موسميات في حقول العبودية العدو أمامكم والبحر وراءكم
موسميات في حقول العبودية العدو أمامكم والبحر وراءكم
يسعى هذا المقال إلى تصويب الأنظار نحو ما يجري في الجنوب الإسباني كقطب عالمي رائد في الزراعة المكثفة وهو نموذج إقتصادي نيوليبرالي في طور الإنتشار يتعاضم دوره ونفوذه إقليميا ودوليا بموازات مع أبشع صور الإستغلال لليد العاملة المغربية حيث فقط قطاع الفواكه الحمراء وحده يحقق 400 مليون دولار سنويا من الأرباح الخالصة في إقليم ويلفا ويشغل ما يناهز 20 ألف عاملة موسمية مغربية حسب المعطيات والإحصائيات الأخيرة.
إن العصر الذهبي للفضاءات الزراعية الكبرى يخفي وراءه الإستثمارات المضارباتية وتبييض الأموال لمقاولين إسبان ينهجون سلوك مافياوي بالمزيد من الإستحواد على الأراضي والمساحات الغبوية وبجلب يد عاملة مهاجرة تحت إكراهات الفقر والهشاشة الإجتماعية والإستقواء بالمؤسسات الرسمية والعمومية على مستوى القضاء أو تفتيشية وزارة الشغل… وبنهج المنافسة الغير الشرعية في الأسواق الأوروبية والعالمية. مافيات حقيقية تتاجر بالبشر وتعمل على إهانة شعوبنا تحت عنوان الشراكة الأوروبية والتعاون مع الجنوب، شراكة تفتقد للشفافية والضمانات القانونية والسند الشعبي…
تطوير العمل مع العاملات الموسميات وخلق التضامن مع قضاياهن هي مسألة ضمير عام و كرامة وطنية وإنحياز إلى صفوف الفئات المهمشة والبروليتاريا الفلاحية.
في كل موسم يسود التفاءل جيوب المستثمرين وتتعزز الأرباح.
في كل موسم تتعالى أصوات الضحايا وتشتد وطأة الحيف والإضطهاد.
صرخات الإغتصاب وصيحات التحرش الجنسي تعلو مع دقات أجراس ربح المضاربين وأرباب المصارف والمزارع.
كل موسم تتكرر الأحداث وتتزايد الحالات ويتوسع التضامن مع الضحايا.
في كل موسم يتحالف الشركاء ويجددون التهديد.
في كل موسم يكبر العصيان وتتزايد الشرارة…
بين الحينة والأخرى تطفو أخبار تحكي جحيم العبودية الذي وقعت فيه عشرات الآلاف من العاملات الموسميات المغربيات في ضيعات ومزارع الفواكه الحمراء والفلاحة المكثفة بجنوب إسبانيا.
أخبار وقصاصات متزايدة وعناوين صحف تروي وتوثق مصير التهجير لنساء إقتلعن من أهلهن ومداشرهن وقراهن، نساء يصطادون من طرف المؤسسات في هوامش وأحزمة الفقر و يقدّمن كأكوام حطب للهيب الإستغلال والإذلال العنصري والنفسي.
جلب الموسميات إلى حقول الفروالة والزراعة المكثفة في الجنوب الإسباني هو جزء من سلسلة طويلة في محطات التهجير شهدها المغرب منذ 1955 إلى يومنا هذا إرتبطت بأحداث محلية وجيوستراتيجية غالبا يكون فيها المهجرين غير مستوعبين الخلفيات الحقيقية وراء عمليات الترانسفير الجماعي والمصير المجهول الذي ينتظرهم. الطائفة اليهودية المغربية تبقى بإمتياز إحدى الشهادات التاريخية القوية والحية في تفكيك الجذور الثقافية والروحية لتعددية مجتمعية وحضارية خسرتها الأجيال الحالية.
الآن يبقى مطلوبا على المجتمع المغربي و بكل أطيافه إن هو أراد إعادة بناء شخصيته الثقافية ورد الإعتبار لكرامته وهويته العودة إلى قراءة تاريخه وإعتبار التنوع الثقافي والبيئي كأساس لنهوض مجتمعي جديد.
بعد حرب الخليج الثانية وضرب العراق ستعمل بلدان الإتحاد الأوروبي على إعادة هيكلة علاقتها ببلدان المحور الجنوبي في حوض المتوسط كإمتداد جيوستراتيجي لإقتصادياتها وهيمنتها الإقليمية على ضوء التحولات العالمية التي أحدثتها الولايات المتحدة في سياق العولمة والحرب على العراق وستتلخص هذه التحولات في تشكل الإتحاد الأوروبي كقطب دولي يأسس لشراكة اورومتوسطية كإطار للتعاون وفضاء للحوار والتكامل والإستقرار.
كان المعنى الحقيقي لهذا المنحى الأوروبي في حوض المتوسط يجد مدلوله في البحث عن نسخة جديدة لعلاقتعها الإستعمارية التاريخية وبسط قواعد جديدة للتبعية والعمالة.
ستتألق إتفاقيات الشراكة المتقدمة في رسم مسارات نيوليبرالية داخل إقتصاديات بلدان الجنوب المتوسطي كما صورها مسار برشلونة في قمة متوسطية سنة 1995 وظل غياب التكافئ والأسس الديمقراطية أحد معالمها البارزة إلى أن إنكسرت أوهامها نهائيا على صخرة هبات الثورات العربية والمغاربية.
في شراكتها مع البلدان المغاربية بإستثناء ليبيا القذافي التي ظلت ممانعة تعاملت دول الإتحاد الأوروبي بالوصاية والإبتزاز للتحكم في الأهداف الحقيقية لأستراتيجياتها الجديدة بالمنطقة.
ظلت الهجرة دائما كنقطة أولوية في الإهتمامات التنموية والأمنية لمنطق الشراكة المتوسطية ويرى الإتحاد الأوروبي دول الشمال الإفريقي كمخزون لإحتياطاته في سد إحتياجاته لليد العاملة وجدار وقائي لردع الهجرة السرية.
وتتجاوب البلدان المغاربية بحماس في مد أوروبا بالجحافل البشرية والموارد الطبيعية والأمن الإستراتيجي كوظيفة تمليها الشراكة المتميزة وتقاليد التبعية والروابط الإستعمارية والمصالح الفاسدة للنخب البيروقراطية والتجارية.
كل هذه الدول تنعت بلقب الشريك المتميز والخاص كوسام شرف لإخلاصها في خدمة الأمن الأوروبي والأهداف المعلنة والخفية للإتفاقيات المبرمة سواء في بعدها الثنائي أو المتعدد الجوانب في قضايا الزراعة، النفط، الغاز، المعادن والتنقيب المنجمي، التيكنولوجيا، الطاقة، البيئة، التسيير المحلي، القيود الجمركية وتحرير الأسواق وخلق المناطق الحرة…الأوراش الكبرى على حساب جغرافية الشعوب الأصلية وسكان المنطقة هي بوابة جديدة للهيمنة الغربية وتدمير ما تبقى من منضومتنا البيئية والثقافية. الشراكة مع الكبار هي خسارة للصغار دائما.
المقاربة الليبرالية وتغييب الشعوب جعلت من الشراكة صفقة لصوص لتعميق النهب والتخريب البيئي والمآسي الإجتماعية بدل أن يكون حوض متوسط يجسد فضاءا إقليميا يعيد الإعتبار للإرث التاريخي المشترك وللتكامل بين مكوناته البشرية وموارده الطبيعية ويضع برامج لتنمية تبحث عن حلول وبدائل تقطع مع الميولات المضارباتية والإتجاهات الإحتكارية التي تسود الإختيارات الحالية.
للأسف القوى المعنية بالتغيير على مستوى الضفتين لم تتمكن لحد الآن أن توفر ولو بديلا مرحليا أو تصورا إنتقاليا يقدم إجابات ملموسة و واقعية لمجالات الإهتمام المشترك ويعيد الأمل من جديد في ضرورة مواصلة المعركة وإعادة بناء التفكير حول البدائل رغم نكسة سيريزا باليونان وإنطفاء بريق تجارب البلديات والحكم المحلي لبوديموس وحلفائها بعدة مدن إسبانية وإنقلابات الثورة المضادة في بعض بلدان الشمال الإفريقي.
تبقى مقولة ماوتسي تونغ “النضال ثم الفشل، ثم النضال، ثم الفشل، ثم النضال…إلى أن تنتصر إرادة الشعب” ذو راهنية قصوى لمشهدنا الحالي وفهم التغيير عن طريق الممارسة والتجارب الخلاقة.
ففي دولة المكسيك مثلا، لم ينتظر الساباتيون مجيئ الخلاص الثوري لتدبير شؤونهم والحفاض على توازنهم البيئي. بنوا عصيانهم دفاعا عن كرامة أرضهم ومحيطهم الطبيعي بالإعتماد على قدراتهم الذاتية والتسيير الجماعي بالعودة إلى الإرث الثقافي والمعرفة التاريخية. بناء اليوتوبيا بالنسبة للسباتيين هي الممارسة العملية ولم يكن إطلاقا الرهان على مطالبة الدولة بتحسين أوضاعهم الإجتماعية وإدماجهم في الشغل و مجتمع الإستهلاك فأقاموا مدارسهم وأوراشهم بمضامين وقيم تحررية ومترسخة في الهوية حول التربية والتعليم والتكوين والتحكيم العرفي وبنوا المستوصفات الطبية والتعاونيات الفلاحية بالإعتماد على التضامن والتعاون محليا وأمميا…ويتذكر العالم أن حركة الساباتيين هي أول حركة ثورية تبرز على المشهد الدولي برسالتها وصرختها ضد إتفقيات الشراكة بين الولايات المتحدة وكندا ودولة المكسيك يوم فاتح يناير 1994 في غمرة إحتفلات العرس النيوليبرالي. السباتيون سبحوا ضد التيار وكسروا القناعة بحتمية العولمة واللا جدوى من مقاومتها وفتحوا بمقاومتهم المحلية أفقا إنسانيا وحضاريا جديدا.
تبني قضية العاملات الموسميات في حقول الفروالة/التوت بمزارع الأندلس يمكن تأسيسها على تضامن منفتح على قضايا تتقاطع مع رؤية جديدة لنضالات القرن الواحد والعشرون، نضالات تستحضر تخطي المنظور الضيق للعمل النقابي بفهم واقع الإستغلال بإرتباط مع واقع البلد الأصلي وإشكالات أخرى، بالبحث حول بدائل التهجير وبناء التعاون بين ضفتي المتوسط على أسس جديدة بطرح مسألة البيئة بمنظور راديكالي والمسألة الزراعية في علاقتها مع السيادة الغذائية والنموذج الغذائي كبديل لمجتمع الإستهلاك. الزراعة لخدمة الإنسان وتحريرها من المافيات والمضاربات التجارية والإحتكارية…النضال من أجل الأرض والدفاع عن الجماعات الفلاحية والقروية بالرجوع إلى التوازن مع البيئة والزراعة المحلية. التشبت بالأرض والدفاع عن المنظومة البيئية يعيد للمهمشين والكادحين حسهم في صيانة هوية تارخية وفعل طبقي جماعي يحميهم من الإستيلاب والأوهام الرأسمالية.
الشراكة الأورومتوسطية وهجرة اليد العاملة القروية موضوع للمقارنة مع أبحاث أكاديمية تتطرق لحالات شبيهة في سياقات إقليمية أخرى كالتي بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة لكن لا تصل إلى بشاعة الحيف والعنصرية الذي يمارس على الموسميات المغربيات من طرف الملاكين الكبار الإسبان، مقارنة أصبحت ضرورية لتوسيع البحث والإجتهاد والإسهام لبناء المقاومات ومجتمعات أفضل.
المرابط محمد
موسميات في حقول العبودية العدو أمامكم والبحر وراءكم