المنظومة الإمبريالية بقيادة الامبريالية الأمريكية
هناك تحول نوعي بالنسبة للإمبريالية الأمريكية التي بدأت، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبشكل واعي ومنهجي، سيرورة بناء منظومة امبريالية موحدة تحت قيادتها. لقد استغلت قوتها الاقتصادية والعسكرية، خاصة كأول قوة نووية، وانهزام اليابان وألمانيا وإيطاليا وضعف الدول الأوروبية الأخرى، خاصة المملكة المتحدة وفرنسا، المنهكة بالحرب لبناء نظام بريتن-وودز (دور الدولار كعملة عالمية وتأسيس صندوق النقد الدولي والبنك العالمي الخاضعين لسيطرتها) الذي يجسد هيمنتها المالية والنقدية ويفرض السياسات التي تخدم مصالحها(1) ونشر مئات القواعد العسكرية، خاصة في الدول المنهزمة في الحرب والتلويح بالخطر الشيوعي لتجنيد الدول الأوروبية في إطار منظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو). ومع ذلك، قاومت بعض الدول الأوروبية هذه الهيمنة، خاصة فرنسا أيام حكم دوغول، وحاولت بناء علاقات اقتصادية وسياسية مع الاتحاد السوفييتي. كما دفعت الولايات المتحدة الأمريكية نحو تصفية الاستعمار لفتح أسواق أمام منتجاتها ورساميلها وتوسيع مجال تأثيرها الاقتصادي والسياسي والعسكري والثقافي في الإمبراطوريات الاستعمارية السابقة. وشجعت بناء الاتحاد الأوروبي، أساسا، كسوق موسعة مفتوحة أمام شركاتها المتعددة الاستيطان وليس كوحدة للشعوب الأوروبية.
ومع انهيار الاتحاد السوفييتي، ستزيد الامبريالية الأمريكية من إحكام هيمنتها السياسية والاقتصادية والمالية والعسكرية والثقافية والأمنية على المنظومة الامبريالية وستصبح التناقضات بينها وبين باقي الإمبرياليات ثانوية وليست استراتيجية، فأحرى ليست عدائية. وهكذا أصبح العالم يعيش هيمنة القطبية الواحد وأصبح عدوها المشترك هو القوى والأنظمة التي تواجه هيمنة هذه المنظومة، إما كأنظمة اشتراكية (كوبا وفيتنام…) أو أنظمة وطنية تقدمية كفينزويلا ونيكاراكوا أو أنظمة وطنية كإيران أو قوى تحرر وطني (المقاومة اللبنانية، وعلى رأسها حزب الله، مثلا) والأنظمة التي تعتبر أنها تنافسها على قيادة العالم (الصين وروسيا). وتغطي الامبريالية ذلك بالكلام عن مواجهة الإرهاب والدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من الشعارات الكاذبة.
لقد أظهرت الحرب في أوكرانيا و”طوفان الأقصى”، بشكل لا يدع مجالا للشك، أننا أمام منظومة امبريالية بقيادة الامبريالية الأمريكية موحدة حول القضايا الاستراتيجية، وخاصة الحفاظ على هيمنتها على المناطق التي تحكم سيطرتها عليها واكتساحها لمناطق جديدة لعل أهمها أوراسيا والصين وإفريقيا.
إن الأساس المادي لوحدة هذه المنظومة الامبريالية هو هيمنة الرأسمال المالي الاحتكاري المُعوْلَم بقيادة الرأسمال المالي الاحتكاري الأمريكي على دول هذه المنظومة وقدرة هذا الرأسمال المالي على جر باقي شرائح البرجوازية إلى مشروعه لكون هذه الأخيرة يسيل لعابها على إمكانيات الاستفادة من نهب الخيرات الطبيعية الهائلة لروسيا إذا تم هزمها وإخضاع الصين. وتتجسد هيمنة الرأسمال المالي الاحتكاري الأمريكي على الرأسمال المالي الاحتكاري المُعوْلَم في الدور الأساسي للدولار في المبادلات التجارية العالمية وفي احتياطات العملة الصعبة في البنوك المركزية(2) ودور صندوق النقد الدولي والبنك العالمي في فرض السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي تخدم مصالحه ودور الشركات المالية الخاصة، وعلى رأسها بلاك روك وفانكوارد، التي تمثل أدوات التداخل بين رساميل هذه المنظومة وتسهر على استثمارها لصالحها، وخاصة لصالح الرأسمال المالي الاحتكاري الأمريكي. ومعلوم أن أحد أهم أسباب القضاء على صدام حسين والقذافي هو محاولتهما الانفلات من هيمنة الدولار من خلال بيع النفط بعملات أخرى(3).
تخضع هذه المنظومة لتراتبية محددة تحت قيادة الامبريالية الأمريكية وتتشكل نواتها الصلبة من الدول الأنغلوساكسونية (الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا). هذه النواة المشكلة من المملكة المتحدة ومستعمراتها السابقة الاستيطانية الإبادية للسكان الأصليين (الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا) هي الأكثر إخلاصا للمشروع الأمريكي الهادف إلى الهيمنة على العالم لكونها الأكثر اندماجا وتبعية عسكريا وأمنيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا للإمبريالية الأمريكية. وأقامت الدول الأربعة الأولى تحالفا بينها تحت اسم “أوكوس”. وهذا ما يفسر، مثلا، سحب أستراليا لمشروع بناء الغواصات الضخم من فرنسا وتقديمه لأمريكا. وتأتي، في المرتبة الثانية، تسع دول أوروبية هي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا وبلجيكا والسويد والدانمارك والنرويج. وقد تم إدماج اليابان وكوريا الجنوبية مؤخرا في هذه المنظومة لتطويق الصين وروسيا. بينما يحظى الكيان الصهيوني بموقع خاص لكونه يمثل قاعدتها الأمامية في منطقة الشرق الأوسط. وتضم هذه المنظومة دولا أخرى من غرب ووسط وشرق أوروبا التحقت بمنظمة حلف شمال الأطلسي وبعض الدول من العالم الثالث، لكنها أقل أهمية.
لذلك، ليس غريبا أن يضحي الرأسمال المالي الاحتكاري المُعوْلم بالمصلحة الاقتصادية لشعوب بلدان هذه المنظومة الامبريالية (مثلا السكوت على تدمير نور ستريم واحد واثنان من طرف، أو على الأقل، بإيعاز ودعم من أمريكا وما أدى إليه من ارتفاع هائل للغاز أدى إلى التضخم) ومصلحة البرجوازية الصناعية، الألمانية بالخصوص، التي فقدت تنافسيتها بسبب الارتفاع الصاروخي للغاز المستورد، خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية، وفقدت أسواقها في روسيا وجزئيا في الصين، وذلك انضباطا للموقف الأمريكي وطمعا في الحصول على نصيبها من خيرات روسيا وضنا منها أنها قادرة على هزمها بسرعة. وتمارس هذه الشريحة نفس الموقف الأمريكي العدائي للصين في الميادين الاقتصادية والسياسية والدعائية (تشويه سمعة الصين وبث العداء لها داخل شعوب بلدانها) والموقف من تايوان، طمعا في إضعاف الصين لفرض شروط هذه المنظومة الامبريالية عليها(3).
وكما أبانت هذه المنظومة على وحدتها في الحرب في أوكرانيا ووحدتها في مواجهة الصين، نرى كيف أنها موحدة في موقفها الداعم للكيان الصهيوني، رغم ارتكابه جريمة الإبادة الجماعية لسكان غزة. وهذا ليس غريبا بل هي مسألة طبيعية لأن هذا الكيان هو أهم ضمانة لاستمرار هيمنتها على العالم العربي والمغاربي والشرق الأوسط عموما الغني بالخيرات الطبيعية، خاصة النفط والغاز، والذي يتمتع بموقع استراتيجي هام بين أوروبا وآسيا وأفريقيا.
إن التحليل الملموس للواقع الملموس يبين أن التغيرات التي طرأت على المنظومة الامبريالية بقيادة الامبريالية الأمريكية تعني تغيرا جوهريا ونوعيا في هذه الامبريالية ومرحلة جديدة من تطورها تختلف عن ما حلله لينين. فلم تكن الإمبرياليات الأمريكية والأوروبية واليابانية، أيام لينين، تشكل منظومة موحدة عضويا واستراتيجيا، بواسطة هيمنة الرأسمال المالي الاحتكاري المُعولم وسطها، بل كانت مجموعة من الإمبرياليات مستقلة عن بعضها البعض قد يتحالف جزء منها لقتال جزء آخر، كما وقع خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. كما أن هدف هذه المنظومة لم يعد تقسيم العالم، كما كان عليه الأمر أيام لينين، بل ترسيخ هيمنتها على المناطق التي بسطت عليها هيمنتها والهيمنة على المناطق التي تخرج عن سيطرتها، خاصة أوراسيا والصين. ولذلك أقامت الامبريالية الأمريكية أكثر من 800 قاعدة عسكرية وتتوفر المملكة المتحدة وفرنسا وغيرها من أعضاء المنظومة على العديد من القواعد العسكرية، جزء هام منها موجه لتطويق روسيا والصين. ولذلك أيضا، تمثل هذه المنظومة 70 في المئة من النفقات العسكرية العالمية (نفقات أمريكا العسكرية ليست765 مليار دولار سنة 2022، كما هو معترف به رسميا، بل 1537 مليار، أي أكثر من ضعف هذا الرقم)(4).وخاضت هذه المنظومة عشرات الحروب منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في مختلف مناطق العالم. إنها منظومة وصلت فيها الرأسمالية مستوى متقدم من التعفن حيث أصبحت الحرب الدائمة أحد أهم أسس استمرارها.
ومعلوم أن استراتيجيو أمريكا من أمثال بريجنسكي وكيسينجر ومؤسسة راند للدراسات التابعة للأجهزة العسكرية والأمنية والمخابراتية الأمريكية طرحوا ضرورة القضاء على المنافسين المحتملين لهيمنة أمريكا على العالم، أي روسيا والصين.
قد يقال أن روسيا والصين تسعيان أيضا إلى بناء منظومة خاضعة لهما من خلال البريكس وغيره من التحالفات (منظمة شانغهاي…). لكن ما يتجاهله هذا الطرح هو أن هذه التحالفات الدفاعية تختلف جوهريا عن منظومة موحدة عضويا بواسطة هيمنة الرأسمال المالي الاحتكاري المُعولم بقيادة الامبريالية الأمريكية عليها.
هوامش:
(1) طلبت الحكومة الفرنسية قرضا من البنك الدولي، في 1958، فكان شرط البنك هو طرد الشيوعيين من الحكومة. وهو ما تم بالفعل.
طلبت إيران قرضا من البنك الدولي أيام حكم مصدق. فكان الشرط هو التخلص منه. وهو ما تم بواسطة انقلاب أطاح به.
(2) والخطير في الأمر أن الدولار لم يعد مرتبطا بثمن الذهب ولا بأي شيء ذي قيمة مادية. الشيء الذي يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية تتوفر على امتياز غير مسبوق في التاريخ وهو إصدار العملة العالمية دون ضمانة. وهو ما يفسر استعدادها لخوض الحروب من أجل الدفاع عن هذا الامتياز الذي تؤدي ثمنه شعوب العالم أجمع.
(3) تتوفر هذه المنظومة الامبريالية على مجموعة من المؤسسات التي تناقش فيها (منتدى دافوس ومؤسسة هيريطاج…) والتي تمدها بالدراسات الإقتصادية والاسترتيجية.. (مؤسسة راند ومجموعة وبلدربرغ ومختلف الأجهزة المخابراتية…) وتجتمع أهم دول هذه المنظومة الامبريالية (الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان وكندا) في إطار مجموعة السبعة لتنسيق مواقفها السياسية والاقتصادية وغيرها. والملاحظ أن البلدان الأنغلوساكسونية تمثل قوة كبيرة داخل المجموعة (3 من 7) وهي المهيمنة والقائدة لهذه المجموعة.
(4) شجعت الامبريالية الأمريكية التحاق الصين بالمنظمة العالمية للتجارة والذي تم في 2001، وذلك كأداة لإدماجها من موقع مسيطر عليه في النظام الرأسمالي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية. لكن السحر انقلب على الساحر حيث لم تفرط الصين في سيادتها واستفادت من التحاقها بالمنظمة العالمية للتجارة لتطوير اقتصادها. تنبهت أمريكا لهذا الواقع أيام أوباما، فعملت كل ما في وسعها لتخريب هذه المنظمة وصولا إلى موتها السريري في 2018 ولجأت إلى السياسات الحمائية المناقضة لأسس هذه المنظمة، بل لم تتوانى عن إعلان الحرب الباردة ضد الصين.
(5) أنظر المقال التالي:
Actual US military spending…
Gizela Cernadas et John Bellamy Foster
Monthly Review December 2023