قراءة في واقع التعليم العالي والبحث العلمي العام والخاص بالمغرب في زمن وباء كورونا
قراءة في واقع التعليم العالي والبحث العلمي العام والخاص بالمغرب في زمن وباء كورونا
- عبد الحق الوسولي
- تقديم
إن واقع التعتيم العالي والبحث العلمي بشقيه العام والخاص بالمغرب في زمن وباء كورونا لا يختلف وضعه المأزوم منذ عدة عقود كون الأزمة بنيوية ومعقدة وذات أبعاد متعددة، لكن الجديد في الأمر أن وباء كورونا COVID-19 قد كشف المستور ووضح بالملموس أن إخضاع القطات الحيوية كالصحة والتعليم والسكن والشغل والعيش الكريم لمنطق الربح والخسارة وبمعنى آخر إتباع السياسات النيوليبرالية المتوحشة ستؤدي حتما إلى كوارث إنسانية يصعب التحكم فيها. إن هذه الجائحة قد بينت أن الدول الإمبريالية لا يهمها الإنسان بل كل ما يهمها هو الربح واستغلال وخلق التوترات والحروب للتنفيس عن أزماتها حتى ولو أدى ذلك إلى إبادة الإنسان. أما بالنسبة للدول التبعية فالوضع جد معقد لأنه نظرا لإتباعها أملاءات الدوائر والمؤسسات الإمبريالية مما أدى إلى تخليها تدريجيا عن القطاعات الأساسية كالتعليم والصحة وتشجيعها للقطاع الخاص واستفادتها من اقتصاد الريع.
بعد هذا التقديم سنتطرق أولا للسياسة التعليمية وخصوصا التعليم العالي والبحث العلمي والتي تتجلى أساسا في الخوصصة وحصر وظيفة التعليم العالي المغربي في تكوين يد عاملة لديها فراغ ثقافي، مؤهلة لخدمة الرأسمال الطفيلي لكنها عاجزة عن طرح الأسئلة الجوهرية، تعتقد أنها محظوظة كونها وجدت عملا (قانون الإطار، الباشلور، الهندسة البيداغوجية…)، ثانيا للدروس الممكن استخلاصها من تفشي جائحة كورونا.
1. خوصصة قطاع التعليم وتوصيات الدوائر المالية الامبريالية
على غرار القطاعات الحيوية كالصحة والتشغيل والخدمات العمومية…، كان قطاع التعليم من بين القطاعات الاجتماعية المستهدفة بسياسة التقشف المملاة من طرف الدوائر المالية الامبريالية في بداية الثمانينات “سياسة التقويم الهيكلي” نظرا للدور الريادي الذي يلعبه التعليم في بناء وتطور المجتمعات العصرية على جميع المستويات. وكان من نتائج هذه السياسة تدمير التعليم العمومي، والسعي للمزيد من الخوصصة التي انطلقت بشكل تدريجي، ومتواتر منذ بداية الثمانينات نلاحظ فصولها الأخيرة حاليا والمتمثلة في الإصرار والتمادي في الخوصصة المفرطة للتعليم العالي بالمعاهد الجامعية المتخصصة وكليات الطب…
إن الحديث عن إصلاح التعليم ومن بينه التعليم العالي لا يعكس الواقع المعاش بل الأصح أن نتحدث عن تخريب التعليم ومن ضمنه التعليم العالي. فإذا حللنا جديا قانون الإطار واعتماد البكالوريوس والهندسة البيداعوجية الجديدة في الجامعة نجدها تتلخص في التخلي عن الجامعة العمومية ورهنها لتكوين يد عاملة مؤهلة وسلعة طيعة في خدمة الرأسمال الطفيلي والشركات المتعددة الجنسيات، وبالمقابل إعطاء الريادة للتعليم العالي الخاص لتكوين أطر مرتبطة مصالحها بمصالح النظام المخزني التبعي وبالتالي بالدوائر الإمبريالية. أما الحديث عن البحث العلمي الوطني الهادف والمنتج فإن النظام المخزي لا حاجة له به كونه نظام تبعي، كمبرادوري وريعي.
إن خوصصة وتسليع التعليم في المغرب أصبحت جزءاً أساسياً من النظام الاقتصادي – السياسي الريعي هدفه تقسيم المجتمع إلى قسمين: الأول يتكوّن من الفقراء والمهمشين الذين يدخلون إلى مدارس رسمية غير مدعومة وغير مؤهلة لتنتج تعليما جيّدا يعتمد التفكير العلمي والتحليل النقدي ومتسلحا بالعلم وقادرا على الابتكار وطرح السؤال، وهذا يتجلى بالملموس في المقررات وطريقة التدريس وانعدام الإمكانيات وطريقة انتقاء وتكوين الأساتذة والمدرسين والحط من كرامة رجال ونساء التربية والتعليم ماديا ومعنويا وآخرها هو التوظيف بالعقدة وذلك من أجل السيطرة عليهم بسهولة من طرف النظام المخزني الريعي. أما الثاني فيتكوّن من الأغنياء الذين يدرسون في مدارس وجامعات خاصّة، حيث يتم إدماج جزء منهم في النظام السائد وبالتالي يصبحون منظرين له والباقي يتم “تدريبهم” على فكرة الهجرة، لمنع تشكيلهم لأي تهديد على مصالح الطبقة الحاكمة.
إن الأزمة بنيوية ومعقدة وذات أبعاد متعددة، لكن الجديد هو منح اعتراف الدولة لبعض الجامعات والمؤسسات الخاصة المحدثة في إطار الشراكة التي تجمعهما، هذا الاعتراف يخول لهذه المؤسسات قبول شهاداتها من طرف الدولة لتصبح بذلك معادلة للشهادات الوطنية. إن عدد مؤسسات التعليم العالي التابعة للقطاع الخاص تتجاوز بكثير نظيرتها في القطاع العام، ليتضاعف في الأقسام التحضيرية والتكوين المهني. إن السياسة التعليمية حاليا وأكثر من أي وقت مضى تتميز أساسا بضرب الجامعة العمومية المغربية وذلك بفتح الباب على مصراعيه للتعليم العالي الخصوصي وتمكينه من جميع التسهيلات. إن هذا الاعتراف يضرب في العمق مبدأ الجودة وتكافئ الفرص لأن التعليم العالي الخصوصي ببلادنا يهمه في المقام الأول الربح المادي وكل طالب تابع دراسته في هذه المؤسسات الخاصة إلا وحصل على الشهادة وقد يؤدي هذا في آخر المطاف إلى بيع الديبملومات والشهادات وخصوصا تلك التي حصلت على المعادلة.
إن هذا التشجيع زيادة على الأزمة المركبة التي تعاني منها الجامعة سيؤدي إلى تخلي الجامعة عن أدوارها الريادية وتصبح مؤسسة للتكوين المهني بدل أن تكون مؤسسة ذات مهام تربوية وعلمية وسياسية واقتصادية متعددة… يتمثل بعضها في تكوين وتأهيل العنصر/ الرأسمال البشري علميا ومهنيا وفكريا وسياسيا، رافدة بذلك مختلف القطاعات الإنتاجية والمجالات المتعددة في المجتمع بما تحتاجه من قوى بشرية مؤهلة للإسهام في مشاريع التنمية الاجتماعية الشاملة.
2. تشخيص مركز لأزمة الجامعة
* إشكالية مضامين مناهج التعليم والتكوين، التي غالبا ما تنتقد بكونها “هامشية بالنسبة لحركة تداول الأفكار في المجتمع” والتي أصبحت بفعل هذه الهامشية- أو التهميش المبيت أو المعلن- في حاجة ماسة إلى مراجعة نقدية شاملة للأسس والتوجهات التربوية والفكرية والسياسية والأساليب والطرق المنهجية التي بنيت عليها شكلا ومحتوى وأهدافا عامة وخاصة وإجرائية وعلاقات تبادلية وتكاملية مع المحيط الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي العام، ومع ما يعرفه هذا المحيط، وطنيا وإقليميا ودوليا من تحولات ومستجدات وحاجات، معرفية وتقنية وحضارية تتنامى وثائر تجددها وتغيرها باستمرار وتتطلب، لمواكبتها، إصلاحا جذريا للجامعة وللتعليم والتكوين عامة.
* أزمة البحث العلمي والأطر الجامعية الباحثة. ذلك أنه في إطار ما يعانيه مجتمعنا المغربي من غياب علاقة ممنهجة وثيقة وهادفة “بين (سلطة المعرفة) المفترضة في (خطاب) البحث العلمي، وبين سلطة السياسة والاقتصاد القائمة في المؤسسات الحكومية ومراكز النفوذ والمآل في المجتمع، على أن بين السلطتين تقع سلطة المؤسسات التعليمية من جامعات ومعاهد ومراكز دراسات…” في إطار غياب هذه العلاقة يفقد البحث العلمي، الذي يفترض أن تكون مؤسسات التعليم العالي والجامعي معقلا له، دوره التنموي والتحديثي الريادي، ووظيفته التوجيهية في عقلنة القرار السياسي والاجتماعي وفي ترشيد الممارسة الفكرية والاجتماعية بشكل عام. وفي هذا الإطار أيضا من القطيعة أو الطلاق بين ما يمكن تسميته بـ ” القرار العلمي” و” القرار السياسي والاجتماعي” تتدهور مكانة البحث العلمي وتتراجع مجموعة هامة من الشروط المادية والمعنوية المتعددة التي يتطلبها دعم هذا البحث وإنماؤه والارتقاء به مؤسسيا واجتماعيا، وأطرا باحثة: من طلبة ومدرسين…
* إن ما تعرضت له الجامعة من “مخزنة” ضاغطة ومن مصادرة وحذر-أحيانا- للحركة الطلابية بشتى فصائلها، ومن تلغيم لها- سواء بشكل علني أو ضمني- ببعض العناصر الظلامية أو المتطرفة فكريا وسياسيا وعقائديا وإيديولوجيا…، كل هذا قد جز بالفضاء الجامعي عموما والحركة الطلابية خاصة، في خضم من الصراعات والرهانات والصدمات الفكرية والسياسية القائمة على منطق العنف والنبذ والإقصاء، والإقصاء المضاد مما أدى بالحركة الطلابية المغربية التخلي عن أدوارها الطلائعية كونها كانت تشكل رافدا داعما للتكوين المعرفي وللبحث العلمي الهادف وللتنشئة السياسية والفكرية المنفتحة والمتوازنة للشباب. هذا فضلا عن كون ما يخترق الفضاء الجامعي والحركة الطلابية من أفكار وممارسات لا عقلانية يساهم، لدى شرائح لا يستهان بها من شباب الجامعة، في تشكيل اتجاهات أو تصورات أو مواقف أو آراء…هي في مجملها انتقاصية، متحفظة أولا مبالية إزاء الأحزاب، والنقابات، والحركة الطلابية…بل إزاء العمل السياسي والاجتماعي بشكل عام.
3- الدروس الممكن استخلاصها من تفشي جائحة كورونا
يمكن القول، كخلاصة أولى، إن فيروسا شرسا من هذا النوع وضع العالم أمامه حقيقة أساسية، مفادها، أنه لا نهاية للبحث العلمي في مجال مقاومة الأمراض والأوبئة وتطوير طب نظم المناعة البشرية، إذ كلما تقدم الطب، كلما طورت الفيروسات نفسها لضمان حقها في البقاء والاستمرار، في حرب رهيبة بين الإنسان وكائنات مفترسة تتحرك وسط أنسجة وأنوية صغيرة جدا. النقطة الأساسية هنا هو أن البحث العلمي يجب أن يتطور باستمرار ويجب أيضا أن يكون هدفه الأسمى هو خدمة الإنسان بدل حفنة من الإمبرياليين وأصحاب النفوذ. إن البحث العلمي الآن في الدول الإمبريالية موجه لخدمة رأس المال بدل الإنسان (بحث .علمي تحت الطلب) بدعوى عدم قدرة الدولة على تمويل البحث مما أدى إلى عدم حرية البحث وأصبح الباحثون يقضون جل أوقاتهم في البحث عن التمويل بدل تركيزهم على أبحاثهم العلمية. نستشف من كل هذا أن سياسة الخوصصة ببلادنا وتبعيتها للدوار الإمبريالية وتخليها عن الجامعة العمومية وإفراغها من مهامها الأساسية (المعرفة،التنظير للمجتمع، إشاعة الفكر النقدي والعقلانية، تشجيع البحث العلمي والابتكار والتكوين المعرفي الجيد…) قد همشت الأستاذ الباحث والطالب الجامعي على السواء وبالتالي البحث العلمي. إن عدم توفير التربة الملائمة للأساتذة الباحثين في جل التخصصات والأطباء والمهندسين ودفعهم إلى الهجرة أو دمجهم في سياسة النظام التبعية قد أثر سلبا على مردودياتهم الإبداعية في شتى المجالات. إن السياسة التعليمية الطبقية بامتياز أدت إلى تنمية الحقد الاجتماعي بين طبقات المجتمع نظرا للفوارق الاجتماعية الصاروخية. وللخروج من هذا الوضع لابد من عزل العدو أكثر شراسة والتموقع إلى جانب الطبقة العاملة وعموم الكادحين والنضال من أجل تعليم ديمقراطي شعبي عمومي جيد وموحد للجميع يكون في مصلحة أوسع الجماهير الشعبية. فشعب مثقفا، واع، وعقلاني سيصنع المستحيل بدءا بتقرير مصيره بنفسه. إن جائحة كورونا بينت أن التخلي عن التعليم العمومي الجيد والجامعي جريمة ضد الإنسانية.
أما الخلاصة الثانية، فإنه لا يوجد أي شخص في العالم في منأى عن الفيروسات والأوبئة المتطورة، ما يفرض ليس، فقط، التكتل في حرب دولية شاملة ضدها، بل كذلك التفكير في إرساء نظام عالمي للتضامن بين الشعوب وترك الخلافات الجانبية، واعتبار أن العدو الحقيقي هو الإمبريالبة والصهيونية والرجعية والجهل.
الخلاصة الثالثة، تتعلق بمدى وعي شعوب العالم بأن مصير الإنسانية بأيديهم والنضال سويا من أجل عالم جديد يحترم الإنسان والبيئة ويوفر للإنسانية جمعاء العيش الكريم هذا بالطبع ممكن إذا اتحدت جميع شعوب العالم التواقة للحرية والكرامة وحقوق الإنسان وهذا طبعا لا يمكن تحقيقه في الأنظمة الرأسمالية.
فلنناضل جميعا من أجل مجتمع ينتفي فيه استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، المجتمع الاشتراكي المنشود الذي يبدأ ببناء حزب الطبقة العاملة وعموم الكادحين وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة.