تطوير علاقاتها مع الصين ولعبها دورا هاما في منظمة البريكس وخاصة منظمة التعاون لشنغهاي التي تضم الصين والهند وروسيا وإيران وبلدان أخرى.

– في مواجهة تغول الامبريالية الغربية ومحاولتها فرض سيطرتها على العالم من خلال العقوبات والمؤامرات والانقلابات والحروب الساخنة أو الهجينة أو الباردة، ونظرا لفشل غزوها للعراق وأفغانستان وعجزها عن حماية عملائها في هذين البلدين وبسبب التصدي لها ولعملائها في العالم العربي في سوريا واليمن ولبنانوفلسطين وبسبب لجوء هذه الامبريالية إلى سرقة أموال الدول التي تعاديها، وصعود الصين وروسيا، بدأت بعض الأنظمة الموالية للغرب الامبريالي (السعودية والامارات وقطر وتركيا…) تحاول التقرب من روسيا والصين وتقليص تعاملاتها التجارية بالدولار واليورو. وتسعى السعودية إلى التحضير لحقبة ما بعد النفط من خلال تنويع وتطوير اقتصادها وبناء قاعدة صناعية. غير أن الامبريالية الأمريكية لم تستجب لهذا الطلب، بينما الصين تتوفر على ثلاث مقومات تجعلها قادرة على ذلك: منظومة صناعية قوية ومتكاملة وخبرة كبيرة في انجاز مشاريع البنية التحتية الضخمة وسوق شاسع.كما أن هناك أنظمة تسعى إلى الحد من هيمنة الامبريالية الغربية عليها مثل الهند وباكستان وغيرهما والحصول على هامش أكبر من الاستقلالية لقرارها الوطني. هذا إضافة إلى كوبا ونيكاركوا وفينزويلا وكوريا الشمالية وإيران التي تعتبرها الامبريالية أعداء لها.

إذن هناك أنظمة متعددة، أرادت ذلك أم أبته، مضطرة إلى فك الارتباط، إلى هذا الحد أو ذاك، مع النظام العالمي الحالي الذي يهيمن عليه الرأسمال المالي الغربي بقيادة أمريكا. ويوفر القطب الروسي-الصيني بديلا معقولا، جزئيا على الأقل، لهيمنة القطب الامبريالي الغربي.

– هناك إذن أمكانية للتلاقي الموضوعي بين تنامي عداء الشعوب للإمبريالية الامريكية وطموح الشعوب إلى عالم متحرر من هيمنتها، عالم أكثر عدلا ومساواة من جهة، ومحاولات العديد من الأنظمة والقوى، إما تقليص تبعيتها لهذه الامبريالية أو مواجهة هيمنتها، بما في ذلك عسكريا، كما هو الحال بالنسبة لروسيا الآن في أوكرانيا وكما قد يقع بالنسبة للصين قريبا من جهة أخرى. هكذا سيعرف العالم تغيرات جوهرية تتمثل في تكريس عالم متعدد الأقطاب: القطب الذي تتشكل نواته الصلبة من الولايات المتحدة الامريكية أوروبا الغربية واليابان والقطب الذي تتشكل نواته الصلبة من الصين وروسيا وأقطاب إقليمية قد ترتبط بهذا القطب أو ذاك أو تكون محايدة. إن هذه التطورات، لكونها تؤدي، في نهاية المطاف، إلى تصفية هيمنة الرأسمال المالي الغربي الريعي والمفترس المسئول الأساسي عن انتشار الحروب ونهب الخيرات الطبيعية والتدمير المتسارع للبيئة وفرض السياسات اللبرالية المتوحشة التي تنشر الفقر وتعمق الفوارق الطبقية، على مناطق شاسعة من المعمور وغالبية سكان العالم، فإنها في مصلحة الشعوب والطبقات العاملة.

2. الحرب في أوكرانيا:

1.2. الحرب في أوكرانيا: دفاع مشروع على الأمن القومي لروسيا وعن حق تقرير مصير سكان الدونباس:

– منذ انهيار الاتحاد السوفيتي والامبريالية الغربية تعمل جاهدة على إضعاف روسيا وتطويقها وإخضاعها( الحاق أغلب دول حلف وارسووأغلب الجمهوريات السوفيتية السابقة بالناتو)، في تناقض مع الالتزامات الامبريالية لغورباتشوف ويلتسين بعدم القيام بذلك.

– منذ انقلاب 2014من طرف النازيين الجدد والقوى الموالية للإمبريالية الغربية في أوكرانيا، والنظام الأوكراني يسعر العداء للروس القاطنين في الدونباس (حرمانهم من استعمال اللغة الروسية واعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية، وذلك في الدستور) ويشن الحرب ضدهم (آلاف القتلى) والامبريالية الغربية والنظام في أوكرانيا يعملان من أجل جر أوكرانيا نحو الغرب متنكرين لاتفاقيات مينسك التي تمنح الدونباس الحكم الذاتي وتمنع التحاق أوكرانيا بالاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف الشمال الأطلسي. وقد اعترفت أنجيلا ميركل وفرانصوا هولاند انهما كانا مصممين على عدم الإلتزام بهذه الإتفاقيات الذين كانا قد ضمنهما أو هذه هذه الإتفاقات هو ربح الوقت لتسليح أوكرانيا ضد روسيا.

– وتكمن خطورة هذا الوضع في كون أوكرانيا كانت على وشك التحول إلى قاعدة متقدمة( على بعد بضع مئات الكيلومترات من موسكو) في هذه المنظومة العدوانية.

– مع انفجار الازمة الأخيرة، تعاملت الامبريالية والنظام الاوكراني باستخفاف وتعنت ورفض متعالي للمطالب الروسية المشروعة فيما يخص أمنها القومي ووضع الروس الذين يشكلون الأغلبية الساحقة منسكان الدونباس.

الخلاصة هي أن الحرب كانت حتمية لأن الامبريالية الغربية لم تترك أي خيار آخر لروسيا التي كانت في وضعية الدفاع المشروع عن الذات وعن أمنها القومي وعن الأقلية الروسية في أوكرانيا.وبالنتيجة فإن مسئولية الحرب تتحملها الامبريالية الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، والنظام الأوكراني والميليشيات النازية.

ولذلك، فإن الحرب ليست حربا بين الامبريالية الغربية و”الامبريالية” الروسية من أجل اقتسام العالم، كما يروج لذلك التروتسكيون وبعض الماركسيين-اللينينيين، بل هي حرب مشروعة للدفاع عن النفس من طرف روسيا وحرب بالوكالة ينفذها النظام الأوكراني العميل للامبريالية الغربية ضد روسيا ويشارك فيها الحلف الأطلسي بالدعم على كافة المستويات (التخطيط والمتابعة اللصيقة والتدريب العسكريين والدعم الاستخباراتي والأسلحة المتنوعة والمتطورة وتجنيد المرتزقة من مختلف انحاء العالم والدعم السياسي والدبلوماسي والاقتصادي).

إن فهم الحرب في أوكرانيا كتعبير عن الصراع بين إمبرياليات هو، في الحقيقة، استنساخ لموقف القوى الشيوعية السديد من الحربين العالميتين الأولى والثانية ولا يأخذ بعين الاعتبار التطورات الهائلة التي عرفها العالم، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

عرف لينين الامبريالية، بشكل مركز، كالرأسمالية التي وصلت إلى مرحلة من تطورها حيث تكرست هيمنة الاحتكارات والرأسمال المالي وحيث احتل تصدير الرساميل أهمية قصوى وحيث ابتدأ اقتسام العالم بين الاحتكارات الكبرى وحيث تم اقتسام العالم بين الدول الرأسمالية الكبرى.

حدثت تغيرات كبرى منذ تحديد لينين للإمبريالية:

– جل مناطق العالم تحررت من الاستعمار المباشر وتحولت أغلبها إلى الاستعمار الجديد، أو الغير مباشر، المرتكز إلى التبعية الاقتصادية والسياسية والثقافية. لكن تتوفر على هامش من المناورة حيث كانت هناك محاولات للتخلص من هذه الهيمنة في إطار دول عدم الانحياز. لكنها اجهضت. الدول التي استطاعت الافتكاك من هذه الهيمنة هي الدول التي شهدت ثورات شعبية تحت قيادة البروليتاريا وبتحالف وثيق مع الفلاحين الكادحين (روسيا والصين وفيتنام وكوريا الشمالية وكوبا).

– بروز الامبريالية الامريكية كقوة قائدة للمعسكر الامبريالي المشكل من كندا وأوروبا الغربية واليابان وأستراليا ومهيمنة على أجزاء كبرى من العالم.

– التناقضات بين القوى الامبريالية التي كانت عدائية أصبحت ثانوية وأصبح عدوها المشترك هو المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي. وبعد انهيار هذا الأخير، أصبح العدو المشترك لهاته الامبرياليات هي القوى والأنظمة التي تواجه هيمنة القطب الواحد، إما كأنظمة اشتراكية( كوبا وفيتنام…) أو أنظمة وطنية تقدمية كفينزويلا ونيكاراكوا أو أنظمة وطنية كإيران أو قوى تحرر وطني( المقاومة اللبنانية، وعلى رأسها حزب االله، مثلا) والأنظمة التي تعتبر أنها تنافسها على قيادة العالم (الصين وروسيا). وتغطي الامبريالية ذلك بالكلام عن مواجهة الإرهاب والدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من الشعارات الكاذبة.

الصين وروسيا كانتا دول من المحيط وليس المركز الرأسمالي. الأولى كانت تواجه الاحتلال من طرف الامبريالية الغربية واليابانية والثانية كانت دولة رأسمالية تابعة. وبفضل الثورات الشعبية، بقيادة حزب البروليتاريا المتحالف مع الفلاحين الكادحين، استطاعتا القضاء على هيمنة الامبريالية الغربية والقيام بتجارب بناء الاشتراكية التي عرفت التراجع. إن سيطرة الرأسمالية في دول المركز الرأسمالي كانت نتيجة تطور “طبيعي” لمجتمعات هذه الدول تطلب قرونا لفرض هيمنتها على المجتمع وبناء دولتها ومختلف أجهزتها الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية والثقافية وأجهزتها الأمنية والعسكرية، بينما الرأسمالية في روسيا والصين فهي، أساسا، وليدة اختراقها للدولة والحزب ومن خلالهما الاقتصاد. لذلك فهيمنتها على المجتمع لا زالت هشة ومشروعيتها ضعيفة.

كما أن فهم الحرب في أوكرانيا كصراع بين الامبرياليات لاقتسام العالم ينم عن فهم خاطئ للجدلية التي ترتب التناقضات: فهل التناقض الأساسي للشعوب عموما، الآن، هو مع الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية أو مع روسيا؟ وهل من الناحية الجدلية يمكن أن نضع تناقضين (التناقض مع الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والتناقض مع روسيا) في نفس المستوى؟ وهل تحديد التناقضات يتم بواسطة التحليل الملموس للواقع الملموس الآن، أم من احتمال تحول روسيا والصين إلى امبراطوريتين؟ وهل اقتصاد الامبريالية بقيادة أمريكا، الذي يرتكز، بالأساس، على الخدمات وإنتاج الأسلحة والهيمنة على التجارة الدولية وعلى نهب المستعمرات السابقة والاستغلال المكثف للطبقات العاملة في دول المحيط الرأسمالي والريع الذي يجنيه من سيطرته على منابع النفط في منطقتنا بالخصوص وعلى الريع المالي الهائل الذي ينتزعه بواسطة فرض عملاته، وخاصة الدولار، كعملات دولية وطبع الدولار بدون مقابل مادي وبواسطة بنوكه المنتشرة في كل مكان ودور المؤسسات المالية( صندوق النقد الدولي والبنك العالمي) الربوي في استنزاف خيرات الشعوب وبواسطة التبادل اللا متكافئ لفائدة دول المركز الرأسمالي، والاقتصادان الروسي والصيني اللذان يعتمدان، أساسا، على الإنتاج المادي الصناعي والمنجمي والفلاحي، لا يختلفان نوعيا؟ وهل هذا الطابع المالي للرأسمال الامبرياليالمهيمن ليس هو أهم ما يميز الامبريالية كمرحلة تتسم بتعفن وشيخوخة الرأسمالية؟

2.2. الحرب في أوكرانيا عرت، بشكل غير مسبوق، الوجه البشع للإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية:

– انفضاح نفاق الغرب الامبريالي وزيف ادعاءاته باحترام حرية التعبير (منع روسيا من التعبير من خلال منع قنواتها التلفزية) وبالاهتمام بالجانب الانساني من خلال تعامله بمكيالين فيما يخص المهاجرين (تعامل لا إنساني مع المهاجرين العرب والأفارقة وتعامل إنساني مع المهاجرين الأوكرانيين). الغرب الامبريالي له الحق في التدخل في جميع أنحاء العالم لفرض هيمنته ونهبه لخيرات الشعوب (كوريا وفيتنام ويوغسلافيا وباناما وأفغانستان والعراق وليبيا ودول غرب ووسط إفريقيا واللائحة طويلة)، بينما روسيا ليس لها الحق في الدفاع المشروع عن نفسها وأمنها. الغرب الامبريالي يتحالف مع الشيطان من أجل مواجهة أعدائه (استعمال النازيين الجدد في حربه القدرة في أوكرانيا والظلاميين في حربه ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان وضد القوى التقدمية في العالم…).

– بدأت الأكاذيب التي تنشرها وسائل الاعلام الغربية الأخطبوطية ودورها الخطير في قولبة الرأي العام تنكشف بفضل الاعلام البديل (فيديوهات وكتابات وغيرها في مواقع التواصل الاجتماعي، قنوات مستقلة أو تابعة للأنظمة المناهضة للإمبريالية).

– انفضاح الامبريالية الغربية كمجموعة من قطاع الطرق يسطون على أموال الدول التي تناهض هيمنتهم (إيران وأفغانستان وفينزويلا وروسيا…).

– المزيد من انفضاح عنصرية وتعالي الامبريالية الغربية من خلال تسعيرهاالهستيري للعنصرية والعداء للشعب الروسي.

– انفضاح الامبريالية الغربية كمجموعة من المجرمين يجوعون الشعوب، بواسطة العقوبات والحصار في خرق سافر للقانون الدولي، في الدول التي تحكمها أنظمة وطنية أو تقدمية أو اشتراكية، أملا في أن تثور هذه الشعوب ضد الأنظمة التي يسعون جاهدا إلى استبدالها بأنظمة موالية (“الثورات” الملونة المزعومة).

3.2. الحرب سرعت سيرورة بروز عالم متعدد الأقطاب:

إن الحرب في أوكرانيا، لكونها، في الواقع، حرب بين روسيا والامبريالية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، حرب تخدم مصلحة الشعوب لكونها معركة ضد هيمنة القطب الامبريالي على العالم. إنها حلقة متقدمة وفارقة في النضال الذي تخوضه الشعوب من أجل الانعتاق من هيمنة هذه الامبريالية وبناء عالم متعدد الاقطاب.

والحال أنها سرعت بروز هذا العالم المتعدد الأقطاب حيث نشهد سباقا محموما لبناء أوسع التحالفات من طرف أمريكا من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى (توسيعالبريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون…) وتطورا مهما ومتزايدا لفك الارتباط بالدولار في المعاملات التجارية الدولية (اتفاق الدول التسع المكونة لمنظمة شانغهاى للتعاون والتي تمثل 90 في المئة من سكان العالم على رفع التعامل بعملاتهم المحلية في المبادلات التجارية بينهم وانخفضت نسبة الدولار في التبادل التجاري بين الصين وروسيا من 90 في المئة سنة 2015 إلى 50 في المئة سنة 2020 وسرعت الحرب في أوكرانيا هذا الانخفاض وحسب تقرير لصندوق النقد الدولي في 2022، انخفضت حصة الدولار في مدخرات البنوك المركزية من 71 في المئة سنة 1999 إلى 59 في المئة سنة 2021)، واستعمالا متعاظما للعملات الوطنية. كما نعيش بناء وتقوية التحالف الاستراتيجي بين روسيا والصين في مواجهة عدوهما المشترك: الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية.

إن التقدم نحو عالم متعدد الأقطاب تلعب فيه الصين وروسيا دورا أساسيا في لجم عدوانية الامبريالية الغربية يفتح إمكانيات أمام الدول الصغيرة والمتوسطة للإفلات، أو على الأقل التخفيف، من الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية للغرب الامبريالي ويدعم استقلاليتها الحقيقية. إن ذلك يتطلب صراعا ضاريا في هاتين الدولتين ضد القوى والفئات الاجتماعية التي ربطت مصالحها بمصالح الغرب الامبريالي وضد التأثير الثقافي وتأثير نمط العيش الغربي وسط الشباب بالخصوص.

بينما يطغى الرأسمال المالي الطفيلي على اقتصاديات الغرب ويتراجع فيها الانتاج المادي لصالح الخدمات التي جزء هام منها ذو طابع طفيلي (تضخم سرطاني للمضاربات على العملات والسندات والأسهم والاوراق المالية المتنوعة والطاقة والمواد الغذائية والمواد الخام…)، تتوفر الصين وروسيا على مقدرات اقتصادية مادية( صناعية وطاقية ومنجمية وزراعية) هائلة يعتمد الغرب عليها لتوفير الرخاء لأغلبية مواطنيه ومواطناته. هذا دون الكلام على الأموال الضخمة، الصينية بالخصوص، المستثمرة في الدين الأمريكي وفي الدول الغربية. إن فرض الغرب الامبريالي للعقوبات الاقتصادية على روسيا والصين له عواقب اقتصادية واجتماعية كارثية على أوروبا. هكذا فإن الأوضاع الاجتماعية المتأزمة في أوروبا بفعل أزمة نمط الإنتاج الرأسمالي التي انفجرت في 2008 وكوفيد-19، ستصبح لا تطاق بسبب غلاء الطاقة والمعادن التي تستوردها أوروبا من روسيا والمنتوجات الصناعية والفلاحية والمواد المعدنية النفيسة التي تستوردها من الصين و/أو روسيا وسيتضرر الاقتصاد في الغرب بسبب فقدان السوق الصينية الهائلة والسوق الروسية المهمة والانعكاسات الاجتماعية لذلك. وسيخلق ذلك شرخا بين دول أوروبا الغربية التي ستضرر كثيرا وأمريكا التي تجني الفوائد من هذه الحرب (بيع النفط والغاز بأثمان مرتفعة وصفقات أسلحة جد مربحة…)، خاصة إذا تطورت وتوحدت الحركات الاحتجاجية في أوروبا الغربية.

هكذا فإن الشروط الموضوعية لاشتداد الصراع الطبقي في دول المركز الرأسمالي متوفرة الآن بشكل لم تشهده منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. مما قد يدق آخر مسمار في نعش السلم الاجتماعي الذي شكل الأساس المادي للاستقرار السياسي الذي شهدته هذه الدول. فهذا السلم الاجتماعي الذي تضرر بفعل السياسات النيو لبرالية واستمرار أزمة الرأسمالية وعمقته جائحة كوفيد-19 سيتعرض لأخطر زلزال لأن القضاء على هيمنة الامبريالية بقيادة أمريكا على مناطق كبيرة وإضعافها في مناطق أخرى سيوجه ضربة قوية لنهبها لخيرات هذه المناطق والاستغلال البشع لطبقاتها العاملة. وسيقلص بالتالي من امكانيات الامبريالية الغربية شراء السلم الاجتماعي في بلدانها، مما يوفر، لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، الظروف الموضوعية الملائمة لبروز وتقوية الحركات النضالية، بما في ذلك الثورية، وفي مقدمتها القوى الماركسية، في بلدان المركز الرأسمالي. وتسير الانتفاضات الشعبية القوية في عدد من بلدان غرب إفريقيا المناهضة للإمبريالية الفرنسية في نفس الاتجاه.

كما يوفر هذا الوضع ظروفا مواتية للقوى المناهضة للرأسمالية، وعلى رأسها القوى الماركسية، لتأهيل ذاتها وانغراسها في الطبقة العاملة وعموم الكادحين وبناء أدوات تحررها (حزب البروليتاريا والنقابة المستقلين عن البرجوازية وجبهة الطبقات الشعبية) لإنجاز مهام التحرر الوطني من الامبريالية والرجعية المحلية والسير قدما نحو الاشتراكية في دول المحيط الرأسمالي والانتقال نحو الاشتراكية في دول المركز الرأسمالي وبناء القطب المناهض للرأسمالية الذي يشكل البديل الحقيقي لتعفن وشيخوخة نمط الإنتاج الرأسمالي.