الرد الحاسم على الرأسمالية: بناء الأحزاب المستقلة للطبقة العاملة
الرد الحاسم على الرأسمالية: بناء الأحزاب المستقلة للطبقة العاملة
تشهد الرأسمالية أزمة عميقة ومستديمة تنعكس، بشكل مأساوي، على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للطبقات الشعبية، وخاصة الطبقة العاملة وعموم الكادحين. مما دفع ولا زال شعوب العالم إلى المقاومة، بل الانتفاض في العديد من البلدان (تونس، مصر، اليمن، السودان، فرنسا، الإكوادور، التشيلي، لبنان، الجزائر، العراق، كولومبيا…). لكن هذه الانتفاضات تؤدي، في أحسن الأحوال، إلى تحقيق مطالب جزئية لا تغير الجوهر السياسي والاقتصادي-الاجتماعي للأنظمة القائمة. وفي نفس الآن، عرفت تجربة حزب العمال في البرازيل بقيادة لولا وتجربة الحركة من أجل الاشتراكية ببوليفيا بقيادة إيفو موراليس في السلطة نهايتهما. وتراجعت حركات يسارية مثلت أملا في تجاوز الاشتراكية-الديمقراطية التي أصبحت خادما أمينا للرأسمالية (بوديموس في إسبانيا وفرانس انسوميز بفرنسا) بينما انهار حزب سيريزا في اليونان. فما هي أسباب عجز هذه الانتفاضات والحركات على إحداث تغيير جذري لا رجعة فيه؟
صحيح أن الامبريالية الغربية لعبت و لا زالت دورا هاما في مآل هذه الحركات والانتفاضات بواسطة ضغوطاتها السياسية والاقتصادية والمالية، بل حتى العسكرية عند الاقتضاء، وقوتها الإعلامية.
لكن الأخطر هو أنها استطاعت ترسيخ فكر ما بعد الحداثة وما بعد الماركسية والوهم الديمقراطي في أذهان أغلب القوى اليسارية وأن لا بديل عن الرأسمالية.
يرتكز فكر ما بعد الحداثة على نفي أن الصراع الطبقي بين الطبقة العاملة والبرجوازية في نمط الإنتاج الرأسمالي هو الصراع الأساسي وتعويضه بنضالات مشتتة ضد أنواع من الاضطهاد تخترق الطبقات (الجنس، الهوية الإثنية أو الدينية أو العرقية…). والغائب هنا هو النضال ضد الرأسمالية.
إن نفي مركزية الصراع الطبقي بين البرجوازية والطبقة العاملة له أيضا نتائج تنظيمية ملموسة تتمثل في أن أدواته (النقابة كأداة للنضال الاقتصادي والحزب كأداة للنضال السياسي) أصبحت متجاوزة ويتم تعويضها بالحركات الاجتماعية والمجتمع المدني الذي تسيطر عليه المنظمات غير الحكومية الممولة، في الغالب، من طرف المؤسسات الإمبريالية.
أما الوهم الديمقراطي، فيرتكز إلى أن التغيير سيتم بواسطة الانتخابات وأن أجهزة الدولة محايدة في الصراع الدائر في المجتمع.
لقد طبقت حركات يسارية عديدة فكر ما بعد الحداثة وعرفت بعضها نجاحات انتخابية.
ففي بوليفيا، وصلت الحركة من أجل الاشتراكية التي تهيمن عليها الشعوب الأصلية إلى السلطة. لكن غياب حزب الطبقة العاملة وقيادته للتحالف العمالي-الفلاحي وعدم تفكيك أجهزة الدولة، وخاصة الأجهزة الأمنية والعسكرية، وإعادة بنائها على أسس ديمقراطية شعبية، أدى إلى فشلها، ليس في الصراع ضد البرجوازية فحسب، بل أيضا في إنجاز مطمح الشعوب الأصلية في استرجاع أراضيهم المغتصبة من طرف الغزاة وتفكيك الاقطاعات الكبرى (اللاتيفونديو). كما عرت الديمقراطية البرجوازية على وجهها الحقيقي كدكتاتورية من خلال لجوئها إلى الانقلاب العسكري وسقط بالتالي وهم حياد أجهزة الدولة البرجوازية.
أما في الإكوادور، فقد استطاع اللإلتقاء convergence الموضوعي بين نضال العمال والكادحين الذي عبر عنه الإضراب الوطني العام ونضال القوى اليسارية وحركة الشعوب الأصلية أن يفرض التراجع على قرار الزيادة في أثمان النفط وشكل صفعة للأوليغارشيا والامبريالية وأداتها صندوق النقد الدولي. لكن غياب حزب ماركسي متجدر وسط العمال والكادحين، وخاصة الفلاحين الذين أغلبيتهم الساحقة من الشعوب الأصلية، فوت استغلال فرصة الزخم الشعبي العارم الذي عرفته البلاد للتقدم خطوات على طريق التحرر الوطني والبناء الديمقراطي.
وفي فنزويلا أيضا، فإن غياب حزب الطبقة العاملة وعموم الكادحين، أدى إلى الفشل في انجاز مهام التحرر الوطني، وعلى رأسها الثورة الزراعية. مما أدخل التجربة البوليفارية في النفق المظلم.
وفي المكسيك، تقوقعت حركة الزباتيين في منطقتها في تشياباس ولم تستطع أن تتطور إلى حركة ذات بعد وطني، وذلك لأنها لم تربط نضالها بنضال الطبقات الشعبية، وخاصة الطبقة العاملة والفلاحين الكادحين وفقراء المدن في باقي مناطق البلاد.
وفي البرازيل، مارس حزب العمال للولا، خلال تواجده في السلطة وقبل اندلاع أزمة الرأسمالية، سياسة توزيع الريع المنجمي والزراعي لفائدة الطبقات الشعبية. لكن مع انفجار أزمة الرأسمالية وانعكاسها السلبي على أثمان المواد الأولية، دخل هذا النموذج في الأزمة. ولكونه حزب اشتراكي-ديمقراطي جذري، فإنه:
-طبق سياسة التوافق الطبقي مع البرجوازية وملاكي الأراضي الكبار. الشيء الذي مكن هؤلاء من الحفاظ على هيمنتهم الاقتصادية وعرقل محاولات تغيير البنيات الاقتصادية-الاجتماعية القائمة( الثورة الزراعية وبناء اقتصاد وطني ممركز على الذات). وذلك ما أفقده دعم فئات واسعة من الشعب البرازيلي.
-كما أنه حافظ على أجهزة الدولة، وخاصة الأمنية والعسكرية والقضائية، الموروثة عن النظام السابق، مما مكن البرجوازية وملاكي الأراضي الكبار من استرجاع هيمنتهم السياسية، من خلال القيام بانقلاب وظف فيه القضاء بشكل سافر وفي غياب رد شعبي وازن.
وفي واقع مختلف في إسبانيا، فإن بوديموس، المرتكزة على الحركات الاجتماعية، بعدما عرفت نموا ملحوظا، سرعان ما بدأت تعيش التراجع والتآكل.
وتشهد حركة لا فرانس أنسوميز مصيرا مماثلا لمصير بوديموس. وكان مصير سيريزا أكثر مأساوية.
وسبب تراجع هذه التجارب هو ارتكازها، أساسا، إلى البرجوازية الصغرى وتبخيسها للدور الحاسم للطبقة العاملة في التغيير ولضرورة بناء حزبها المستقل والمرتكز إلى الماركسية. وكدا وهمها بإمكانية القيام بإصلاحات اجتماعية فعلية لصالح الطبقات الشعبية في ظل البقاء في الاتحاد الأوروبي الخاضع للشركات المتعددة الاستيطان والمنفذ الأمين لسياساتها النيولبرالية المدمرة للإنسان والطبيعة.
وخلافا لما سبق، فإن أعظم ثورة عرفها العالم (ثورة أكتوبر1917) وحركات التحرر الوطني التي استطاعت دحر الامبريالية كانت تحت قيادة أحزاب الطبقة العاملة وبتحالف مع الفلاحين، وليس حركات شعبية هلامية. ولعل السيرورات الثورية في العالم العربي تبين، في نجاحاتها ومآزقها، الأهمية القصوى لأدوات الصراع الطبقي (النقابة كأداة للنضال الاقتصادي والحزب والجبهة كأداتين للصراع السياسي) وضرورة ارتباطها العضوي مع الحركات الاجتماعية والحركات الشعبية. فهذه الأخيرة وليس الطبقة العاملة هي من كان المبادر لإطلاق السيرورات الثورية. لكن الحاسم كان هو تدخل الطبقة العاملة، إما بواسطة المركزية النقابية في حالة تونس وتجمع المهنيين في السودان، أو تجاوزا للنقابات الرسمية كما وقع في مصر. ولكن ضعف أو غياب الأداة السياسية للطبقة العاملة وعموم الكادحين سهل هجوم القوى المضادة للثورة وعرقلتها لإنجاز مهامها.
عبد الله الحريف