الحرب الباردة والحروب الساخنة
الحرب الباردة والحروب الساخنة
«حرب المئة عام من 1947 – ….» كراس أصدره المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»، يرى مؤلفه الأستاذ فهد u نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، أن الحرب الباردة ما هي إلا الفصل الأول من حرب المئة عام، تشتركان زمنياً في سنة البدء بعد عامين من انتهاء الحرب العالمية الثانية، تحديداً في العام 1947، حين برز جباران في الساحة الدولية، وبدأ اصطفاف سياسي – اقتصادي – استراتيجي، نتج عنه معسكران متواجهان، يعلن كل طرف أولوياته ضد الآخر، فأولوية الغرب تتمثل في احتواء المد الشيوعي، وأولوية الشرق القضاء على الرأسمالية، وعمقت التطورات اللاحقة هذا المنحى.
لقد دارت الحرب الباردة بين معسكرين شرقي/ اشتراكي، ومعسكر غربي/ رأسمالي، لكن اختزلت الحرب الباردة باسم الجبارين الزعيمين للمعسكرين الاتحاد السوڤييتي والولايات المتحدة، كانت حروبهما تتم بالوكالة دون تجاوز الخط الأحمر في المواجهة بين الدولتين النوويتين، وبلغت درجة التقاطب الشديد أن الحروب الأهلية أو حروب التحرر الوطني وحروب المصالح الخاصة تنسب للحرب الباردة، أو تجير للتقاطب الثنائي، إلا أن ذلك لا يعني عدم تواجد قوى أخرى مؤثرة في الساحة الدولية، تتمتع بدرجة من الاستقلالية عن القوتين الأعظم مثل منظمة الوحدة الإفريقية، وحركة عدم الانحياز في بداياتها زمن الأقطاب الأربعة تيتو (يوغسلافيا) عبد الناصر (مصر)، نهرو (الهند)، وسوكارنو (أندونيسيا) بدعوتها إلى التعايش السلمي ونزع أو ضبط السلاح النووي…
أثارت الحرب الباردة حالة توتر شهدها العالم على مدى 44 عاماً من التصعيد تارة، والانفراج تارة أخرى، في ثلاث محطات اشتد فيها التوتر، هي:
• المحطة الأولى: حصار برلين 1948 – 1949.
• المحطة الثانية: أزمة الصواريخ السوڤييتية في كوبا.
• المحطة الثالثة: تموضع الصواريخ السوڤييتية (SS20) في أوروبا (1973 – 1982).
وكان أشد المحطات توتراً أزمة صواريخ كوبا التي دفعت العالم إلى حافة الحرب المباشرة بين الجبارين باحتمال استخدام أسلحة نووية، وفي الوقت الذي أثارت هذه الأزمة الرعب في العالم كله، مثلت نقطة انعطاف للانفتاح على مرحلة من الانفراج من خلال محطتين ناجحتين:
• المحطة الأولى: زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى موسكو عام 1972، ونتج عنها «اتفاق الحد من الأسلحة الاستراتيجية».
• المحطة الثانية: «مؤتمر هلسنكي» عام 1975 للأمن والتعاون المشترك في أوروبا، بمشاركة 7 دول من حلف وارسو، و15 دولة من حلف الأطلسي، و13 دولة محايدة، عزز مؤتمر هلسنكي الانفراج في القارة الأوروبية، بينما شهد جنوب غرب آسيا والشرق الأوسط وبلدان في إفريقيا وأخرى في أمريكا احتداماً للصراعات فوق أراضيها.
فترة الحرب الباردة لم تكن باردة حقيقية، العديد من الحروب تزامنت مع فترة الحرب الباردة، لذا يجب التمييز بين حروب تنسب إلى الحرب الباردة، وحروب وقعت ضمن الفترة نفسها دون أن تنسب إلى مساقها، وتتوزع هذه الحروب الأخيرة في 3 أنماط:
1) الحرب الحدودية بين الدول (الجزائر، المغرب)، (هندوراس – السلفادور) ، حرب أوغادين بين (أثيوبيا والصومال)، حرب فوكلاند بين (الأرجنتين وبريطانيا)، الحرب بين (العراق وإيران)…
2) الحروب الأهلية ومنها: أهلية اليونان، أهلية السودان، أهلية نيجيريا، غواتيمالا، الخ…
3) حروب التحرر الوطني، ومنها: الحروب ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر والهند والصينية.
كانت فترة الحرب الباردة، ساخنة أيضاً من جهة التدخلات العسكرية للجبارين، الاتحاد السوڤيتي وفق “عقيدة بريجينف” ، والولايات المتحدة وفق “عقيدة الاحتواء والدحر”، لصاحبها هاري ترومان، و”عقيدة أحجار الدومينو”، لصاحبها دوايت إيزنهاور القائمة على التدخل العسكري لتجنب مخاطر سقوط بلدان في أحضان الشيوعية، حيث شهدت المحطة الأولى (الدول المطلة على الكاريبي وأمريكا الشمالية وأميركا الوسطى والجنوبية) تدخلاً عسكرياً أمريكياً متواصلاً، ومنها:
– التدخل في غواتيمالا، والإطاحة برئيسها بسبب شروعه بالإصلاح الزراعي، بزعم مواجهة تهديد شيوعي.
– التدخل في كوبا، وعدوان خليج الخنازير والحصار العسكري والاقتصادي على الجزيرة.
– غزو جزيرة غرينادا بدعوى ضمان أمن الأمريكيين.
– التدخل في بنما في زمن رئاسة جورج بوش الأب.
– انقلاب تشيلي ضد الحكم اليساري للرئيس سلفادور أليندي.
من هذه المنطقة الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة امتد تدخلها العسكري إلى المحطة الثانية خلال الحرب الباردة، في شرق آسيا:
– حرب كوريا، بذريعة التصدي لمخاطر سقوط دول في شرق آسيا في أحضان الشيوعية.
– حرب فيتنام التي اتسعت لتشمل كمبوديا ولاوس.
أما المحطة الثالثة من التدخل فكان ميدانها الشرق الأوسط:
– إيران 1953 للإطاحة بحكومة محمد مصدق بعد إقدامه على تأميم شركة النفط الأنجلو- إيرانية.
– لبنان 1958 خلال الحرب الأهلية، وخلال مرحلة الوحدة بين مصر وسوريا.
بمقابل هذا النموذج الأمريكي للتدخل في شؤون الدول تحت ذرائع مختلفة، هناك نموذج الاتحاد السوڤييتي من التدخل بالوسائل العسكرية وفق قاعدة صون عضوية المنظومة الاشتراكية، وقطع الطريق أمام أي محاولة للخروج من هذا الإطار:
– التدخل العسكري في “برلين/ألمانيا الديمقراطية” 1953 لقمع مظاهرات واضطرابات لها مطالب سياسية واقتصادية.
– التدخل في “بودابست/ هنغاريا ” لقطع الطريق أمام الثورة المضادة التي تنذر بخروج هنغاريا من المعسكر الاشتراكي.
– التدخل العسكري في “براغ/ تشيكوسلوفاكيا”، أيضاً بذريعة «الثورة المضادة».
– التدخل العسكري في أفغانستان في سعي موسكو لتعزيز وضعها كقوة عظمى انطلاقاً من موقع أفغانستان الاستراتيجي في التماس مع إيران وباكستان.
وجاء هذا التدخل الأخير بنتائج سياسية مهمة، فكان واحداً من الأسباب التي ساهمت في الأزمة الداخلية المعتملة في قلب النظام السوڤييتي.
يضاف له سبب آخر هام عندما افتتح غورباتشوف ورشة إصلاح واسعة ، انقلبت إلى نقيضها بفعل سوء الإدارة، فكانت الردة، ومعها تفكك الاتحاد السوڤييتي وانهارت المنظومة الاشتراكية، واعتبرت استقالة غورباتشوف التاريخ السياسي والرمزي لانتهاء الحرب الباردة.
تجمع الآراء أن الوصول إلى هذه النهاية مرت بثلاث محطات:
• المحطة الأولى: إزالة جدار برلين، والذي يعني إزالة الحدود السياسية والعسكرية والاقتصادية الفاصلة بين المعسكرين، ويعني بداية علاقات دولية جديدة.
• المحطة الثانية: قيام الوحدة الالمانية، مع بقاء ألمانيا الموحدة في حلف الناتو، والسماح للحلف بإقامة قواعد في المانيا الشرقية، مما أدى إلى تمدد أطلسي شرقاً نحو حدود الاتحاد السوڤييتي.
• المحطة الثالثة: قرار رؤساء روسيا – بيلاروسيا – أوكرانيا حل الاتحاد السوڤييتي وإقامة «رابطة الدول المستقلة»، وانضم إليها 11 جمهورية من أصل 15 يتكون منها الاتحاد السوڤييتي.
وباستقالة غورباتشوف من رئاسة الاتحاد السوڤييتي انتهت معادلة القطبية الثنائية ، لتحتل الولايات المتحدة، مكانة الدولة العظمى الوحيدة، محققة الانتصار في الحرب الباردة دون نشوب حرب، أو على الأقل دون حرب مباشرة بين العملاقين، لكن أبت الولايات المتحدة إلا أن تختم الحرب الباردة بحرب تحسم الأمور لصالح تفردها وقيادتها للعالم، بتدمير بلد واعد بأن يكون له دور اقليمي بارز، فشنت حرباً على العراق بأكبر تحالف دولي منذ الحرب العالمية الثانية، بذريعة تحرير الكويت وبمظلة قرار من مجلس الأمن، هدفت الولايات المتحدة من وراء حربها هذه إلى إعادة صياغة التوازنات الإقليمية والدولية لتتناسب مع مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
وفي المنطقة العربية ، فالحروب العربية الإسرائيلية لها خصوصيتها ، وتندرج في أكثر من سياق فيما يتعلق باصطفافات الحرب الباردة :
– حرب 1948 تلاقت فيها مصالح روسيا بمواقف واشنطن في الاعتراف بنتائجها العدوانية بقيام دولة اسرائيل على أنقاض الكيانية الفلسطينية .
– حرب 1956: تلاقت مصالح موسكو وواشنطن، موسكو من موقع الانفتاح على دول العالم الثالث، وواشنطن من أجل أن تحل مكان الدول الاستعمارية القديمة (بريطانيا-فرنسا) في المنطقة.
– حرب 1967: تندرج في سياق الحرب الباردة حيث شجعت إدارة جونسون إسرائيل على الحرب على مصر عبد الناصر من أجل إخراجه من سياسة عدم الانحياز ، والصداقة مع موسكو، ومناصرة حركات التحرر.
– حرب 1973 : بنتائجها تندرج في إطار الحرب الباردة، فقد أعقب الحرب قطع مصر التام مع موسكو والانتقال إلى معسكر الغرب . “ب جبهة اة، بضر
– حرب 1982 : تندرج في إطار الحرب الباردة بضرب جيهة الصمود والتصدي المتحالفة مع موسكو.
هناك حروب أخرى جمعت بين طابع الحرب الأهلية وبين مواصفات الحرب بين الدول، مثل الحرب في شبه القارة الهندية، حرب أهلية جرت بعد انتهاء الاحتلال البريطاني لشبه الجزيرة، أدت إلى نشوء دولتين مستقلتين كاملتي السيادة، الهند والباكستان، على قاعدة الانتماء الديني، في حرب أهلية دموية تمخضت عن 15 مليون مهجر فقدوا أوطانهم الأصلية، وأودت بحياة مليون من البشر، وتعددت حروب هذه المنطقة وتوالت:
– الحرب الهندية الباكستانية الأولى 1949: أدت إلى تقسيم كشمير بين الهند وباكستان.
– الحرب الهندية الباكستانية الثانية 1965 : للنزاع على شمير.
– الحرب الهندية الباكستانية الثالثة 1971: وانتهت بقيام دولة بنغلاديش المستقلة.
– الحرب الهندية الباكستانية الرابعة 1999: أيضاً حول النزاع على كشمير.
من معظم الحروب في أنحاء العالم نجد كيف انتقلت الولايات المتحدة من شرطي البحر الكاريبي إلى شرطي العالم، من سياسة التدخل في شؤون القارة الأميركية إلى سياسة تدخل دولية منفلتة من عقالها، فلازمت الحروب تأسيس الولايات المتحدة، بل من قبل التأسيس في حرب إبادة وتنكيل بالسكان الأصليين، ثم من حرب الاستقلال، إلى الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، إلى حروب التوسع مع إسبانيا والمكسيك، هذا في ظل “عقيدة الانعزال”، التي انطلقت من أولوية بناء الذات بمنأى عن التدخلات الدولية تحت شعار «أميركا أولاً»…
إذ تطلب بناء الولايات المتحدة كدولة وأمة، اجتراح منظومة فكرية أيديولوجية بمرجعية دينية طهرانية متزمتة، تسوغ التوسع الاستيطاني والجرائم التي ترتكبها، وتسوغ استخدام العنف، وتبرر منطق القوة بمنطق الحق الآتي من السماوات.
في سياق بناء الدولة والأمة، انتقلت سياسة التوسع إلى المحيط والجوار القريب، ووفق “عقيدة جيمس مونرو” الرئيس الخامس للولايات المتحدة وتحت شعار «أميركا للأمريكيين»، أطلقت الولايات المتحدة إنذاراً إلى الدول الأوروبية: أن إعادة السيطرة على دول أنجزت استقلالها في أميركا اللاتينية أو الاستيلاء على مستعمرات جديدة، يشكل تهديداً للأمن القومي الأميركي.
«عقيدة ويلسون» الرئيس الأميركي الذي شارك في الحرب العالمية الأولى، ودعاه تورط الولايات المتحدة في النزاع الأوروبي، إلى إطلاق النقاط الـ14 من أهم نقاطها : الحد من التسلح، «حق تقرير المصير للشعوب»، وإقامة “عصبة الأمم” لتجنب الحوب وضمان السلام العالمي، إلا أن إطلاق عقيدة أو مبادئ شيء والالتزام والعمل بها شيء آخر، ذلك لأن عصبة الأمم عملت على شرعنة استعمار واحتلال دول على مدار القارات جميعها تحت مسمى «انتداب أو وصاية»، ولم تطلق الولايات المتحدة شعار البلدان لشعوبها على نمط أميركا للأميركيين.
ومن المفارقات الغربية أن رسالة الوداع لجورج واشنطن الرئيس الأول لأميركا وأحد كبار مؤسسيها، أوصى بعدم الانخراط في تحالفات إلا عند الضرورة القصوى، وتكون معلقة على نية مغادرتها بعد انقضاء الظرف الذي أملاها، وكأن الرؤساء الأميركيين في مرحلة الهيمنة الأميركية على العالم قد فهموها وفسروها على أهوائهم، فما أكثر الاتفاقيات والهيئات الدولية والتحالفات التي أبرمتها الولايات المتحدة وخرجت منها: الاتفاق النووي الأميركي – الإيراني، واتفاقية «كيوتو» للمناخ، واتفاق «باريس» للمناخ، والشراكة عبر المحيط الهادي «اتفاقية تجارية» معاهدة الصواريخ النووية مع روسيا، اليونسكو، والتزاماتها المالية نحو وكالة الأونروا…
في العودة إلى عنوان الكراس «حرب المئة عام من 1947 -…»، نلاحظ أن المؤلف حدد بداية لحرب المئة عام ولم يحدد نهاية لها، والتاريخ المفترض لنهايتها هو العام 2047، أي أنها قد قطعت من السنوات ثلاثة أرباع المدة المفترضة وتحديداً 75 عاماً، ذلك يشير إلى توقعات باستمرار هذه الحرب بمآسيها وآلامها، في ظل ميل إنساني عند أغلب الشعوب للسلام العالمي وتجنب الحروب، هذا التوقع لا يأتي من نزعة تشاؤمية، بل من قراءة لوقائع على الأرض، وأهمها:
1) الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية إطلاق الحروب وتوفير شروط إدامتها، فالسياسة الأميركية عدوانية تنبثق من طبيعتها الإمبريالية الباحثة بوحشية عن مصالحها دون مراعاة مصالح الشعوب الفقيرة ودون العمل على إقامة علاقات عادلة متوازنة معها.
وفي ظل أجواء دولية تنبئ بتغيرات تنهي مرحلة القطب الواحد، المتوقع ألا تتخلى الولايات المتحدة عن موقعها كزعيم أوحد للعالم دون أن تستخدم جبروتها بكل وحشية وشراسة لأجل الحفاظ على موقعها.
2) الأمم المتحدة ومجلس الأمن اللذان أنشئا لتحقيق السلام العالمي فشلا تماماً، بل إن مجلس الأمن صار أداة من أدوات هيمنة الولايات المتحدة لشرعنة بعض حروبها.
من باب الأمنيات وليس من باب التفاؤل أو التشاؤم، نتمنى ألا تكمل حرب المئة عام ما تبقى من حسابها آلاماً ومآسٍ.