حمة الهمامي: المَوْتُ يُغَيِّبً المُفَكّر والمُؤَرّخ الكَبِير هشام جعيّط
الرفيق حمّة الهمامي الأمين العام لحزب العُمال، ينشر رسالته التأبينية للفقيد الراحل هشام جعيط، المؤرخ والمفكر العربي، الذي غادرنا يوم 1 يونيه الجاري عن عمر يُناهز 86 سنة.
نصّ الرسالة:
المَوْتُ يُغَيِّبً المُفَكّر والمُؤَرّخ الكَبِير: هشام جعيّط
بقلم: حمّه الهمّامي
غادرنا يوم الثلاثاء غرة جوان 2021 المفكّر والمؤرّخ التونسي الكبير الأستاذ هشام جعيّط، مُخلّفا وراءه إرثا عظيما من الكتب والمقالات والدراسات والحوارات التي تتناول تاريخ العرب والمسلمين في العصر الوسيط خاصة، ولاسيما تاريخ المشرق العربي الإسلامي الوسيط. ويعتبر الأستاذ هشام جعيّط مؤسّس تدريس تاريخ المشرق العربي الإسلامي في الجامعة التونسيّة وكوّن طلبة عديدين في هذا الاختصاص رافضا انغلاق الجامعة التونسيّة على تدريس المغرب فحسب.
كما تتناول كتابات الفقيد قضايا العالم العربي والإسلامي الراهنة وأسباب تعطّل نهضتهم. وختم مشواره العلمي ببحث تأليفي فكري يجمع بين التاريخ والدين في كلّ الحضارات. ورغم وطأة المرض فقد ظل يتابع كل حيثيات نشر هذا البحث الذي صدر في الثلث الأول من هذا العام بدار “سيراس للنشر” تحت عنوان: “Penser l’histoire, penser la religion”. وقد أهداه إلى زوجته ورفيقة دربه الرّاحلة “هوغات” (Huguette).
وقد تميّز الفقيد بجرأته الفكريّة ونزعته النقديّة والعقلانيّة في كافّة المواضيع التي تناولها في كتاباته خاصة تلك التي أثارت جدلا واسعا مثل “الشّخصيّة العربيّة الإسلاميّة والمصير العربي” و”الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر” و”أزمة الثقافة الإسلاميّة” وثلاثية “في السيرة النبوية” وغيرها.
ولم يغب هشام جعيّط عن الرّاهن السياسي في تونس وفي الوطن العربي. فقد ظلّ مواكبا للأحداث والمتغيرات. وما يحسب له وقوفه ضد العدوان الاستعماري على العراق في مطلع تسعينات القرن الماضي وترأّسه لإحدى لجان المساندة.
وفي العشرية الأخيرة واكب الفقيد ما اصطلح على تسميته “الرّبيع العربي”. وقد تابع خاصة الثورة التونسية وانعطافاتها مُحلّلا، ناقدا، مستشرفا، مناصرا للحريّة والديمقراطيّة، مستغلّا في ذلك كلّ ما ترسّخ في ذهنه وفي ذاكرته من تجارب التّاريخ ودروسه.
لقد مثّل هشام جعيّط مدرسة سمتها العقلانيّة وخلّف جيلا من الباحثات والباحثين الذين تتلمذوا على يديه واستفادوا من خبرته ومن تأطيره العلمي. وقد آن الأوان بعد وفاة “المّعلّم” الذي كسب صيتا كبيرا في الوطن العربي والعالم، أن يواصل هؤلاء المهمّة سابرين أغوار التاريخ العربي والتاريخ الإسلامي، مواصلين مشوار أستاذهم ومعلّمهم، مُخلّدين ذكراه بزرع منهجه في تلاميذهم، مساهمين في النّهوض بالعلوم والمعارف في وطننا العزيز.
لم أقابل شخصيا هشام جعيّط مباشرة إلا في مناسبات قليلة جدا. ولكنّ فترات السرّية التي عشتها زمن الدكتاتورية مكّنتني من الاطلاع على كافة كتاباته تقريبا وأولاها “الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي”. لقد شاءت الظروف في السنوات التسعين من القرن الماضي أن أقيم لفترة من الزمن عند أحد تلامذته. وهو الذي مكنني من مؤلفاته كاملة وحتى من الدروس التي كان يلقيها الفقيد في الجامعة.
وكانت هذه الكتابات والدروس مادة نقاش بيني وبين صديقي استفدت منها كثيرا في تكويني الشخصي. لقد أدركت من خلال قراءاتي لهشام جعيط ولعدد آخر من المثقفين والباحثين العرب أمثال عبد الله العروي وصالح أحمد العلي وعبد العزير الدّوري وغيرهم المسافة الكبيرة التي ما زالت تفصل مجتمعاتنا عن وعي مثقفيها النيّرين ومن ثمة عن وعي المجتمعات المتقدمة التي حققت في تاريخها ثورات فكرية هائلة أخرجتها من الظلمات.
إنّ الغالبيّة العظمى في مجتمعاتنا ما زالت ترفض العقلانية منهجا للخوض في تاريخها الدّيني والسياسي وربطه بالواقع وتَنْسيبه. وهو ما يحدّ من آفاق تطوّرها ويفسح المجال للمحتالين والدجّالين وتجار الدين كي يحكموها ويغتالوا الفكر النقدي بين ظهرانيها.
عندما يُغًيّب الموت مثقّفا من الحجم الكبير ينتابني الشعور بأن أحد أعمدة البناء الروحي لمجتمعنا قد انهار. ولكنّ الأمل كلّ الأمل يبقى في “تلامذة المُعلّم” لتجديد الأعمدة وصيانة البناية.
إنّني على يقين أنّ هؤلاء “التلامذة”، وأذكر منهم بالمناسبة الدكاترة سلوى الحاج صالح وحياة عمامو وبثينة بن حسين ولطيفة البكاي وعبد الحميد الفهري الذين أسعفتني الظروف للاطلاع على أطروحاتهم والوقوف من خلالها عند صرامة جعيط العلمية، سيواصلون المسيرة.
ذكر جعيط ذات مرة بمرارة كبيرة أنّه “أُهِين” في وطنه. ولكنّ التاريخ بيّن أنّ ظلم الأوطان مؤقّتٌ، إذ لا بدّ أن يأتي حال تعود فيه، ولو بعد طول وقت، إلى عظمائها لتكرّمهم وتعْتَرفَ بِفَضْلِهمْ.
لقد عاش الوضع ذاته وحتّى أمرّ منه أغلب أفذاذ تاريخنا خاصة في حقبه المظلمة التي نُكّل فيها بالفكر الحرّ ورموزه من ابن المقفع مرورا بالمعرّي ووصولا إلى ابن رشد وابن خلدون (كان جعيط يذكر لطلبته كيف هُمِّش “العلّامة” في وطنه تونس إلى أن اضطرّ إلى مغادرتها) ممّا حرم مجتمعاتنا من أحد أهم شروط تطوّرها.
وفي تاريخنا المعاصر مازالت “حضارة البترودولار” و”ثقافة الجهل المقدس” تقوم بنفس الدور. لكن أمثال هشام جعيط لا يموتون بل يعيشون ويخلدون وينبعثون في الانعطافات الكبرى للتاريخ.
لقد مات الطاهر الحدّاد “بغصّته” ولم يحضر جنازته سوى عشرة أنفار. ولكنّه انبعث بعد عقود قليلة من الزمن وأصبح “رائد تحرير المرأة” في حين طوى النّسيان من أهانوه وحقّروه.
إن هشام جعيّط سيظل حيّا، خالدا بما ترك من إرث كبير. وذلك هو خلود الروح.
تونس في 3 جوان 2021