أربعون سنة على انتفاضة يناير 1984 (1984-2024)
المجد والخلود لشهيدات وشهداء انتفاضة يناير 1984 ولكافة شهداء الشعب المغربي
أول معتقل إثر انتفاضة مراكش (يوم 6 يناير 1984)
بحلول يناير 2024 تكون قد مرت أربعون سنة على الانتفاضة المجيدة التي شهدها المغرب في يناير 1984 والتي لا يمكن للمهتمين بتاريخ المغرب المعاصر، التطرق لما عرفته البلاد من أحداث تاريخية وتحولات دون استحضار تلك الانتفاضة وما كانت عليه أحوال البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا في ذلك الوقت، والأسباب المباشرة والغير مباشرة الكامنة وراءها، إلى جانب ما عكسته الانتفاضة من سخط شعبي جراء ما تعيشه الجماهير من أوضاع مزرية على كل المستويات من جهة، إضافة إلى ما عبرت عنه بشكل سياسي، بعيد عن كل عفوية، من تطلعات شعبية نحو الديمقراطية والعيش الكريم من جهة أخرى؛ كما لا يمكنهم أيضا التطرق لهذا الموضوع دون وقوفهم كذلك عند التعامل الفريد، المنفعل جدا، للنظام السياسي مع الانتفاضة، كما ترجمه خطاب الحسن الثاني في 22 يناير 1984 وما تلا ذلك من إجراءات قمعية وسياسية واجتماعية، تعد فعلا دلالات قاطعة على ما يسمى بالاستثناء المغربي.
كذلك؛ لا يمكن يكن التطرق لانتفاضة يناير 1984 دون التأشير على موقع اندلاعها، مدينة مراكش، التي تم العمل، منذ ذلك الوقت على مسخها وتحويلها من مربط للعزة والكرامة، وحافظة للتاريخ المشرق لشعبنا، وحاضنة للإبداع الثقافي والفني، ومدينة الأجيال المتعاقبة من المناضلات والمناضلين والشهيدات والشهداء، إلى مجرد وجهة سياحية، رخيصة تافهة، ووكر مفتوح لمختلف أشكال الدعارة وتجارة الجنس على المستوى العالمي بشكل مدل لأهل المدينة ولعموم الشعب المغربي.
كما لا يمكن التطرق لانتفاضة يناير 1984 دون إبداء نفس الملاحظة أعلاه بخصوص مناطق المغرب الأخرى، خاصة في الشمال والريف، التي شاركت بقوة في انتفاضة يناير 1984، وما كانت تعيشه، ولا تزال، من تهميش متواصل منذ سنة 1958 تاريخ انتفاضة الريف الأولى بقيادة المناضل سالم أمزيان، كعقاب مقصود ضدها من طرف المخزن؛ فهي المناطق التي تم كذلك العمل على طمس أمجادها في رفع لواء التحرر من الاستعمار والمقاومة ذات الصيت العاملي بقيادة المناضل الكبير، فخر المغاربة، المجاهد محمد بنعبد الكريم الخطابي، وتحويلها إلى مجال ترابي لإنتاج القنب الهندي فقط والمتاجرة في مختلف أنواع المخدرات مثلما أصبحت مشهورة بذلك على المستوى العالمي.
هذا فيما يخص المناطق التي اندلعت منها وامتدت إليها انتفاضة يناير 1984؛ أما بالنسبة للأوضاع العامة التي كانت تشهدها البلاد نهاية سبعينات القرن الماضي وبداية عقد الثمانينات، فيمكن اعتبار ما كانت تشهده، دون مجازفة، حالة استثناء فعلية بالمفهوم الأمني، على المستوى السياسي والحقوقي وعلى مستوى الحريات الدميقراطية بشكل عام؛ أما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، فقد كانت حالة البلاد صعبة للغاية تظافرت خلالها واجتمعت عدة عوامل سلبية.
ففضلا عن كون الفترة الممتدة من سنة 1981 إلى 1984، تعد ضمن أقسى فترات الجفاف الإحدى عشر بالمغرب التي عرفها القرن الماضي، وفضلا عما تستهلكه بنيات المخزن الطفيلية والبيروقراطية من أموال طائلة تُقتطع من الميزانية العامة للدولة، وفضلا عن خدمة الدين وثقل المديونية الخارجية التي تضاعفت أكثر من 13 مرة في ظرف ثماني سنوات ما بين 1972 و1980 ، وفضلا عن الانحدار المتواصل والحاد للنمو االقتصادي الذي انتقل من 6,8 أواخر سنة 1977 إلى 0,6 سنة 1984؛ وفضلا عن عديد من الإكراهات السلبية الموضوعية الأخرى كانخفاض قيمة الفوسفاط في السوق العالمي خلال تلك الفترة والتي فاقمت العجز في الميزان التجاري وغير ذلك من الإكراهات؛ وفضلا عن كل هذا وغيره، لم يتردد المسؤولون في مفاقمة الإنفاق العسكري وتمويل مشاريع دون جدوى اقتصادية تذكر دون الحديث عن مظاهر التبذير المخزني الكثيرة والمتعددة.
في هذا الوضع بالذات، الذي من خلال استعراض معالمه يمكن تشبيهه ببرميل بارود قابل للانفجار في أية لحظة، بالنظر لما يفاقمه من عجز حاد على المستوى الاجتماعي، لم يولي المسؤولون أية أهمية تذكر للمراجعات والإصالحات التي غَدَت ضرورية ومستعجلة، أقلها وأبسطها كلفة، إنجاز إصلاح ضريبي يرفع بشكل تدريجي من مداخيل خزينة الدولة ويحقق نوعا من العدالة الضريبية، كما كان يوصي بذلك في كل المناسبات أغلب الخبراء الاقتصاديين، إلى غير ذلك من الإلصالحات البسيطة؛ بل تم العمل على تقريب برميل البارود أكثر فأكثر وبشكل متعجرف من شرارات الفساد وسوء التسيير المخزني وإنهاك المواطنات والمواطنين بشكل أعمى، من خلال الإجراءات التقشفية المملاة من طرف صندوق النقد الدولي (التقليص من التوظيف العمومي عبر إلغاء آلاف المناصب المالية، خفض ميزانية المقاصة…) إلى جانب إجراءات عدوانية أخرى كان لها أثر سلبي حاد على القدرة الشرائية والقوت اليومي لعموم المواطنين، كرفع الضريبة على القيمة املضافة، والسماح بارتفاع الأسعار بنسب مئوية عالية لعدد من المواد الاستهلاكية الحيوية كالسكر والزبدة والمحروقات وغيرها… ثم لتتوج هذه العدوانية وهذا الضغط كله بفرض رسوم جديدة على التلاميذ والطلبة للتسجيل في امتحان الباكالوريا وفي الجامعة.
لقد شكل ما تمت الإشارة إليه أعلاه الأسباب العميقة لانتفاضة يناير 1984، بما في ذلك الأسباب المباشرة لاندلاع ما عرفته الانتفاضة من أحداث؛ كما عرفت كذلك تأطيرا ميدانيا ساهم فيه الطلبة والتلاميذ بشكل كبير، الذين كانوا مؤطرين في إطار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وفي إطار لجان العمل الثقافي في عدد هام من ثانويات مدينة مراكش وفي بعض الجمعيات والأندية الأخرى، كما ساهمت في ذلك بعض الأنوية الثورية التي كان لعملها أثر محسوس على مستوى مدينة مراكش منذ بداية الثمانينات؛ وهو ما ساهم في عدم جنوح الانتفاضة أو انفالتها، خاصة في مدينة مراكش، نحو العنف أو النهب والتخريب، بل كان العمل على تأطيرها تنظيميا وسياسيا؛
ما ميزها باحتضان شعبي واضح وكبير، وبشعارات اجتماعية وسياسية ذات حمولة شعبية، تقدمية، دميقراطية وتحررية؛ وما مكن كذلك من إعطاء نفس طويل للانتفاضة رغم ما واجهته من قمع واعتقالات.
ورغم ضيق الحيز للتطرق لموضوع انتفاضة مراكش في يناير 1984، التي ألتزم شخصيا بالعودة إليه بشكل مفصل أكثر، لابد من الوقوف ولو سريعا على ردود أفعال المخزن التي تجاوزت كل الحدود، بما في ذلك إطلاق النار على المتظاهرين في مناطق الريف والشمال، والذي تم لحد الآن التكتم على أعدادهم، رغم تقدير ذلك بالمئات، حسب بعض وسائل الإعلام الأجنبية؛ وهي ردود أفعال كشفت ما وصل إليه النظام من تخبط وارتباك يدل عليه ذلك الإعلان الرسمي لتعرض البلاد لمؤامرة مركبة يقف وراءها كل من النظام الإيراني!؟ والخابرات الإسرائيلية!؟ ومنظمة إلى الأمام الماركسية اللينينية!؟ (وعسى القارئ أن يفهم شيء من هذه الخلطة المخزنية العجيبة).
وبالإضافة إلى ردود الأفعال المخزنية التي تمت إثارة بعضها فقط أعلاه، لابد من الإشارة إلى الحضيض الذي عبر عنه خطاب الملك في 22 يناير 1984، عبر نعت المواطنين بالأوباش وتهديد سكان الشمال بالقتل والعودة إلى ما عرفته المنطقة في أحداث الريف سنة 1958، وغير ذلك مما يندى له الجبين؛ كما لابد من الإشارة كذلك إلى حملة الانتقام الفظيعة والملاحقات التي ووجهت بها عموم الحركة التقدمية، وضمنها مجموعة مراكش التي توبعت بتهمة «المؤامرة بغاية قلب النظام»، وما تعرضت له من انتقام لا يصدقه الكثيرون، وسيظل يميز تاريخ القمع السياسي البغيض ببلادنا، وما تعرضت له عائلاتهم وأقاربهم، وجيل الثمانينات بشكل عام؛ ذلك الجيل الذي واصل نضاله ولا يزال، متحديا كل الضربات كطائر الفنيق، مستلهما صموده من تضحيات شعبه وقيم الكرامة والحرية والعدالة المتأصلة في ثقافته وتاريخه، ومواصلا مسيرته من أجل ذلك بكل إصرار.