المخزن صانع الثقافة السياسية السائدة
المخزن صانع الثقافة السياسية السائدة
نشأت المجتمعات البشرية الأولى وهي متعددة اجتماعيا وثقافيا. كطبيعة ملازمة لتشكيلة المجتمع نفسه، قبل وبعد مختلف الظواهر كالتبادل أو الملكية الخاصة. قبل أول تسييج للأرض وبعد التأسيس ‘للدولة وما يسمى المجتمع المدني”. ذلك بالضبط ما يفسر الاختلاف والتعدد والتنوع في الثقافات والأعراق والأطياف والديانات. وبالتالي تفسير تعدد المرجعيات الإيديولوجية والمراجع السياسية التي تسود المجتمعات. لقد عملت الأنظمة السياسية على اختلافها، ساعية نحو خلق أو اكتساب مشروعيتها، فمنها من استعملت التاريخ، الأصل العرقي أو المذهبي والسلف “الصالح”، بل منها حتى من استعملت واستغلت أعرافا وتخاريف خارقة لتبرير مركزها في السلطة والوصاية على عامة الناس أو الرعايا. إنها حاجة تلك الأنظمة إلى ثقافة سياسية تسيج بها المجال العام وتدير من خلالها صراع الطبقات الواقع الذي لا يعلى عليه، فقد لاحظ ذلك المفكر روسو عند القول بأن القوي ليس قويا بدرجة كافية، ما لم ينجح في تحويل القوة إلى حق والطاعة إلى واجب.
من خلال الثقافة السياسية السائدة، تتباين أدوات وأساليب تدبير العلائق بين الأفراد والجماعات والمؤسسات في صراع لا ينتهي حول الاستيلاء على السلطة السياسية ومن يستحقها ويستطيع استتباب الاستقرار.
هكذا نجد تبريرا للاختلاف السائد حول تعريف الثقافة نفسها، اختلاف نجد له تفسيرا حسب الميولات الإيديولوجية المتنازعة الرؤى والاستراتيجيات. غير أن تعريفا شموليا أقرب نسبيا إلى الإحاطة بإشكالية التعريف، هو التعريف الأنتربولوجي الذي اعتمده تايلور، أي “كل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والفنون والعرف، وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكسبها الإنسان من حيث هو عضو في المجتمع”. ومن هذا المركب العام، تشتق “الثقافة السياسية” كفرع له، تتنوع حسب كل مجتمع وخصائصه لتبقى متأثرة بالثقافة السائدة بمفهومها العام. فهي مركب معرفي للآراء والتوجهات والمذاهب والمعتقدات في ارتباطها الوثيق بالشأن السياسي ودواليب الحكم.
ولذا كان لا بد للباحثين من تقسيم الثقافة السياسية إلى ثلاث أقسام:
-الثقافة السياسية الرعوية المتلائمة مع البنية السياسية التقليدية، حيث الحكم المركزي يلغي ويغني عن أي مشاركة للمواطن؛
– ثقافة الخضوع والتي تتوافق مع بنية سياسية سلطوية، تحسب المواطنات والمواطنين أتباع و رعايا؛
– ثقافة المشاركة وتتوافق مع بنية سياسية ديمقراطية.
في بلادنا حيث تسود ثقافة رجعية بشقيها الثقافة المخزنية والثقافة الأصولية لجماعات الهوس الديني، الداعية للخضوع للمخزن والخرافة، تخترق مفاصل الدولة والمجتمع ثقافة سياسية رعوية لبنية تقليدية تتساوق في الآن ذاته وثقافة الإذعان لبنية سياسية تسلطية مخزنية، شملتها كل الشروط التي رعاها المخزن منذ الاستقلال الشكلي، لترسم مشهدا سياسيا بتعددية مشوهة: أحزاب مخزنية في الأغلبية وأخرى مخزنية أيضا في المعارضة في إطار نفس البنيات المتخلفة القائمة. مجتمع مدني للإلهاء وتوهيم الصراع بجمعيات ترفل في نعيم المنح وسلب المال العام وترويجه وفق الولاءات الحزبية المخزنية؛ فيما يقابل ذلك تنظيمات قليلة جدا رغم عمقها الديمقراطي التقدمي وبعدها الجماهيري، تواجه القمع والمنع والرقابة على أنشطتها محليا ومركزيا.
إنها ترجمة عملية لثقافة سياسية لنظام الحكم الفردي المطلق، تعيش على التيئيس والترهيب وقمع الحريات كما تتفنن في القمع والمنع والإقصاء الاجتماعي. إننا بصدد دولة مركزية بنظام حكم يقود البلاد إلى المجهول. بينما لا تزال المبادرات الجادة تراوح مكانها، وتتلكأ في الحسم في المبادرة إلى تشكيل تكتل واسع أو جبهة للنضال في إطار أوسع اصطفاف جماهيري، قادر على بلورة البديل الديمقراطي الذي تنتظره الطبقات والفئات الأكثر تضررا من السياسات القائمة، وفي مقدمتها جماهير العاملات والعمال والفلاحين المعدمين في المدن كما في القرى، عموم الكادحين، ضحايا الطرد التعسفي وضحايا الحرمان من الحق في الشغل القار.
إن الفرصة مواتية لعموم الديمقراطيين للتدخل على أرضية برنامج نضالي، ومطالب ديمقراطية استعجالية يحملها حراك شعبي ممتد في المناطق الأكثر فقرا وفي التجمعات الحضرية الكبيرة. فقد يأتي على نخبتنا يوم تجد نفسها مرة أخرى قد أخلفت موعدا مع التاريخ.