هل نجحت البورجوازية في -حجر- روح المقاومة لدى الطبقة العاملة؟
هل نجحت البورجوازية في -حجر- روح المقاومة لدى الطبقة العاملة؟
تحتفل الطبقة العاملة في جميع أرجاء العالم بعيدها العالمي في ظروف استثنائية لم تشهد لها مثيل منذ عقود، ولم تكن مهيّأة لمواجهتها نظرا لطابعها الطارئ من ناحية ولطبيعة المعركة التي فُرض عليها خوضها من ناحية ثانية. فانتشار وباء كورونا تمّ بسرعة جنونية، وداهم جميع البلدان والمؤسسات القائمة التي لم تقرأ له حساب، لا في ميزانياتها التي فرغت للتوّ من إعدادها، ولا في بنيتها التحتية التي عرّى الوباء بشكل قاطع هشاشتها من ناحية وطابعها التمييزي الطبقي من ناحية أخرى. فكيف واجهت البورجوازيات الحاكمة بجميع ترساناتها هذه الجائحة، وكيف قابلتها الطبقة العاملة وهي عارية الصدر واليدين؟ وما هي المآلات المحتملة لهذه الأزمة العالمية؟
البورجوازية تستغل الوباء للمضيّ قدما في إحكام قبضتها على العمال وعموم الكادحين
تميّزت الأنظمة القائمة في شتى أرجاء العالم بخطاب ديماغوجي يتسم بالكذب والرياء والتسويف، إذ سارعت الى نفض الغبار على شعار الوحدة الوطنية المخادع وترويج كذبة المساواة أمام الوباء، فزعمت أنه لن يفرّق بين غنيّ وفقير، ولا بين عامل ورب العمل، وهو ما يستوجب تكاتف الجهود وتقاسم التضحيات. لكن سرعان ما انكشف رياء هذا الخطاب حالما أعلنت الحكومات عن الحجر الصحي الإجباري والإجراءات المرافقة له. فلم تنجح في إخفاء طابعها الطبقي المفضوح الساعي الى الحفاظ على ثروات الأثرياء على حساب الطبقات الشعبية المفقرة على مدار عشريات التقشف. فالمتفحّص للإجراءات يتبيّن أنها تكاد تكون نفسها في مختلف البلدان، وإن اختلفت، ففي حجمها وليس في طبيعتها. فمن جهة:
ـ تمّ ضخ الأموال الطائلة في جيوب البورجوازيين بدعوى المحافظة على المؤسسات، لا من أجل مصلحة أصحابها بل من أجل عمّالها،
ـ واستغلال قوانين الطوارئ للهجوم الكاسح على حقوق العمال بما فيها المكتسبة منذ عقود طويلة عن طريق إدخال تغييرات جوهرية على مدوّنات الشغل وجعل مرونة التشغيل وهشاشته وكل ما هو ظرفي وطارئ بمثابة القاعدة الأساسية للعلاقات الشغلية المرتقبة،
ومن جهة ثانية:
ـ تمّ تسريح مئات الآلاف من العمال مؤقتا أو بصفة نهائية
ـ فرض الخصم “الطوعي” من الأجور بأحجام مختلفة (مقدار يوم عمل هنا أو نسبة معيّنة من الأجور حُدّدت بـ 30℅ من الأجر في بلد مثل الإكوادور طوال الأزمة، الخ…)
ـ صعود جنوني للأسعار في عديد البلدان، خاصة أسعار المواد الأساسية والطبية وكذلك أسعار النفط والمحروقات في بعض البلدان حتى النفطية منها (الإكوادور نموذجا، بعد أن فشلت الحكومة في تمرير أجراء الترفيع فيها في شهر أكتوبر الماضي)،
ـ استغلال حالة الحجر لتنظيم هجومات على الأحياء القصديرية المتاخمة للمدن الكبرى ومحاولة إزالتها لتوفير مساحات جديدة من الأراضي البيضاء للمضاربات العقارية، وهو ما حصل في بلد مثل جنوب إفريقيا (وقد تصدت المنظمات الاجتماعية والنقابية للمشروع وشكلت للغرض لجان دفاع عن الأحياء المستهدفة)،
ـ استغلال قوانين الطوارئ للهجوم على الحريات وتقليصها الى حدودها والدنيا وتجريم ممارستها، من ذلك فرض وقف الاعتصامات التي عرفتها بعض البلدان مثل لبنان والعراق منذ أكتوبر الماضي و إجبار المعتصمين على إخلاء الشوارع والساحات وإزالة الخيام المنصوبة فيها بالقوة والتعنيف رغم التزام المعتصمين بكل إجراءات السلامة،
ـ وعلى الصعيد الدولي، استغلال الامبريالية الأمريكية لحالة الوباء لمزيد إحكام قبضتها على العالم وفرض ما لم تقدر عليه في وقت سابق بمزيد إحكام الحصار على وفنزويلا وإيران مثلا وحرمانها من توريد حتى المواد الأساسية بما فيها المواد الغذائية والأدوات الطبية الضرورية لمجابهة الجائحة.
الطبقة العاملة وتعبيراتها الثورية تقاوم
وفي مواجهة هذه الهجمة الشرسة، وفي استحالة تنظيم الاحتجاجات بالشكل المعتاد أي في الشوارع والساحات أو في مواقع العمل، بادرت الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية المعبّرة على مصالح الطبقة العاملة الى صياغة لوائح مطالب مباشرة للتخفيف من حدة الأزمة على العمال، وضبط برامج نضالية لمواجهة الكورونا ولما بعدها. وقد تركزت أنشطتها على الجانب الدعائي لكشف طبيعة الأنظمة القائمة، والمناويل التنموية المتبعة والتي لا تقيم وزنا للعنصر البشري، بل تحرص على ضمان أرباحها حتى في مثل هذه الأوضاع الاستثنائية. وبيّنت أن الرأسمالية هي الوباء الحقيقي الذي ينخر المجتمعات، وهي المعادية أصلا للطبقة العاملة وعموم الكادحين. واللافت للانتباه أن البرامج المباشرة لمواجهة هذه الأزمة تضمنت في جميع البلدان عناصر مشتركة ، فيها ما هو آني ويرتبط بإنقاذ حياة البشر، خاصة الطبقات الشعبية العزلاء في مواجهة الكورونا، وفيها ما يندرج في المدى المتوسط، ويتضمّن تصوّرات لعالم ما بعد الكورونا، والذي يقرّ الجميع أنه لن يكون كسابقه. وقد تكرّرت مثل هذه المطالب في لوائح وبرامج عديد المنظمات العمالية والشعبية في كل أرجاء من المعمورة، ولعل أهمها هي:
ـ ضمان إجراء الاختبارات المتعلقة بالفيروس وعلاج المصابين مجانا
ـ إخضاع القطاع الصحي الخاص الى الإشراف الحكومي وجعله يساهم في مواجهة الوباء
ـ تمتيع العمال وكل الأجراء الذين وضعوا في الحجر الصحي بإجازة مدفوعة الأجر
ـ منع عمليات تسريح العمال بسبب الإغلاق المؤقت للمؤسسات.
ـ توفير دخل أدنى للفقراء والمعوزين حتى لا يضطرّوا لكسر الحجر والمخاطرة بحياتهم بحثا عن لقمة العي، وتوفير الطرود الغذائية لجميع من هم في عزلة ذاتية أو في الحجر الصحي في كامل البلاد.
ـ تعليق دفع القروض الشخصية والعائلية حتى عودة الأمور الى نصابها.
ـ إيقاف جميع عمليات الإخلاء القسري للمساكن بسبب العجز عن دفع الأكرية.
ولتوفير الميزانيات الاستثنائية لمواجهة الأزمة، طالبت هذه المنظمات خاصة بـ:
ـ على الصعيد الداخلي: إقرار ضرائب استثنائية على الثروات الكبرى وعلى الشركات الكبرى المحلية منها والعابرة للقارات.
ـ على الصعيد الخارجي: إيقاف دفع الديون الراجعة الى الأنظمة الامبريالية أو الى مؤسساتها المالية العالمية.
المآلات الممكنة للأزمة بمنظور طبقي
ويتضح مما ذكرنا أن العالم مُقبل على تغييرات جوهرية على المدى المنظور إذ أن تردّي الأوضاع الاقتصادية على المستوى العالمي، وما صاحبه من تفاقم لحياة البؤس لدى شرائح متزايدة في كل البلدان هو بمعنى ما تعبير على استنفاد النظام الرأسمالي الإمبريالي لممكناته. فنحن في مرحلة أدّى فيها التطور الهائل للقوى المنتجة الى الدخول في تناقض مع العلاقات الحالية للاستغلال الرأسمالي الإمبريالي، زيادة على المضاعفات المتأتية من قانون الاتجاه التنازلي لمعدل الربح. وهو ما جعل الأوليغارشية المالية على المستوى العالمي تسارع لمراجعة آلياتها لمواصلة السيطرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العالم، والتي هدفها الرئيسي، هو من جهة احتواء الانخفاض الهائل في معدل ربح رأس المال، ومن جهة أخرى، تحميل آثار هذه الأزمة على أكتاف البروليتاريا وعموم الكادحين.
وعلينا ألا ننسى أنه لإنجاز هذه المهمة، في فترات مختلفة، وفي أزمات سابقة، التجأت الأوليغارشية المالية الدولية الى أكثر الأشكال الدموية للديكتاتورية البرجوازية، مثل إقامة الأنظمة الفاشية والنازية، التي توسعت غداة أزمة 1929 الى أجزاء مختلفة من العالم، لتفرض بالحديد والنار السياسات الإمبريالية على الطبقة العاملة والجماهير الشعبية في العالم.
ومن المدهش اليوم أن نرى مدى سهولة إعلان الأنظمة البورجوازية اللبرالية و”الديمقراطية” حتى النخاع حول العالم عن إغلاق الحدود وحظر التجول وحالات الاستثناء وإضفاء الشرعية على التجسس السيبارني وما إلى ذلك، وهي ليست سوى إجراءات فاشية شرعتها ذريعة مقاومة وباء الفيروس التاجي. إنها محاولة للتأسيس لصعود جديد للفاشية أو للأشكال المجاورة.
وهو ما حدا بالمنظمات العمالية والشعبية على اختلاف طبيعتها (أحزاب، نقابات…) الى التوجه بالدعوة الى الطبقة العاملة وجموع الكادحين الى مزيد رصّ الصفوف والاستعداد الى المعارك القادمة، وذلك بإبداع الأشكال التنظيمية الملائمة ومنها، الى جانب ضرورة التنظم المستقل للطبقة العاملة، إقامة “الجبهات الموحّدة للعمال” التي تكون قاعدة لجبهات شعبية أكثر اتساعا تضمّ كل الذين لهم مصلحة في وضع حد لنظام الهيمنة القائم على اضطهاد الشعوب والأمم واستغلال الطبقات الكادحة. وقد تمحورت هذه الدعوات حول الشعار التاريخي للحركة الاشتراكية والذي أطلقته ذات 1916 القائدة العمالية روزرا لوكسمبرغ “إما الاشتراكية أو البربرية”