في ذكرى رحيل “الجنرال”، “أي شعلة للعقل انطفأت. أي قلب كبير توقف عن الخفقان!”

في ذكرى رحيل “الجنرال”،  “أي شعلة للعقل انطفأت. أي قلب كبير توقف عن الخفقان!”
الرفيق أحمد بنعمر




طنجة، 05 غشت 2023




في الذكرى الثامنة والعشرين بعد المائة لرحيل* “الجنرال”
“أي شعلة للعقل انطفأت. أي قلب كبير توقف عن الخفقان!”





ولد إنجلس بألمانيا في بلدة صناعية تدعى بارمن وذلك في 28 نوفمبر 1820. كان أبوه بروتستانتي العقيدة كالفيني المذهب،يمتلك مصانع للنسيج في مانشستر وبارمن ومن بين أوائل من أدخلوا الآلات الإنجليزية في مصانعهم بأرض الراين(1) [FE.11-14- إدموند 115-116-]. وكان جد إنجلس هو الذي أسس هذه الصناعة في النصف الأخير من القرن الثامن عشر(2) [كورنو١- ص 122 – 123]. ظل فريديك انجلس حبيس مذهب التقوية اللاهوتي طوال طفولته وجزء من حياة المراهقة (3) [نفسه ص 124 وما بعدها – إدموند…ص 116.-.F.E p13]، إلى أن حان الوقت ليتمرد تماما على شخصية أبيه المتصلبة اجتماعيا والمتزمتة دينيا. وهو التمرد الذي بدأت نواته مع اطلاعه على كتاب ستراوش “حياة المسيح”(4) [كورنو١ ص221 – إدموند… ص 116- F.E.p 21]، وتعمقت مع تشبعه بمذهب هيغل وتأثره بأعمال شللينغ، حيث عرف بعد ذلك بمرحه وإقباله الشديد على الأدب والفنون والموسيقى وعشقه للمسرح والاوبرا والاسفار وكتابة القصص الميثولوجية والاشعار الرومانسية الثورية المليئة بالبهجة والمرح والإقبال على الحياة والتوق للحرية من كل الأغلال الموجودة على وجه الأرض (5) [ FE-26.27./ كورنو١ ص 135 – إدموند ص117]. كان إنجلس الشاب الصغير شخصا جذابا، طويل القامة، نحيل العود، ذا شعر بني، وعينين زرقاوين مشرقتين نفاذتين. مرنا ومليئا بالحيوية والنشاط، قوي الملاحظة؛ يتقن استعمال سمعه وبصره،حيث كان يملأ خطاباته برسومات الناس الذين يصادفهم – سماسرة عراض، فتية صغار بشواربهم الأنيقة، وعجزة، وسكارى، وأصحاب العربات، وحمالي الموانئ… كانت له قدرة عجيبة على التقاط اللغات الأخرى في يسر تام حيث كان يقرأ يوميا صحفا بلغات متعددة (6) [إدموند 117. (يقال أنه كان يقرأ 29 لغة!) الهامش١من مقدمة إلى ف.إ ].

في 1841 انتقل انجلس من برمن إلى برلين لأجل مهمتين اثنتين: الخدمة العسكرية هناك، ودراسة الفلسفة بجامعتها (7) [ادموند 119 – FE.p24]، حيث التقى بجماعة الهيجليين الشباب التي كان لها ذلك التأثير البالغ عليه (كما على ماركس من قبله) كانت نتيجته نقده البارع والعميق لآراء شيلنغ الرجعية الصوفية في كتاب «شيلنغ والرؤيا» (1842). كما انتقد أفكارهيغل بسبب نتائجه المحافظة والتناقضات في جدله المثالي(8) [إنجلز: لودفيغ – ص 6-7 -/ FE.pp – 425-426. – مقدمة 18-20/53-54 ] وقد صادف ذلك نشر كتاب “جوهر المسيحية” لفيورباخ وهو الكتاب الذي حرر إنجلس تماما من ربقة اللاهوت وألقى به في عالم العمل الإنساني. وهو العام نفسه الذي نشر فيه كتاب موسى هيسه “الحكومات الثلاث” الذي يخلص إلى أنه “من المستحيل القضاء على الكراهية بين الشعوب، بغير التخلص من المنافسة التجارية بينهم”.(9) [إدموند 119].

في 1842 انتقل إنجلس إلى إنجلترا حيث مكث قرابة العامين في ظل كساد اقتصادي لم يعان الإنجليز مثله من قبل؛ وما يستتبع ذلك من توقف الانتاج وازدحام الشوارع بالعمال العاطلين. وتواتر الاضرابات والتمردات وسط العمال والفلاحين التي كانت دائما تنتهي بتدخل دموي للشرطة. وفي هذه الاجواء حضر إنجلز،الذي أصبح اشتراكيا، بعينه الناقذة وبمساعدة صديقته العاملة الايرلندية “ماري برنز” كتابه حول الوجه القاتم للصناعة. كانت انجلترا آنذاك أكثر البلاد الرأسمالية تطورا، وقد جعله احتكاكه الواعي بحياة الطبقة العاملة هناك يفكر بعمق في أسباب الظروف الاقتصادية التي لا تطاق والتي تعيش فيها البروليتاريا، وفي حرمان تام من الحقوق السياسية، فقرر دراسة أوجه النقص التي كشفت عنها حركة<**>الميثاقية/ الشارتية (10)[FE;35-41- كورنو٢ – 183-/ 186 إدموند؛ 119] في ايديولوجيتها وأفكارها الخيالية عن تخلي الرأسماليين عن قوتهم طوعا.فكانت ثمرة هذه الدراسة كتاباه «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» (1844) الذي اعتبره ماركس مساهمة نوعية في نقد المقولات الاقتصادية.وتلاه كتاب «ظروف الطبقة العاملة في انجلترا» (1845). لقد عرض انجلز في هذين الكتابين للمستقبل العظيم الذي ينتظر الطبقة العاملة، والمهمة التاريخية التي تنتظرها. فكان أول من بيّن أن البروليتاريا ليست فحسب طبقة تعاني، وإنما هي أيضا طبقة تناضل من أجل انعتاقها. (11)[ FE. 336-339- مقدمة 23-32-/ 43./كورنو٢ 179-186].

في 1844 التقى بماركس في باريس لتكون بداية صداقتهما العميقة التي قامت على أفكارهما المشتركة وكفاحهما المشترك لتحرير البروليتاريا من العبودية الرأسمالية.ا -[FE 33] (12)- [إدموند125-126]

بين 1844–1846 كتبا معا « العائلة المقدسة » و« الايديولوجيا الألمانية » بسطا فيهما نظرة تقدمية جديدة. [كورنو٤الفصل٢ ص 163 وما بعدها]FE.50-54/73-79] (13)] نقيضة للآراء الفلسفية السائدة آنذاك لهيغل وفيورباخ والأخوين برنارد وبرونو باور وغيرهم وعملا على استكمال تأسيس صرح المادية الجدلية والتاريخية وفي الوقت نفسه عملا على تقوية وإحكام تنظيم الرابطة الشيوعية التي صارت فيما بعد الحزب الثوري للبرويتاريا.[FE-p176-180/116-117] (14).
. في 1847 كتب انجلس مسودة برنامج الرابطة ؛ « مبادئ الشيوعية » وعلى أساسها كتب ماركس وانجلز «بيان الحزب الشيوعي» 1848 (15)[ إدموند – 140-144/ مقدمة 42-43-] تضمن الخطوط والتصورات المتكاملة للماركسية كمرشد للعمل الثوري وكأيديولوجية للطبقة العاملة.ا [FE – 120/111].
. عرف انجلس بولعه الشديد بالعمل الصحفي الميداني وخاصة فيما يتعلق بتاريخ الشعوب والبلدان ومرفلوجيتها وطبيعة تضاريسها ومزاج شعوبها وثقافتهم … كما ولع بتقصي المعطيات حول طبيعة الجيوش وعددها والاسلحة المتوفرة لديها وتكتيكات الحروب السابقة والقائمة واستراتيجياتها، كما كرس الجهد الأكبر في عمله الصحفي والاعلامي للتقصي والبحث والتدقيق في معطيات الطبقات الكادحة البروليتاريا في إنجلترا وفرنسا وألمانيا وأمريكا وفي العالم. والفلاحين في ألمانيا خاصة وأوربا بشكل عام. فلعب بذلك دورا رائدا في نشر نظرية كفاح البروليتاريا وتدعيم القوى الديمقراطية على عهد ه (16)ه
[.FE ,32-40/207-211/230-233 /- كورنو٢ الفصل ١ ص 5 ومابعدها، الفصل ٣، 233 وما بعدها/ – ] مقدمة… الفصل٢ 13-20] – 1848 / بين 1848–1849؛ قاتل انجلز في صف القوى الثورية في ألمانيا خلال ثورة 1849
.[ إدموند، 156-157/ FE,147-164](17)
وبعد هزيمة الثورة ترك ألمانيا وقام بتعميم تجارب الثورة الألمانية في المهجر في كتابيه «الحرب الفلاحية في ألمانيا» و«الثورة والثورة المضادة في ألمانيا». حيث أبرز دور الطبقة الفلاحية منذ القرن السادس عشر إلى عهده، باعتبارها حليفة البروليتاريا، واظهر خيانة البورجوازية.
. [151-157 إدموند – FE,173/193](18) ولما انتـقل إنجلز إلى إنجلترا حيث استقر فيها ماركس أيضا، التحق بحركة العمال وعمل بنشاط لخلق الأممية الأولى، وللكفاح ضد آراء البورجوازية الصغيرة الانتهازية والفوضوية.[FE;473-478/315 ] (19)

 وقد ساعد انجلز ماركس طوال الأربعين سنة التالية بكل طريقة، عندما كان ماركس منشغلا بانجاز كتاب « رأس المال » العظيم. وقد قام انجلز بنفسه بالإشراف على إصدار الجزئين الثاني والثالث بعد وفاة صديقه. وهو في هذا الإشراف قام بنصيب كبير في البحث. وعلى حين كان ماركس مشغولا للغاية بمؤلفه «رأس المال» واصل انجلز العمل بجد في تطوير المادية الجدلية والتاريخية (20) [ كورنو٣ 142/العائلة 18-20/53-55]. وتأليف كتب من أمثال: «لودفيج فيورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية [(لايبزغ،(1846) كراسات ماركسية، سلامة كيلة 2014 »] و[«ضد دهرينغ» (1876-1878) ت: محمد الجندي، و خيري الضامن – دار التقدم موسكو 1984] و«أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة» (زيورخ 1884) ت: أحمد عز العرب 1956] الخ… يفند فيها الآراء الصوفية والميثالية/الخيالية، ويعرض فيها منظور وماهية ومعنى الفلسفة الماركسية.ا

وقد زوّد انجلز الفلسفة بأداة استرشاد بين المدارس والمذاهب العديدة في الماضي، وقام بمجهود متواصل لتعرية وإجلاء الطبيعة الطبقية للفكر عامة والفلسفة بصفة خاصة. وهو في برهنته على المشكلات الرئيسية للمادية التاريخية كرّس كثيرا من انتباهه لنقد التصورات الفجة عن الفهم المادي للتاريخ. فقد برهن انجلز على أن الدور الحاسم للظروف التي يعيش فيها الناس لا يستخف بأية حال بدور الأفكار أو دور الفرد في التاريخ. لقد ناضل ضد الآراء الآلية عن الإرتباطات والعلاقة المتبادلة بين القاعدة والبناء الفوقي الأيديولوجي الخ.[FE;521-522] (21)

واهتم انجلز للغاية بالحركة الثورية في روسيا، وتنبّأ بالثورة الروسية الكامنة، وعقد آمالا كبارا عليها
.[ FE; pp 215/ 455-458/372-382/494-499](22)

وقد شارك حتى آخر حياته في الحياة السياسية في أوروبا وكان مع ماركس زعيما بارزا لحركة الطبقة العاملة.
عاش إنجلس بعد رحيل ماركس اثني عشر عاما أخرى. حيث ظل يمشي منتصب القامة، نحيل العود، في شيء من نشاط الشباب، في نفس شوارع لندن، التي زارها في العشرينات من عمره(23)[ إدموند 296وما بعدها]. وبقي في علاقة وثيقة ببنات ماركس وأزواجهن كما بالكثير من قادة الأممية الثانية كليبنكت وكاوتسكي … وفي المقابل رفض أن يجدد الصلة بأي شخص آخر كان قد أساء لماركس. واستمر على قطيعته لهندمان ومعارضته لأتباع لاسال [( 24)إدموند 203-229 ]، كما ظل يعاتب ليبكنيت على تجاهله نقد ماركس لبرنامج غوتا. عاد إلى ألمانيا عشية إلغاء القانون ضد الاشتراكيين.(25)[إدموند 295].

وفي صيف 1993 ظهر لأول مرة بشخصه في مؤتمر الاممية الثانية، بزيوريخ حيث استقبل استقبال الأبطال وبما يليق بالقادة العظام وحيث ألقى خطابا بثلاث لغات استهله باستحضار روح رفيقه في الكفاح كارل ماركس. (26)[FE; 521- إدموند 296].، كان عيد ميلاده مناسبة يمتلئ فيها منزله بالزوار من كل الجنسيات وتعم أجواء خاصة من الاحتفال والمرح. وفي هذا اليوم كان منزله يتوصل بسيل من التهاني عبر الرسائل وقصاصات التلغرام من شتى البلدان والقارات.وفي هذه المناسبة كان يحلو له أن يبادر لترديد إحدى الأغنيات القديمة الخاصة بطلبة الجامعة. أما فاتح ماي فقد كان مناسبة يحرص فيها مع ضيوفه على ترديد المارسيليز بكل ما أوتي من حماس وعنفوان.

وكان عيد ميلاده 74 مناسبة ليتوصل من رفاقه في الحزب ومن مختلف الجنسيات والبلدان بتهنئة مزدوجة؛ واحدة بمناسبة عيد ميلاده 74 والثانية بمناسبة صدور الكتاب الثالث من “رأس المال” في تلك السنة 1894 كثمرة للتعاون الوثيق بين ماركس وإنجلز.
في رده على التهاني بعيد ميلاده ال 74 علق انجلز ببعض الأسف بكون “74 ليست هي 47” فرغم ما يبدو عليه من همة ونشاط وإقبال على الحياة فقد بدأ يحس بوطأة الشيخوخة على جسده: “لا مندوحة عن ذلك… ولكن سأظل أحب الحياة ما استطعت إليها سبيلا.”ولم يكد يمر وقت على انتهائه من العمل بالكتاب 3 من رأس المال حتى كان قد أعد برنامجا مكثفا لعمله في الفترة القادمة. من بين خطوطه العريضة : إعداد مراسلات لاسال لماركس للنشر، مراجعة كتاب حرب الفلاحين في ألمانيا، بعد ذلك وضع خطوط عريضة لسيرة سياسية لماركس تمتد للفترة من 1842 إلى 1852. ولفترة الأممية الأولى. وللأهمية القصوى التي كانت تحظى بها هذه الأخيرة، فقد تصور أن تكون هي فاتحة هذا العمل. في حين كان قد شرع في إعداد إصدار جديد لمؤلفات مرحلة الشباب لكليهما، ثم التفكير في إعداد وإصدار الكتاب 4 من رأس المال. (27) [FE;P:557 – 560]

في إحدى رسائله للاورا لفارغ (28) [ م.نفسهFE] يحيطها علما بالخطوط العريضة لبرنامجه هذا يكتب: “أصبحت اليوم في 74 من عمري وهذا يرغمني على القيام بعمل رجلين في عمر ال40. تصوري لو كان بالإمكان أن أنقسم إلى إثنين بدل واحد. فريدريك إنجلز ذو ال40 وفريديريك إنجلز ذو 34 ما يساوي 74 لكان في الامكان القيام بكل هذه المهام المتراكمة. ولكن إذ ينبغي أخذ الأمور كما هي عليه في الواقع، فإنني سأحاول إنجاز من هذه المهام بقدرالمستطاع “.

إلى جانب انشغاله العلمي، كرس إنجلز الكثير من وقته للنشاط السياسي. فإلى آخر أيام عمره بقي منغمسا في الصراع الميداني من أجل الانتقال من سجن مملكة الضرورة إلى رحاب مملكة الحرية. لقد كان الأمل يملأ قلبه في إلقاء نظرة على القرن الجديد ويتطلع إلى أن يكون قرن انتصار الشيوعية.

في العام 1894 ازدادت وثيرة إصابته بالمرض، وكثيرا ما كان يصاب بنزلات البرد اوتشتد وطأتها مع مرور الأيام. وفي مارس من العام 1895 أخبر الدكتور فرايبرغر صديقه أدلر بإصابة إنجلز بمرض سرطان المرئ. وقرر عدم إخبار إنجلز بذلك.
في مطلع شهر ماي من نفس العام ظهر ورم خبيث في منطقة عنقه وكان الألم لا يكاد يتوقف طوال النهار ولا يكاد يغمض له جفن ليلا.

في مطلع شهر يونيو سافر إلى مدينة إيستبورن الشاطئية والعزيزة على قلبه، حيث سيلتحق به كل من لورا لافارغ، إليانور وإدوارد أفيلين، فريبرغ ورفيقته، سامويل مور، فيكتور آدلر وآخرون. وبشهادة أصدقائه تحمل إنجلز آلامه بصبر قل نظيره وبكثير من التفكه وروح الدعابة التي لازمته حتى آخر أيامه حين فقد القدرة على الكلام واستعاض عنه للتواصل مع محيطه باللوحة وقطعة الطباشير. وحتى وهو في أسوأ حالاته الصحية استمر يتابع مستجدات الأحداث، ويعمل بمكتبه إلى آخر يوم في حياته؛ ففي 3 أبريل 1895 أرسل بملاحظاته التفصيلية للافارغ حول مؤلف هذا الأخير “أصول الملكية (بكسر الميم) وتطورها”. وفي 10 أبريل، أرسل رسالة لكارل بوير يدعم فيها أفكاره التي ضمنها دراسته حول الفزيوقراطين وفرانسوا كيني. في 21 مارس أرسل لكاوتسكي رسالة يعبر فيها بتفصيل عن رأيه المؤيد لما تضمنه كتاب كاوتسكي “من أفلاطون إلى (***) الأنابابتيسية”، ويحيطه علما بعزمه على إرسال دراسة تكميلية خاصة بالكتاب 3 من رأس المال تدور أولا: “حول قانون القيمة ومعدل الربح”. ثانيا : حول تطور دور البورصة بعد 1865 وهي السنة التي كان ماركس قد أنجز فيها تحليلا خاصا بها.

في مطلع يوليوز بعث إنجلز لأنطونيو لابريولا بتعليق يخص الجزء الأول من مقال هذا الأخير “في ذكرى بيان الحزب الشيوعي” يضمها رغبته الأكيدة في الاطلاع على الجزء الثاني. (29)[م. نفسه FE].

لقد واصل، طيلة هذه الفترة، كتابة الرسائل والرد على المراسلات، وكانت آخر رسالة خطها بيده، أرسلت يوم 23 يوليوز 1895 من مقامه بإيستبورغ إلى لاورا لافارغ. وفي اليوم التالي نقل إنجلز إلى لندن في وضعية جد حرجة، وفي أقل من أسبوعين بعد ذلك في 5 غشت 1895 على الساعة 10.30 ليلا توقف قلب إنجلز عن الخفقان. (29)[نفسهFE].

وتحسبا لهذه اللحظة وضع وصية خاصة بتوزيع كل ما بحوزته حتى قبل أن يذهب إلى زيوريخ بسويسرا في 29 يوليوز 1893. وفي 14 نوفمبر 1894، بعث رسالة للذين اختارهم لتنفيذ وصيته – التي وضع لها تكملة في 26 يوليوز – 1895- وهم : صمويل مور، إدوارد برنشتاين، لويز كاوتسكي (فرايبرغر) {طليقة كارل كاوتسكي}.في وصيته وهب إنجلز كل ماله ل: لاورا لافارغ، إلينور ماركس – أفلين، ولويز كاوتسكي، بالإضافة إلى ابنتي، جيني لونجي (البنت الصغرى لماركس) اللتان تركتهما يتيمتين بعد رحيلها المأساوي. كما خص مبلغا ماليا مهما لماركس إيلين روشر ابنة أخت كل من ماري ولييز بيرن.(30) ( نفسهFE)

أوصى إنجلز فيما يتعلق بثروته الأدبية؛
1- مخطوطات ماركس ومراسلاته (ماعدا المراسلات المتبادلة بينهما) لإيلنور ماركس – أفلين، باعتبارها الممثلة الشرعية لورثة كارل ماركس.
2- مخطوطاته الشخصية ومراسلاته (بما فيها تلك المتبادلة مع ماركس) ل: أ.بيبل وإ.برنشتاين.
3- كل المراسلات الخاصة بآل لافارغ، آل أفلين، آل فرايبرغر، ومراسلاته العائلية، أن تسلم لأصحابها.
كما أوصى بوضع كل مكتبته وحقوق التأليف العائدة إليه إضافة إلى 1000 جنيه استرليني تحت تصرف الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني في شخص ممثليه؛ أ. بيبل و ب. سينجر.

في رسالته لمنفذي وصيته بتاريخ 14 نوفمبر 1894. عبر إنجلز عن أمنيته في أن يحرق جسده ويلقى برماده في البحر. وعملا بوصيته اتسمت مراسيم تشييع جنازته بالبساطة والتواضع. حيث لم يتجاوز عدد المشيعين لموكبه الجنائزي بمحطة واترلو ال80 شخص جلهم من أصدقائه المخلصين ورفاقه في الحركة الشيوعية العالمية والكفاح من أجل غد أفضل للإنسانية. كان التابوت مغطى بالورود وتيجان الزهور، بينما حملت الأشرطة الحمراء العريضة عبارات التقدير والامتنان للقائد والمعلم من جهة والأسى والحزن على فداحة الخسارة عبر عنها رفاقه من ألمانيا، النمسا، فرنسا، إنجلترا، إيطاليا، بلجيكا، هولندا، روسيا، بولونيا، بلغاريا، أرمينيا. كما تليت العديد من رسائل وبرقيات التعزية التي وردت من كل الأصقاع ختمت المراسيم بخطاب عائلة إنجلز تلاه ابن أخيه شيلي ستندال إنجلز.

وفي حضور قليل، اقتصر على عائلة إنجلز وبضعة رفاقه وأصدقائه المقربين تم إدخال ثبوت إنجلز إلى “محرقة الجثث” بنواحي لندن.
في 27 غشت تكفل كل من إلينور أفلين و ليسنر و برنشتاين بنقل الجرة التي تحتوي على رماد جسد إنجلز إلى إيستبورن وإلقائها في البحر هناك على بعد بضعة أمتار من الشاطئ.(31) [نفسه FE].

تحدثت الصحافة العالمية، سواء منها الاشتراكية أو البرجوازية، عن الحدث مبينة فداحة الخسارة التي مني بها الحركة الشيوعية وسائر البروليتاريا في العالم أجمع. وذلك تزامنا مع ظهور مقال لشاب اشتراكي ديمقراطي روسي يدعى فلاديمير إليتش أوليانوف روسي ينعي فيه إنجلز تحت عنوان “فريديرك إنجلز” ويفتتحه بالأبيات الشعرية الشهيرة لنيكراسوف : ” أي شعلة للعقل انطفأت. أي قلب كبير توقف عن الخفقان!”(32) [FEنفسه/ لينين].

كانت حياة رجل ومفكر ثوري [(33).FE- 561-565]. غنية ومميزة تلك التي عاشها فريديريك إنجلز، الذي منذ ريعان شبابه، كما في كل أطوار حياته اختار أن يربط مصيره الشخصي بمصير الطبقة العاملة. فلم تكن حياته سوى لبنة أساسية في صرح العمل على تحرير الإنسان من كل أشكال الاضطهاد والاستغلال. وفي هذا السبيل لم ينفصل إسم ومؤلفات إنجلز عن إسم ومؤلفات ماركس. فقد اشتركا معا وفي تفاهم كبير في بناء التصور البروليتاري للعالم.

ولم تكن روابط الصداقة الحميمة والتعاون الفكري والنظري والكفاح العملي المشترك وسط الطبقة العاملة لتلغي الفرادة والأصالة التي اكتسبتها شخصية كل منهما.

اتسمت أولى كتابات إنجلز في مرحلة الشباب، بالجمع بين قدر كبير من الحدة في التناول والعمق في المضامين، ومن الدقة والإحكام في الشكل. لقد رأينا كيف كان أول من أماط اللثام عن المنحى الرجعي الممجد للماضي لفلسفة شيلينغ. والأول من وقف على التناقض الداخلي الذي وسم مجمل النسق الفلسفي في فلسفة هيغل. وكيف كان، في هذه المرحلة من عنفوان الشىاب , أول من أثرى الفكر الثوري – في استقلال عن ماركس – بفحص وتحليل ونقد الاقتصاد السياسي البرجوازي من منطلق الفكر الاشتراكي، فكان بذلك أول من عبد الطريق للتصور المادي للتاريخ. لقد كان أول من أنجز تحليلا عميقا جذريا وأصيلا لماهية وآثار الثورة الصناعية الإنجليزية، وأول من كشف عن الظروف المزرية والأوضاع اللاإنسانية التي جلبتها معها هذه الثورة الصناعية للطبقة العاملة مستنتجا المهمة الرئيسية والتاريخية المنوطة بها والمتمثلة في “حفر قبر الرأسمالية “. لقد اشترك مع ماركس في إنجازعملهما الخالد بيان الحزب الشيوعي الذي شهد العالم بأسره،من خلاله، ميلاد مفهوم جديد للعالم يرتكز بشكل أساسي على نظرية حتمية الصراع التحرري الطبقي للبرولتاريا. البرنامج العام للنضال وأسس تكتيك الشيوعيين. هذه الوثيقة / الرسالة التي منحت للطبقة العاملة العالمية شعارها المتمثل في وحدة النضال ووحدة المصير ووحدة الهدف المتمثل في خوض الصراع على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والايديولوجية ضد الرأسمالية حتى هزمها والاطلاع بالمهمة التاريخية المنوطة بها وهي تحرير نفسها ومن خلالها الإنسانية جمعاء من الاستغلال والاستلاب والاضطهاد الرأسمالي بكل أشكاله وأنواعه.

شكل إنجلس، طرفا أساسيا، إلى جانب ماركس في تشييد صرح الماركسية؛ فلسفتها ونظريتها في الاقتصاد، والتاريخ والمجتمع، كما في بلورة وتوضيح مسائل وقضايا الاشتراكية العلمية والشيوعية، ووضع الخطوط العريضة والعمود الفقري لقضايا الاستراتيجية والتكتيك في نضال الطبقة العاملة التحرري. ففي مؤلفاته العديدة نجد إنجلس يعرض الأطروحات الاساسية للماركسية. لقد ظلت كتابات ومساهمات إنجلس الفكرية مرجعا أساسيا ومعينا لا ينضب ينهل منه كل الشيوعيين والعمال المتملكين لوعيهم السياسي، سواء في عهده أو أولئك الذين أتوا من بعده وإلى يومنا هذا.

إن كل ما أنجزه إنجلس في المجال النظري بعد رحيل ماركس يكتسي أهمية جوهرية في فهم وتملك البعد الثوري للاطروحة الماركسية الاساسية في تغيير العالم، فهو بذلك أسهم مساهمة حاسمة في تطوير النظرية الماركسية ونشرها والترويج لها ما استطاع من جهد وقوة. وفي المقابل أبدى حزما وصلابة واستماتة قل نظيرها في الدفاع عنها ضد الهجوم الذي تعرضت له من الخصوم الطبقيين والايديولوجيين من الطبقات المختلفة بما في ذلك أولئك المنتسبين للبرجوازية الصغرى المتذبذبة والتي كان لها تأثير سلبي على تشكل وعي الطبقة العاملة لذاتها طوال المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر، كما كان الشأن مع دوهرينج، لاسال، وباكونين، وآخرين. وله يعود الفضل في إكمال ونشر مخطوطات الكتاب الثاني والثالث “لرأس المال”. وفي هذه المرحلة بالذات توصل إنجلس إلى استنتاجات وخلاصات جديدة كل الجدة وذات أهمية تاريخية وقيمة علمية كبيرة حول تكوين وتطور الأشكال التاريخية لمؤسسات الأسرة والملكية والدولة مستعرضا، في أناقة وإحكام، الاساس الاقتصادي لسيروراتها وتحولاتها حسب المراحل والأحقاب التاريخية الأساسية المختلفة.وهي الفترة نفسها التي شهدت ذاك الاشتباك الفكري الرصين والعميق ااذي خاضه مع الفلسفة الكلاسيكية الالمانية حيث قدم تشريحا دقيقا ووافيا لأبرز أنساق ومنعرجات هذه الأخيرة، وبالموازاة مع ذلك حرص على دراسة مختلف التطورات والسيرورات التي يشهدها العالم في المجتمع الانساني وفي الطبيعة من منظور ماركسي نقدي وجذري. فقد قدم رؤية جديدة لمميزات وخصائص التطور وسط كل من المجتمع والطبيعة، مشيرا إلى الاختلاف الجوهري الموجود بين التطور في الطبيعة والتطور في المجتمع ؛ “فإذا كانت قوانين النمو والتطور في الطبيعة تعمل من تلقاء نفسها وبطريقة لاإرادية، فالأمر لا يعود كذلك حينما يتعلق الامر بتاريخ المجتمع الانساني حيث تكون القوانين محصلة التفاعل المعقد بين عدد لا محدود من الميولات والنوايا وتوجهات الاشخاص وأفعالهم. إن التاريخ يقول انجلس هو المحصلة العامة للنشاط الانساني. هو النتيجة العامة للإرادات العديدة المتحركة في اتجاهات متباينة وتداعياتها المختلفة على العالم الخارجي من حولها. (34) (لودفيغ.ف : 73-76). في هذه المرحلة أيضا درس إنجلس بتفصيل عدد من المسائل المهمة المتعلقة بالمادية التاريخية وخاصة ما يتعلق بشكل وماهية العلاقة الجدلية بين البنية التحتية والبنية الفوقية. وقد خلص الى أن علاقات الانتاج، نمط الانتاج (البنية التحتية)، تمارس، في نهاية المطاف، تأثيرا حاسما على الدولة والايديولوجيا وأشكال الوعي الاجتماعي، موضحا في الوقت نفسه التأثير الكبير الذي يكون لهذه العناصر بعد ذلك (البنية الفوقية) على الاقتصاد. انتهى

احمد بنعمر: طنجة – 5 غشت 2023




(*) في عام 1841م التحق إنجلز بالجيش كمتطوع لمدة عام في فوج المدفعية في برلين، حيث خدم بكفاءة حتى أنّ أصدقاءه منحوه لقب “الجنرال” لجمعه بين الروح المرحة والمهذبة والشغوفاة بالحياة وطباع تتسم بالحدة.
والصرامة العنف عندما يلزم ذلك، ولاهتمامه وشغفه الكبيرين بالأمور والمعارف العسكرية … فكانت بنات ماركس وأصدقاءه ينادونه بـ”الجنرال”.
(**) – الحركة الشارتية أو الميثاقية، أول حركة للطبقة العاملة في إنجلترا، وأول حركة عمالية في التاريخ تطالب بالاقتراع العام.. استمرت من 1838 إلى 1850, وأصدرت صحيفة النجم الشمالي كأول جريدة عمالية. [الهامش 2 من (مقدمة إلى فريديريك إنجلز (المرجع (11). كورنو، المجلد 2؛ 187-183] (***) – Anabaptisme أنابابتيسية: مجموعات منشقة عن الكاثوليك والبروتيستانت ظهرت في أروبا في القرن 15 وخاصة في سويسرا وهولندا…، ترفض تعميد الأطفال وتدعو إلى إعادة تعميد كل من بلغ سن الرشد، تحرم ملكية الأرض، وتقاطع مؤسسات الدولة، والحياة الحديثة وتعتمد في عيشها على الوسائل التقليدية وعملها الخاص في إقطاعات وتعاونيات جماعية شبه مشاعية، تؤمن بالتسامح والسلام واللاسلطوية، ترفض الانضمام للجيش وتناهض الحروب.





المراجع المعتمدة:

1- FRIEDRICH ENGELS SA VIE.SON OEUVRES- Editions Du Progrés MOSCOU1976 (FE)
2- فريديريك إنجلز: لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، لايبزغ 1846 – كراسات ماركسية، سلامة كيلة، روافد.
3 – ف إنجلز و ك ماركس : العائلة المقدسة (1844-1845) ت: حنا عبود دار دمشق.
4 – إدموند ولسون : تاريخ الفكر الاشتراكي ؛ من فيكو إلي لينين. ت: يونس شاهد. آلمؤسسة العربية للدراسات والنشر.
5- أوغست كورنو: ماركس وإنجلز ؛حياتهما وأعمالهما،المجلد الأول،ت:محمد عيتاني نوفمبر،1971المكتبة الاشتراكية،
6- أوغست كورنو : ماركس وإنجلز ؛حياتهما وأعمالهما،المجلد الثاني، ت : جورج طرابشي،، دارالحقيقة، بيروت. ط 1. 1972.
7- أوغست كورنو : ماركس وإنجلز ؛حياتهما وأعمالهما،المجلد الثالث، ت: إلياس مرقص، دار الحقيقة، بيروت.ط1. 1974
8- أوغست كورنو : ماركس وإنجلز ؛حياتهما وأعمالهما،المجلد الرابع، ت: إلياس مرقص، دار الحقيقة، بيروت.ط1. 1975.7
9- لينين : فريديريك إنجلس ؛ حياته وآثاره، خريف 1895. دار التقدم، موسكو.
10 – تاريل كارفر : مقدمة قصيرة جدا؛ إنجلز ؛ ت:صفية مختار. مؤسسة هنداوي، سي إي سي. 2017.
11 – فريديريك إنجلز والاقتصاد السياسي، أبحاث يسارية، الحوار المتمدن.
12 – مريس عايق: ماذا يقول لنا إنجلز اليوم؟ in: https://aljumhuriya.net
13 – روب سيويل: فريديريك إنجلز؛ في ذكراه المئوية الثانية 27 نوفمبر 2020، أبحاث يسارية، الحوار المتمدن.
14 – مقدمة إلى: فريدريك إنجلز.. المُنظِّر والمناضل
التاريخ الأحد 5 أغسطس 2018 الناشر الناشر وحدة الترجمة – مركز الدراسات الاشتراكية
https://revsoc.me/revolutionary-experiences/38159/