بوبكر الخمليشي: المناضل والإنسان

بوبكر الخمليشي: المناضل والإنسان

الرفيق بوبكر الخمليشي
المناضل والإنسان

boubker-1 بوبكر الخمليشي: المناضل والإنسان

يمر المناضل المحبوب بوبكر الخمليشي بظروف صحية ألزمته الفراش لمدة طويلة، حجبت عنا ديناميته الاستثنائية المعهودة… وقد استبشرنا خيرا بعدما عاد مؤخرا إلى الديار بعد فترة استشفائية بإحدى مصحات إسبانيا… وهو ما يذكي اطمئناننا واملنا في قرب اجتيازه لمخنته بسلام…

واعترافا بجميل وفضل هذا المناضل/الإنسان على أجيال متتالية من الكوادرالسياسية والمدنية الذين اغتنت بهم الساحة السياسية والنقابية والحقوقية والثقافية والتنموية بالمغرب عامة وبشماله خاصة… فحري بنا ـ نحن من تعرفنا على الرجل عن قرب ـ أن نبوح ولو بنزر قليل مما اسداه هذا المناضل الصادق من سخاء عطائه وتضحياته دفاعا عن مضطهدي وكادحي هذا الوطن …وما بدل تبديلا، وهوفي وضعه الصحي الحالي، لم ولن يمل من متابعة مستجدات الأحداث السياسية عبرالعالم متفائلا ومبتهجا بما ابانت عنه المقاومة الفلسطينية من صمود أسطوري وما أبدعته من ادوات المقاومة لقهر غطرسة وهمجية الصهاينة وحلفائهم الذين عاثوا في غزة العزة إبادة للبشر وللشجر وللحجر… بنفس الحرص الذي يبديه في متابعة مسار النضال الجماعيري عندنا والذي ما فتئ يتبلورعبر تنظيمات الدفاع الذاتي كما جسدتها تنسيقيات التعليم في الآونة الأخيرة وغيرها من الحركات الاحتجاجية بمختلف المواقع…

ونحن تقترب شيئا فشيئا من منطقة البوح هذه، علينا مغالبة ثقل سؤال البداية: فعن أي خمليشي نتحدث يا ترى؟

الخمليشي السياسي: الذي تشبع منذ البدء بقيم التضحية والوفاء والتخندق مع مسحوقي بني جلدته باحثا عن صيغ كفاحية لمواجهة سلطة القهر والاستغلال واستبدالهما بتباشيرالأمل والطموح بغد مشرق وضاء، متسلحا في ذلك بثقافة سياسية يسارية بديلة ذات المنبع التحرري في العالم، في مقدمتها تجربة الثورة الريفية بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي واحمد أخريرو… وكذا في تراث أهم تعبيرات الحركة الماركسية اللينينية المغربية (منظمة إلى الأمام) التي اندرج في هياكلها منذ سنة 1973 حاملا هما امميا جعله، منذ أن كان طالبا، يجوب مواقع متباعدة ضمن الدائرة الأوروبية مناصرا لقضايا الشعوب والحركات التواقة إلى التحرر والانعتاق عبر بقاع المعمور، بذات التفاني الذي يبديه في دفاعه عن حق أبناء وطنه في مغرب آخر ينعم فيه الجميع بالحرية الديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية… مسترخصا في ذلك حياته وشبابه وحريته التي حرم منها لمدة 6 سنوات من محموع 20 التي حكم بها غداة اعتقاله سنة 1985 ضمن مجموعة 26… ومن دون أن يغمض له جفن داخل دهاليز “قلعة المنفى”، تابع الخمليشي مقاومته لعنف هذه المؤسسة ورتابتها محولا إياها إلى مقام يؤرخ لتقييم التجربة السياسية وإعادة بناء صرح منظمته في سياق ما تلقته من ضربات متلاحقة داخليا وخارجيا… تلك كانت البوادر الأولى لانبثاق حزب النهج الديمقراطي كاستمرارية لخط المنظمة من أجل الاشتراكية، والذي كان بوبكر أحد أعمدته التاسيسية بتاريخ 15 أبريل 1995، والمساهمين في إطلاق جريدته شتنبر 1995. ليستأنف صاحبنا رفقة كوكبة من المناضلين: محمد الجعايدي، محمد موحا… وآخرين… مشوار التعبئة وتوسيع التنظيم وتحصينه باهم مواقع الشمال، وقدموا في ذلك أنبل التضحيات على امتداد عقود من الزمن حتى اضحى من غير المستصاغ الحديث عن التنيظيمات الماركسية واليسارية عموما بالشمال دون ذكر تلك الأسماء السالفة…

الخمليشي النقابي: من دون الحديث عن دوره المبكر في الاتحاد الوطني للمهندسين، وبحكم ما جبل عليه من صفات التواضع والايثار ونكران الذات وتشبعه بالقيم الإنسانية النبيلة وحبه للبسطاء والتقرب من همومهم، فقد حضي الخمليشي بمكانة خاصة لدى مختلف الفئات العمالية سواء أثناء تجربته العملية الأولى ببعض مدن الشمال ومدن المركز قبل استقراره بطنجة… جاهدا في ترسيخ الصيغ النضالية المثلى للتجذر وسط هؤلاء (العمال)، محسنا الإنصات لمعاناتهم اليومية، متخذا من التنظيم النقابي (ا م ش) الأداة الكفيلة بتأطيرهم وتثقيفهم، مما أعاد لهذه المنظمة النقابية وهجها وإشعاعها الملفت بمدينة طنجة وبمدن الشمال عموما…

لم ينزو الرفيق بوبكر فيما يمليه عليه موقعه ـ كمهندس فلاحي ـ ضمن أسوار المكاتب والمكيفات الهوائية، بقدر ما سعى دائما إلى التموقع في مقدمة الصراع الميداني الذي تخوضه الشغيلة المغربية ضد الاستغلال والقهر بكل تمظهراته، مؤمنا بدوره ـ كمثقف عضوي ـ مساهما في بلورة الوعي الطبقي لدى هؤلاء الكادحين، مترجما معاناتهم ومآسيهم إلى مبادرات واقعية تستهدف تحطيم قيود الاستغلال والنهب مقدمة لإقرار الديمقراطية الحقة والمساواة والعدالة الاجتماعية، ضمن مغرب آخر تنتفي فيه مظاهر الاستغلال والفوارق الطبقية… فانغمس صاحبنا كليا في التأطيروالتوجيه لتبيان الدور الطلائعي للطبقة العاملة الواعية بذاتها في مشروع التغييرالمجتمعي… ولم يكتف في ذلك بقطاع عمالي دون آخر، وإنما عمد رفقة أخرين، إلى خلق أنوية عمالية باهم مواقع الشمال من طنجة والقصر الكبير والعرائش إلى الحسيمة مرورا بتطوان ونواحيها… وهي الجهة التي تفرغ لها الخمليشي كلية، بعد مغادرته للسجن سنة 1991 مستأنفا رحلة الألف ميل بقيادة شبابية نوعية… غير ان القيمة الحقيقية التي أضفاها الخمليشي على العمل النقابي والجماهيري بالمنطقة: اهتمامه وانشغاله الدائم بقضية المراة عموما والمرأة العاملة تحديدا… منكبا على تاطيرها وإبراز قدراتها ومهاراتها في التنظيم وقيادة المعارك البطولية إسوة برفيقها الرجل.. مما جعلها تتبوء موقعها المتقدم في عمل “شبكة الجمعيات المدنية بالشمال” كما في (قاعدتها الخلفية) “شبكة الضفتين”، وغدت بذلك المرأة بتنظيماتها المدنية المتقدمة عنوانا بارزا للمشهد النضالي على امتداد شمال المغرب…

الخمليشي الجمعوي المدني: ظل الخمليشي مهووسا بالعمل الجمعوي وسط الشباب على أرضية علاقات نضالية قاعدية بديلة قل نظيرها في التنظيمات اليعقوبية، مبادرا في تأسيس عدة إطارات تتقاطع عند هدف الحماية والنهوض بأوضاع حقوق الإنسان بالمنطقة، عبر فسح المجال أمام الطاقات الشبابية للانخراط الواسع في بناء تنظيمات الدفاع الذاتي في مختلف المرافق المجتمعية بما فيها الأحياء الشعبية، كإبداع غير مسبوق في مسار العمل الجماهيري، الرامي إلى إبراز مجتمع مدني فعلي بمعايير ومواصفات السلطة النقيضة لسلطة الدولة وكرافعة نضالية في قضايا: حقوق الإنسان ـ المرأة ـ الهجرة ـ الأمازيغية ـ البطالة ـ البيئة ـ الإعلام والتواصل… وهي المجالات التي آثر الخمليشي ـ حفاظا على لحمتها ـ خلق شبكة جمعوية محكمة التنظيم بإستراتيجية تطوير العمل الجمعوي المحلي والارتقاء به لمعانقة القضايا البشرية الكبرى العابرة للحدود، وهي الرؤية التي أثمرت ـ بعد مجهود متواصل ـ (شبكة الجمعيات المدنية بالضفتين: جنوب إسبانيا/الأندلس وشمال المغرب) لتنسيق العمل فيما بين تنظيماتهما بناء على خلاصات اللقاء الثاني بين القارات من أجل الإنسانية وضد الليبرالية الجديدة المنظم ب EL INDIANO صيف 1997) وكان للخمليشي ورفيقه الراحل أغوسطين AGUSTINE الفضل الكبير في إبداع هذه الآلية التنظيمية المتقدمة في التواصل والتلاقح بين جارين يلفهما القلق والانزعاج، الواحد إزاء الآخر، بفعل ترسبات سياسية وعسكرية حجبت كل علامة خصبة في ذاكرتهما المشتركة بأبعادها : الثقافية والتنموية والحضارية والإنسانية… وهي المهمة التي اضطلعت بالكشف عنها “شبكة جمعيات الضفتين “عبر لقاءاتهما المتتالية، (قاديس 6/7/8 نونبر 1998 ـ الحسيمة: 4/5/ دجنبر 1999 وانبثق عنها تأسيس “شبكة جمعيات الشمال للتنمية واالتضامن” كدعامة تنظيمية محلية لتتبع وبلورة خلاصات شبكة الضفتين ـ بطنجة 7/8/9 دجمبر 2001). لتتوالى بعدها لقاءات ومبادرات نوعية وفق تخصصات موضوعاتية thématiques لمكونات الشبكة في الضفتين… وكلها مبادرات ومشاريع تسترشد بذات الاستراتيجية التي تتغيا تعبيد طريق شعوب الضفتين في تشييد عالم بديل تسوده الديمقراطية الحقيقية والمساواة والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، والمساهمة في إماطة اللثام عن الجوهر الإنساني والحضاري الذي يجمع الشعبين ضمن قيم التضامن والتعاون، باعتبار ذلك مدخلا رئيسيا لإذابة جليد القلق والتوتر الذي خيم على علاقات الضفتين منذ عقود… ولازالت دينامية هذا التشبيك تتطور وتتمدد إلى اليوم… رغم كل ما اعترضتها من مثبطات وعوائق ذاتية وموضوعية هددت وجودها، لولا حنكة ومراس القائمين على تدبير أمورها…

الخمليشي صديق المهاجرين: في محورالبطالة والهجرة وحقوق الإنسان عُرف عن الخمليشي أنه الرفيق الوفي لمهاجري جنوب الصحراء، محاولا ـ منذ استفحال هذه الظاهرة ـ الاعتناء بأمورهم وإيوائهم كبشر بكامل الحقوق ضدا على سياسة الإقصاء والاضطهاد التي ظلت تستهدفهم عبر حملات قمعية ومطاردات تنال من حرية تنقلهم ببلدنا كمنطقة عبور نحو الضفة الأخرى، فظل الخمليشي ملتحما بهم بمختلف مواقع تخفيهم/ بنيونس ـ الرينكون وكوروكو وفي عمق غابات ومغارات الشمال، مساهما في توفير شروط وظروف إنسانية لإقامتهم وتشجيعهم على البوح إعلاميا ـ للعالم أجمع ـ بحقيقة أوضاعهم ومعاناتهم الإنسانية.

الخمليشي الأمازيغي: كان الخمليشي ضمن أوائل مناضلي اليسار الماركسي الذي آمن واقتنع باهمية النضال الأمازيغي من اجل إثبات أصالة هوية المغرب، وفسح المجال امام الشخصية الأمازيغية للتعبير عن ذاتها وبذاتها وجعل النضال من أجل مصالحة المغرب مع ذاته متمفصلا وداعما للصراع المحتدم بين طبقات المجتمع… وهو ما يفرض ـ حسبه ـ النضال على واجهتين متوازيتين: السياسية والثقافية… (تماما كما ميز في فترات الجمر والرصاص بين العمل السياسي السري والعمل النقابي العلني) ولترجمة هذه القناعة الراسخة بادر الخمليشي ضمن مجموعة من الكفاءات والفعاليات المحلية، إلى تاسيس جمعية ماسينسا الثقافية بطنجة في 28 فبراير 1992 تلك الجمعية التي اضحت على امتداد 33 سنة من القلاع المحصنة للنضال الأمازيغي بالمغرب ونموذجا لتكريس المبادئ الراقية والتعايش الرائع بين مختلف الحساسيات والتعبيرات الملتحمة حول هدف: الحماية والنهوض بالامازيغية في مختلف مجالات الحياة، وظل الخمليشي على مدار هذه المدة الزمنية حريصا على دعم ديمومة الجمعية واستمرارها، همه الوحيد في ذلك بقاء ماسينيسا جذوة ومعلمة ثقافية بشمال المغرب تسع لكل الديمقراطيين، متفانيا في تطوير ادوات اشتغالها كمكون اساسي للحركة الأمازيغية المغربية، بأفق مغاير لكل محاولة التدجين والتطويع المخزنيين الهادف إلى إخماد الإرث النضالي لهذه الحركة وتذويبها نهائيا في دواليبه الاحتوائبية…

ورغم وضعه الصحي، ظل الخمليشي على الدوام قريبا من أطرهذه الجمعية مستجيبا لكل نداءاتهم، دون أن يخطئ أي موعد مع انشطتها النوعية إلا بعذر قاهر، ذلك ما نتمنى لرفيقنا الخمليشي إثباته هذه المرة، وجمعية ماسينيسا على ابواب احتفالها بأسوكاس اماينو 2974، في اول إطلالة رسمية لرأس السنة الأمازيغية كعيد وطني وعطلة رسمية مؤدى عنها. لكن قبل هذا وذاك أملنا أن يستعيد رفيقنا الغالي كامل لياقته الصحية لنراه مفعما بعنفوان شبابه الذي لا ينضب.

محمد الزياني
الحسيمة في 25/12/2023

دعوة إلى النضال الوحدوي لدعم وحشد التضامن الشعبي للنضالات الشعبية والعمالية