جائحة كوفيد 19 وما بعدها ليست قضية اخلاق
جائحة كوفيد 19 وما بعدها ليست قضية اخلاق
كلما كان الامتحان عصيبا كلما استنهضت البشرية بكل مكوناتها الاجتماعية في الدول والقارات وسائل المقاومة والتوسل لأسباب النجاة واجتياز المحن المصيرية. كشفت جائحة كوفيد 19 نظرا لسرعة الانتشار وخطورة الإصابات وعدد الأرواح المزهقة، الأجوبة والاستعدادات لرد الخطر أو التقليل منه.
اتوقف هنا بشكل مركز جدا عند احد ردود الفعل او الجواب على انتشار الجائحة وهو المتمثل في اعتبارها امتحان رباني (اشترك في هذا الطرح المسلم السني والشيعي والمسيحي الكاتوليكي والبروتستاني واليهودي ..) واعتبر الفيروس كورونا كوف 2 او كوفيد 19 جندي hرسله الرب الى البشر لكي يفتك بالبعض ويعيد البقية عبر تذكيرهم بمكارم الأخلاق الى الايمان والتقوى. عندنا في المغرب وباقي بلدان العالم الاسلامي، ظهر الدعاة والوعاظ وهم ينشرون الدعوة للالتزام بمكارم الاخلاق ويبشرون شعوبهم بالفناء لان منهم من لا يلتزم بها. اصبح هؤلاء رسل وأنبياء يرافقون الجائحة وهي تحصد الارواح ويشيرون لمن اخذه جند الله بأنه زاغ، ومن نجى فهو في عداد الفئة الناجية… هنا تصبح الحاجة لمعرفة ما هي هذه الاخلاق؟ وطبعا فإن مفتاح الادراك والعلم بها يوجد في حوزة هؤلاء، وسيعملون على إرشاد أقوامهم.
في عرف هؤلاء الناس، فإن النجاة من هذه الجائحة او غيرها من الاوبئة المقبلة تكمن في التشبث بالنظرة الاخلاقية التي تميز الانسان وليس العقلانية. ان الانسان في اعتقاد هؤلاء الناس بات “مفتقرا لأسمى القيم ولذلك شيد عالما بئيسا غارقا في الجهل والظلم نازلا الى درك البهيمية…” كما كتب أحدهم.
طبعا عند اصحاب هذا الرأي، يحتل المجتمع الغربي قمة الترتيب في هذه المجتمعات البهيمية وتليها مجتمعات الشرق بدرجة ابتعادها عن مكارم الاخلاق كما يتصورها هؤلاء الناس. يتجاهل هؤلاء أن كوفيد 19 لم يترك اليوم بقعة من الكرة الارضية لم يكتسحها، لأن العالم اصبح قرية صغيرة، والبلدان مفتوحة على بعضها، تتداخل فيما بينها علاقات مادية ومعنوية، تتبادل الزيارات وتتوصل بالسلع أو تصدرها وهذه هي حامل وناقل العدوى. ينتشر الوباء بين الناس وهو في ذلك لا ينظر الى أخلاقهم بل يقف عند عتبة الاحترازات والموانع المادية المنصوبة امامه.
بالعودة لموضوع محاربة الجائحة هل الحل في الوضع الحالي والمقبل يكمن في الأخلاق؟ فما هي الاخلاق؟ وكيف يجدر بنا النظر اليها؟
الأخلاق هي جزء من البنية الفوقية لكل مجتمع، وبما ان المجتمعات البشرية هي ناتجة عن تطور تاريخي، فبنيتها الفوقية بدورها لها تاريخ. تولد الأفكار ومعها المواقف والقيم للإجابة على حاجة في المجتمع او للاستجابة لمطمح لفئة اجتماعية بعينها. هكذا يكون للأخلاق تاريخ، وهو من تاريخ المجتمعات التي اسسها او وضعها. هذا الامر يجعل الاخلاق نفسها نسبية؛ تولد وتموت مع موت الحاجة إليها هذا اولا، ثانيا، اخلاق مجتمع معين هي اخلاق الطبقة او الطبقات السائدة، وهي التي تؤسس للعلاقات الاجتماعية والفردية بين الناس وبين الناس ومحيطهم الطبيعي، وثالثا، ترتبط الأخلاق بالعلاقة الاساسية في المجتمع الطبقي وهي قضية ملكية وسائل الانتاج؛ فالأخلاق تهتم بهذه الملكية سواء بتسويغ التشريع والبنية القانونية، او بإنتاج مجموعة قيم تعلي شان هذه الملكية تشرعن انتاجها وتحرم المس بها وبريعها ومردودها، إنها بكلمة، تربي المواطن على مسلكيات تجاه هذه الملكية وأربابها ومن يحرسها ويخدمها.
على عكس هذه النظرة التاريخية والطبقية للأخلاق، يعتقد اصحاب النظرة المثالية الميتافيزيقية للاخلاق، أن هناك قيم مؤسسة تتسامى على التاريخ، وعلى الارضية الاجتماعية، فيتكلمون عن الجوهر الانساني وعن الظلم …وسنكتفي هنا بالوقوف عند هذين النموذجين لاهميتهما في نظريات المثاليين.
فالادعاء بأن هناك جوهر انساني يتعلق بالإنسان الفرد، طرح تفنده المعطيات المادية؛ فالانسان كائن اجتماعي وبذلك يصبح الكلام عن جوهر يتلبسه كلام لا أساس له.
في الكثير من الانتاجات الفكرية الاكاديمية والأبحاث التي تناولت النشاط الانساني هناك دراسات تناولت الانسان من خلال عدة ابعاد كل واحد منها تعتبره جوهريا في تحديد طبيعة هذا الانسان. اصبحت هذه الابعاد في غالبية هذه الدراسات عبارة عن جواهر تمكن من تحليل وفهم طبيعة الانسان. وفي هذا الاطار نشير الى احد نماذج هذه المدارس التي نظرت الى الانسان ككائن له جوهر ديني حيث اجتهد فيورباخ في اذابته في جوهر انساني ملازما لهذا الانسان الفرد المنعزل على حد قول ماركس في اطروحاته حول فيورباخ. هذا المنحى يتم تطويره اليوم الى اعتبار الانسان المعاصر انسان العصر الحديث الغارق في لجة الاكتشافات العلمية وتطبيقاتها التكنولوجية ليصبح ذا ابعاد متعددة قد يكون البعد الديني احدها، لكن هناك ابعاد اخرى وهي الجنس والدين والعرق واللون…فكل بعد من هذه الابعاد مأخوذ لوحده او ضمن مجموعة من تلك الابعاد، كاف ليحدد جوهر هذا الانسان ويفسر لنا وعيه وتصرفاته وأيضا استعداداته للتجاوب مع المحفزات او الدوافع الخارجية مثله مثل كلب بافلوف…
في رد حاسم على هذه النظرة التجزيئية المثالية وخاصة الوضعية قديمها وحديثها كان للمادية الجدلية رأي مخالف تماما للإنسان باعتباره نتاج تاريخه، أنها رأت ألا وجود للإنسان المجرد المعزول في جزيرة –على شاكلة روبنسون كروزوييه (Robinson Crusoé)- إن الانسان كائن اجتماعي، وهو في “حقيقته مجموع العلاقات الاجتماعية” (انظر الاطروحة السادسة لماركس حول فيورباخ) فالإنسان التاريخي الموجود في علاقات اجتماعية ينتمي الى فئة اجتماعية تربطها مصالح وتفرقها اخرى. هذه العلاقات تتحدد بطبيعة الارتباط مع وسائل الانتاج، هل هذا الإنسان يملك وسائل الانتاج ام لا يملكها؟ وإذا كان لا يملكها فكيف يعيش؟ ما هو مصدر عيشه؟ هذه هي الطريقة المادية الملموسة لكي نتعرف على هذا الشخص وعلى المسار الذي يحدد وعيه في نهاية التحليل. ففي هذا الوجود الاجتماعي للشخص المعني نتعرف على انتمائه لفئة اجتماعية أو طبقة اجتماعية معينة، وهذا الانتماء الطبقي هو الذي سيحدد وعي وسلوك الفرد من خلال خصوصياته الشخصية سيحدد ايضا القيم التي يحمل او ينتج او يشارك غيره فيها.
أما موضوع الظلم، فبدوره لا يمكننا التطرق له هكذا في المجرد؛ إنه مفهوم مرتبط بتطور تاريخي، فما كان عدلا عند مجموعة، أصبح ظلما في فترة تاريخية – الرق والعبودية- والى جانب كونه مفهوما تاريخيا فله بعد اجتماعي لا ينكره الا المستبدون والمسيطرون في المجتمع، لأنهم يحولون ظلمهم الى عدل ويصوغون الدساتير والمدونات القانونية والمساطر الجنائية لترسيم ظلمهم وصبغه بلون العدل. إن هذا الظلم الاجتماعي يتأسس بدوره على العلاقة بملكية وسائل الانتاج في مجتمع معين وفي مرحلة تاريخية محددة.
هكذا تصبح الدعوة الى مكارم الاخلاق دعوة لا تسمن ولا تغني تقدم المجتمع لأنها تقف على هامش الاساسات المحددة للبنية الفوقية للمجتمع.
“يعتقد صاحبنا المبشر بالأخلاق والبارد الدم سانتشو.. أن المسألة لا تتطلب سوى نمطاً مختلفاً من الأخلاق، وما يبدو أنه نظرة جديدة للحياة وإستنباط بضع أفكار ثابتة من الرأس، ليصبح الجميع سعداء وقادرين على التمتع بالحياة .” (الآيديولوجيا الألمانية، 5 : 419) (سانتشو الذي يتكلم عنه ماركس فهو صاحب دون كيشوط وهما شخصيتين في رواية سيرفانتيز “دون كيشوط دي لامانشا”)
فخطاب الاخلاق في محاربة كورونا يقع في خانة الاستغلال السياسي لجائحة كورونا ولحظة الفزع والهلع امام الموت الجماعي لاستقطاب الاتباع وتولي المسؤولية على ارواحهم وابقائهم في دائرة الاتباع والانصياع. اما الادعاء بان حل ما بعد كورونا هو العودة للأخلاق فهو دعوة غير ذات مفعول في الاسباب الحقيقية التي جعلت الجائحة تقتل عشرات الالاف من المواطنين في اكبر الدول الرأسمالية لأنها لم توفر المنظومة الصحية المطلوبة، إنها انظمة منعت الانسان المنتج للخيرات من ان يصبح هو المتحكم في السلطة في تلك البلدان منعته من ان يصبح المسؤول على بناء مجتمع متضامن تسود فيه الروح الجماعية، وتتقلص فيه الفردانية والاستحواذ على ملكية وسائل الانتاج وثروات العمل. ففي مثل هذه المجتمعات الجديدة ستظهر وتولد الاخلاق الجديدة بقيمها الايجابية وبمحرماتها وممنوعاتها ويتم التعريف بالظلم الاجتماعي في صيغة متجددة اكثر عدلا وحفظا لكرامة الانسان المنتج للخيرات.
التيتي الحبيب
14 أبريل 2020