في نقد التقاطعية بقلم عبد الله الحريف
عبد الله الحريف
في نقد التقاطعية
لم أجد في التقاطعية ما يمكن أن يثري النظرية الماركسية وممارستنا النضالية وبرنامجنا العام. بالعكس، فإن هذه النظرية المزعومة تساهم في زرع اللخبطة والغموض.
إذا كان المشكل الذي تطرحه التقاطعية هو النضال ضد الاستغلال الطبقي والاضطهاد الجنسي والعنصري وغيرهما والتمفصل بين الاستغلال الطبقي ومختلف أشكال الاضطهاد، فإنها مسألة ليست بديهية فحسب، بل مهمة رئيسية يطرحها النهج الديمقراطي على نفسه.
يطرح البعض التقاطعية للدفاع عن المرأة التي يعتبرون أنها مهمشة، بل حتى مضطهدة في النهج الديمقراطي. وهو زعم لا أساس له من الصحة.
وللتذكير، فإن نضال النهج الديمقراطي يندرج ضمن أربعة سيرورات مترابطة بشكل وثيق:
في أول سيرورة وهي بناء الحزب، نعطي أهمية خاصة لكل أشكال الاضطهاد:
– نظريا في أطروحاتنا من خلال التأكيد على ضرورة النضال، الآن وهنا، ضد كل أشكال الاضطهاد ونعتبر أن هذا النضال ليس ثانويا وليس مؤجلا إلى أجل غير مسمى. بالنسبة لنا، النضال ضد هذه الأشكال الاضطهاد يجب أن يتمفصل مع الصراع الطبقي ضد الرأسمالية. هذا النضال يجب أن يقوي الصراع الطبقي الذي بدوره يجب أن يعطي دفعة للنضال ضد كل أشكال الاضطهاد، في إطار علاقة تفاعل دائم. وذلك مع التأكيد على مركزية الصراع ضد الرأسمالية الذي يشكل أساس هويتنا ومبرر وجودنا كماركسيين.
– عمليا من خلال بناء هيئات متخصصة خاصة (القطاع النسائي، دائرة الأمازيغية…).
إضافة لما سبق، فإن السيرورة الثانية تتمثل في الانخراط وتوسيع وتنويع التنظيمات الذاتية المستقلة للجماهير الشعبية، وخاصة الطبقات الكادحة، وتفرض علينا احترام استقلاليتها والدفاع، بشكل ديمقراطي، على تصورنا الخاص داخلها لأنها مخترقة بالصراع الطبقي. ألا تشكل هذه التنظيمات فضاء حيث يمكن أن تنتظم وتناضل ضحايا هذه الأشكال من الاضطهاد؟
ويحتل النضال ضد كل أشكال الاضطهاد أهمية بالغة في السيرورة الرابعة التي تتعلق بالمساهمة الفعالة في بناء أممية ماركسية.
صحيح أن النهج الديمقراطي، وعلى غرار باقي قوى اليسار، لم يستطع، رغم المجهودات المبذولة، أن يوسع تواجده وسط النساء. ألم يكن من الأفضل وعوض اعتبار أن الحل هو التقاطعية (أي نقل قضايا تعيشها المجتمعات الغربية والولايات المتحدة فيما يتعلق بوضعية المراة الملونة)، القيام بمجهود جدي لتحليل هذا الواقع قصد إيجاد الحلول للإكراهات التي تواجه انخراط المرأة، بقوة وكثافة، في العمل السياسي، بشكل عام، وفي حزبنا، بشكل خاص، وسبل تجاوزها؟
إن الخطأ الأساسي للتقاطعية يتمثل في وضعها مفهوم الاستغلال الطبقي ومفهوم الاضطهاد في نفس المستوى، بينما هما من طبيعة مختلفة نوعيا: ففي حين أن مفهوم الاستغلال يوجد في قلب المفهوم الماركسي لنمط الانتاج ويميز مرحلة طويلة من تطور الانسانية (مرحلة هيمنة نمط الانتاج الرأسمالي) ويهم البشرية جمعاء ويهتم بالأساس المادي لإنتاج وإعادة إنتاج حياة الإنسان، فإن مفهوم الاضطهاد يتعلق ب:
– ترسبات أنماط إنتاج سابقة (الباطريركا، العبودية، القبلية…).
– عناصر من البنية الفوقية (الدين، اللغة، الايدولوجيا…).
إن الرأسمالية، في نفس الآن، الذي تهدم الأسس المادية لأنماط الانتاج السابقة وأشكال الاضطهاد المرتبطة بها، تستفيد من هذه الأشكال، أساسا، لتقسيم وبالتالي إضعاف الطبقة العاملة. وهو ما يمكنها ليس من تكثيف الاستغلال فحسب، بل، وهذا هو الهدف الأعمق والأخطر، من زرع الغموض وسط الطبقة العاملة وعموم الكادحين ومحاولة إبعادها عن الصراع الأساسي ضد الرأسمالية.
ما كتبته أعلاه لا يعني أن الصراع الطبقي، في ظرف معين، لا يمكن أن يتجسد في شكل صراع ضد شكل من أشكال الاضطهاد. لكن الصراع الطبقي ضد الرأسمالية يستمر في حفر طريقه ويشكل بوصلتنا.
في الحقيقة، التقاطعية هي شكل “ذكي” لما بعد الحداثة (ما بعد الماركسية) التي لا تنفي الصراع الطبقي، لكن تضعه في نفس مستوى مختلف أشكال الاضطهاد.
إن هذا الانحراف ليس بسيطا لأنه ينفي المادية التاريخية التي ترتكز إلى أن، منذ بروز المجتمعات الطبقية، والصراع الطبقي، في إطار نمط إنتاج محدد،هو محرك التاريخ. هذا الصراع الذي يؤدي، في إطار سيرورة طويلة وعبر صدف متعددة، إلى تعويض نمط إنتاج بنمط إنتاج أرقى. بالنسبة لما بعد الحداثة، التاريخ نتيجة الصدفة الناتجة عن نضالات الحركات الاجتماعية المختلفة( الحركة النسائية، الحركات الهوياتية…). والنتيجة هي أن الحزب المستقل للطبقة العاملة والجبهة الشعبية كأدوات للنضال السياسي والنقابة كأداة للنضال الاقتصادي وأول مدرسة للصراع الطبقي ضد الرأسمالية أصبحت متجاوزة وأن الحزب أصبح مجرد تنسيق للحركات الاجتماعية وليس هيئة أركان الطبقة العاملة وعموم الكادحين الذي عليه بلورة الاستراتيجية والتكتيك والشعارات والبرامج…
إن تجربة إيفو موراليس في بوليفيا التي انبنت على حركة الشعوب الاصلية لم تستطع أن تصمد في مواجهة الامبريالية، بينما استطاعت كوبا التي ارتكزت على بناء حزب الطبقة العاملة وتحالفه مع الفلاحين، رغم 60 سنة من الحصار، أن تقاوم هجومات ومؤامرات الامبريالية الامريكية. ونفس الشيء بالنسبة للشعبوية اليسارية التي تمثلها بوديموس وفرانس أنسوميز، ناهيك عن سيريزا، حيث تجلت حدود استراتيجية تتجاهل الصراع ضد الرأسمالية والدور الأساسي للطبقة العاملة في هذا الصراع وأن هذه الشعبوية اليسارية لا تتعدى كونها إصلاحية-اجتماعية أكثر راديكالية من الديمقراطية-الاجتماعية.
والغريب في الأمر أنه في الوقت الذي تصعد الرأسمالية، إلى مستويات غير مسبوقة، استغلالها للطبقات العاملة، يحاول البعض التقليل من الأهمية القصوى لهذا الاستغلال بوضعه في نفس مستوى أشكال من الاستغلال/الاضطهاد مهمة لكنها سائرة نحو الزوال بفعل دينامية الرأسمالية.
هكذا، فإن الرأسمالية نفسها، من خلال استغلالها للطبقة العاملة الذي يزداد توحشا وحربها الطبقية الشرسة ضد الطبقات الشعبية، تذكرنا بمركزية وحيوية وراهنية الصراع الطبقي ضدها وضرورة بناء أدوات هذا الصراع بدون ترجج أوتأخر أو إرتخاء.
يناير 2020