الاشتباك: جوهر الروح الفلسطينية
محمد صالح التومي - المعروفي
الاشتباك: جوهر الروح الفلسطينية
الجمعة 04 نوفمبر 2022
أخذتُ بعض الوقت لقراءة النص الطويل وكثير الأهمية الذي يحمل عنوان: “المقاومة: لماذا يجب أن نديم الاشتباك؟”، للرفيق: وسام الفقعاوي رئيس تحرير مجلة وبوابة الهدف الفلسطينية، وقد كان مصحوبًا بالتعليق الرشيق وجمّ الفائدة للرفيق غازي الصوراني “أبو جمال”؛ في باب التعليق بدوري على النص من موقعي كنصير للقضية الفلسطينية يعيش بتونس، يقتضي مني الواجب أن أقول لك: إنه نص أراد أن يكون مركزيًا في الظروف التي تمر بها القضية الفلسطينية مع نهايات سنة 2022، وإنه قد نجح فعليًا في أن يكون كذلك؛ فارتقاء النضال الفلسطيني بالضفة الغربية؛ موضوع اهتمامنا تحديدًا، إلى مقارعة العدو الصهيوني بالبندقية المقاتلة هو ظاهرة وطنية فلسطينية جديدة في مسار التصدي لسرقة أرض فلسطين التاريخية، ولذلك فهي ظاهرة جديرة بالتوقف عندها ومحاولة تأطيرها: فكريًا، وسياسيًا، وتنظيميًا؛ رغم أنها ظاهرة تحمل بعض السمات الأولية من مثل هذا التأطير المطلوب، والتي يجب تطويرها لا نفي وجودها؛ وتتمثل الجدة في أن اتفاقية العار المسماة باتفاقية “أوسلو” أريد لها إمبرياليًا وصهيونيًا أن تجعل من هذه الضفة الغربية بالذات؛ طعمًا تبتلعه البورجوازية الكومبرادورية الفلسطينية الرثة، كي تحقق حلمها في الثروة، وتحاول بواسطة ذلك إقناع الجماهير الفلسطينية بضرورة التنازل عن حق العودة، وعن حق تحرير كل الأرض من النهر إلى البحر؛ عساها تجعل هذه الجماهير أو بعض أجزائها؛ مشاركة لها في حلمها البورجوازي البائس… حتى ولو كان ذلك بواسطة “التنسيق الأمني” الذي أُدرج بعض الفدائيين السابقين في صفوفه من خلال انتدابهم في فيالق الأمن التابعة لما يسمى “السلطة الفلسطينية!”، وتصييرهم بهذه الصورة مجرد عسس يخدمون موضوعيًا مصالح العدو ضد كل مقاومة، قد تبرز ضده هنا أو هناك، وذلك مقابل فتات “المرتبات” الذي يأخذ في الظروف العينية: قالب إرشاء كامل المواصفات.
لم يكن ممكنًا لهذا الأمر أن يتواصل أمام التعسف المستمر، والمظالم والجرائم المتعاقبة يوميًا، والتي وصلت ذروتها مع مواصلة قضم الأراضي بصورة ممنهجة، وبناء “المغتصبات” والسماح للمغتصبين (يسمونهم المستوطنين) بالعربدة وبارتكاب أفظع الجرائم دون أدنى عقاب؛ فكان لا بد للاشتباك أن يستأنف مساراته، وأن يتجاوز طابعه الفردي (باسل الأعرج مثالًا) ليأخذ طابعًا شبه منظم، ومسلحًا هذه المرة، ويثبت من جديد أن الاشتباك يعيش داخل “ضمير الشعب الفلسطيني”، بل ويشكل حقيقة هذا الضمير، كما قال بصدق رفيقنا “وسام” في نصه، بل أكثر من هذا، يمثل جوهر وجود الفلسطيني أينما كان متواجدًا ما دامت أرضه مسلوبة، وحقوقه الوطنية والتاريخية مداسة ومنهوبة؛ فذلك الاشتباك هو ما كان منذ بدايات الهجوم الصهيوني على فلسطين في بدايات القرن العشرين، وقد تجسم – كما ذكّر بذلك رفيقنا وسام – بتصدّي الفلاحين منذ البداية لأولى عصابات “الكيبوتزيم” التي أقامها الصهاينة بدعم من الاستعمار البريطاني، ثم بنهوض المقاومة التي قادها أبطال من طراز عزالدين القسام، ثم بنشأة المنظمات الثورية والتجائها إلى العمل الفدائي من خارج فلسطين وتحديدًا من جوارها، وذلك من مصر، ومن الأردن ومن سوريا، ومن لبنان؛ فلما حوصر العمل الفدائي، وأُطرد الفلسطيني الثائر من لبنان إلى تونس سنة 1982، كان لا بد من بروز الاشتباك في قالب انتفاضات بالحجارة بداية من 1987، ثم إن ذلك الانتفاض تواصل منذ ذلك الحين كي يكون رافدًا لما يقوم به “أبناء البلد” بأراضي ال 48… ولما تقوم به الدفاعات الفلسطينية في غزة التي تخلى عنها الصهاينة غصبًا عنهم؛ فكانت تلك الدفاعات تصدّ بوسائل ما تنفك تتطور كل هجوم صهيوني غادر، كما رافدًا لما ينجزه كل فلسطيني بالشتات بإسهامه في حملات المقاطعة أو البي/ دي/آس، وغير ذلك من المظاهرات المنددة بالإجرام الصهيوني… في محاولة لإيقاظ ما يسمى “الضمير الإنساني” الذي تم تزييف وعيه من طرف الإمبريالية المتصهينة ووسائل إعلامها الجبارة.
وهنا، حسنا ملاحظة رفيقي “وسام الفقعاوي”، بأن الانتفاض المسلح بالضفة الغربية من خلال مجموعات كمجموعة “كتيبة جنين وعرين الأسود”، يتم في راهن الحال في نطاق “عجز مزدوج” لكل من: “القيادة التاريخية” و”المعارضة التاريخية” (وهذه نقطة كثيرة الأهمية في النص)، كما في ظل “واقع عربي وفلسطيني يعيش أزمة بنيوية مركبة؛ نتيجة أسباب داخلية وخارجية متشابكة”، ما يوجب اليوم حسب عبارتك الصائبة جدًا… “اشتباك الفلسطيني مع عدوه ومع نفسه في نفس الوقت”… كي يتمكن من: “صياغة استراتيجية مواجهة وطنية”؛ يجب أن تكون شاملة هذه المرة وناتجة عن فرز حقيقي على أساس الولاء لفلسطين، لأنه بهذا فقط حسب اعتقادي؛ يمكنها تحقيق شروط النجاح، وهو ما لا يمكن أن يقع إلا من خلال انبعاث “كتلة تاريخية نقيضة للواقع / الفجوة” كما أسميتها، كما من خلال بروز… “حزب ثوري متقدم للصفوف”… والعبارة لك دائمًا.
هذا هو الحل الصحيح فعلًا… ولكنه يبقى من الواجب أن تنصبّ كل الجهود – وهذه هي المهمة الأصعب – لإيجاد الطريق الموصلة إلى هذا الحل، وهو ما لا يمكن أن يتم على المستوى الفلسطيني، كما على المستوى القومي العربي، وذلك لتشابك الساحات ووقوعها؛ تحت نفس التآمر، مثلما أثبتته وقائع ما سميَّ بالربيع العربي إلا – وإلى جانب تواصل الممارسة طبعًا، بتوفر بعض الشروط:
أولها: القيام بتقييم موضوعي لأسباب الفشل، وذلك بتوخي المناهج العلمية الخلاقة في التحليل، أي المناهج الخالية من كل تحجر، ودوغمائية، وتكلس.
وثانيها: النقد الصادق لأخطاء المسارات… والنقد هنا لا يعني التجريح، أو الإسفاف في الكلام، بل وزن الأمور بميزان الحقيقة… فالحقيقة وحدها هي الثورية على الدوام.
وثالثها: النقد الذاتي… الذي يعني الاعتراف بالخطأ، ومثل هذا الاعتراف فضيلة من أكبر الفضائل.. وهو لا يحط من صاحبه، بل بالعكس يُعلي مقامه.