فهد سليمان: «طوفان الأقصى»، وما بعده..

فهد سليمان: «طوفان الأقصى»، وما بعده..
فهد سليمان: الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

palestine-fdlp.2 فهد سليمان: «طوفان الأقصى»، وما بعده..

■ بعد مضي شهرين ونصف الشهر على اندلاع الحرب الإسرائيلية الهمجية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، مترافقة مع التصعيد الإستثنائي بدمويته على شعبنا في الضفة الغربية (بما فيها القدس)، على يد مركب الجيش وعصابات المستوطنين، ورغم أن هذه الحرب -«المحرقة» لم تضع أوزارها بعد، إلا أنه بات بالإمكان الخروج بعدد من الإستخلاصلات الرئيسية، تصلح لتكون أساساً لرسم إتجاهات عمل يتركز عليها الجهد الفلسطيني في الفترة القادمة.

وفي هذا السياق، علينا أن نأخذ بالحساب الإحتمالات المفتوحة لتطور الأحداث، كونها لم تصل بعد إلى ختام، والأرجح أن لا تصل إليه خلال الفترة القصيرة القادمة، حتى لو تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار، فما نحن بصدده هو حرب معروف متى بدأت، وغير مقدر متى ستتوقف، هي حرب متدحرجة فصولاً، لكل فصل منها سمات تحكم معادلاته، لكنها، مجتمعة، تفتح – في المدى الأبعد – على ارتياد آفاق الحرية والإستقلال الوطني والعودة، في إطار تمكين شعبنا من ممارسة حقه في تقرير المصير بحرية على ترابه الوطني.

■ ما سبق يجعل من الإستخلاصات والنتائج التي نتوصل إليها، ونحن ما زلنا في حمأة الحرب، تتحرك بين ما أتت الوقائع لتثبته، وبين ما هو أقرب إلى فرضيات عمل تحتاج إلى مزيد من التدقيق، فإما أن تؤكدها مجريات الأحداث، أو تدحضها، أو تعدلها بهذا القدر أو ذاك، الأمر الذي يترتب عليه تناول موضوعين رئيسيين: الأول، يركز على المظاهر الرئيسية للزلزال الذي أحدثته هذه الحرب بانعكاساتها على قضيتنا الوطنية؛ والثاني، يُقيِّم ما وصلت إليه الحالة الفلسطينية، وإلى أين تسير الأمور. وهذا ما سيتم التطرق إليه، فيما يلي من موضوعات:]

(1) الزلزال

■ من بين الحروب المتتابعة مع إسرائيل منذ العام 1948، تميّزت الأخيرة التي اندلعت في السابع من أكتوبر عن سابقاتها بعدد من الأمور، لعل من أهمها إستحضار القلق الوجودي – الكامن أصلاً والمتجذر في وعي الإسرائيليين اليهود على مصيرهم، حاضراً ومستقبلاً، لاستشعارهم واقع، أو حقيقة العيش بكنف كيان سياسي غير مستقر، ضمن بنية هجينة تعصف الريح من تحتها، في دولة قامت على العدوان والإجرام واغتصاب حق الشعب الفلسطيني في أرضه.

لقد كان لأسلوب «الإغارة الإستراتيجية» التي اعتمدتها عملية «طوفان الأقصى» دورها، لا ريب، في إطلاق تداعيات هزَّت أركان الكيان على نحو مفاجيء وغير متوقع، وأعادت تظهير هذا القلق الوجودي بقوة؛ فهي عملية غير مسبوقة، ولا مألوفة في تاريخ المواجهة المديدة مع العدو الإسرائيلي، كونها جمعت بين أسلوب المباغتة الصاعقة، وبين القدرة على تخطي ما اعتبر جدران وخطوط عصية على الإختراق، والتوغل في عمق «غلاف غزة»، بعد تشتيت صفوف فرقة النخبة المخصصة للدفاع عنه، ما ألحق خسائر فادحة بعديدها، ساق إلى الأسر العشرات والعشرات من الجنود والمستوطنين…

■ لقد وجَّه السابع من أكتوبر– 7/10 ضربة مميتة إلى سرديتين قامت عليهما سمعة دولة إسرائيل وكرَّست صيتها بين اليهود وفي العالم في آن معاً، الأولى تأسيسية، والثانية وظيفية متجددة الراهنية: السردية الأولى أسست للمشروع الصهيوني الذي إنطلق من مقولة أن لا أمن لليهود في العالم، إلا بإنشاء دولة خاصة بهم على أرض فلسطين، تكون هي الملاذ لمن يأتيها، وتوفر مظلة حامية ومعبر نجاة إحتياطي لمن يبقى خارجها. أما السردية الثانية فهي قائمة على أسطورة القلعة المنيعة بجيشها الذي لا يقهر، وذراعها الأمني المطاول، واستخباراتها التي لا تخترق، وفضاءها السيبراني الشاسع، وصناعاتها العسكرية المتفوقة، الخ…، أي تلك المواصفات التي تجعل من إسرائيل، لقدراتها العسكرية والتكنولوجية، دولة يُلتمس القرب منها، والمكاسب تُجنى من خلال السعي لإقامة أفضل العلاقات معها.

■ بداية، ورداً على «طوفان الأقصى»، وضعت الحكومة الإسرائيلية هدفين نصب الأعين: سحق حماس + الإفراج عن الأسرى والمحتجزين لدى المقاومة، لكنها سرعان ما كشفت عن حقيقة ما ترمي إليه: إخلاء القطاع من أهله + تحويل غزة إلى منطقة عازلة بالسيطرة الإسرائيلية الكاملة عليها. وإذا كان التركيز على اجتثاث حركة حماس يأتي ضمن التوجه الثابت للقضاء على المقاومة المسلحة بكل مكوناتها، كما وعلى المقاومة عموماً بسائر أشكالها، فإن هدف المسح والإبادة والترحيل للسكان في القطاع، يلتقي في الضفة – ومن ضمنها القدس – مع مخطط الضم والترحيل، خاصة بعد تحويل المسئولية عن الشئون المدنية في الضفة إلى عتاة الصهيونية العنصرية الفاشية في الحكومة الإسرائيلية.

■ الحرب محطة فاصلة، ما بعدها ليس كما قبلها، هذا لا ينطبق على جميع الحروب، ولكنه ينطبق حكماً على الحرب التي نحن بصددها، والتي شكلت الإغارة المباغتة على المستوطنات والمواقع العسكرية في مستوطنات غرب النقب (مستوطنات وبلدات ومدن «غلاف غزة») في إطار عملية «طوفان الأقصى» العنصر المفجر لها، هي حرب تشكل قطيعة مع ما سبق من حروب تخصصت بالعدوان على القطاع منذ العام 2006، كونها تجاوزت حدودها المحلية، إن بتداعياتها، أو بالنتائج المباشرة المترتبة عليها، الأمر الذي ينطبق – كلوحة إيضاح – على ثلاث حالات، إنتقيناها لدلالاتها، من بين ما تزخر به الحالة الدولية، الإقليمية، المحلية من أمثلة وتفاعلات:

1- الحالة الأولى، إقليمية، يمثلها موضوع «التطبيع السعودي – الإسرائيلي»، بالتداعيات التالية:

■ حتى 6/10 كان «التطبيع» آنف الذكر، هو الحدث الرئيسي المسيطر على المشهد السياسي في الإقليم، وكان البحث يجري حثيثاً حول كيفية استيفاء شروطه ضمن المثلث المعني به: السعودي – الإسرائيلي – الأميركي، والإلتزامات المتبادلة المترتبة عليه. أما الموضوع الفلسطيني، فلم يكن مطروحاً كموضوع قائم بذاته، تأكيداً لمقولة نتنياهو أن الأولوية تعود إلى استكمال عملية التطبيع التي إفتتحتها «إتفاقيات أبراهام»- 2020، والتي من المفترض أن تتوج بخطوة حاسمة من خلال التطبيع الإسرائيلي – السعودي، الذي يجري العمل على قدم وساق لإنجازه، لا بل بات بمتناول اليد – كما أعلن نتنياهو 3 أسابيع قبل 7/10، بأسلوبه الإنتصاروي المشبع بالذات – إثر عودته من نيويورك بعد مشاركته في الأمم المتحدة، واجتماعه مع المرجعيات المعنية.

■ وعليه، بات موضوعنا الوطني في سياق التطبيع آنف الذكر، كناية عن مجموعة من المطالب المعيشية، الاقتصادية، المسقوفة سياسياً، بما لحظته «إتفاقيات أوسلو»، أو بقاياها، حيث كان يجري البحث على توزيع هذه المطالب بشكل إلتزامات تقع على عاتق أضلع مثلث التطبيع، منها ما هو مطلوب من السعودية (الدعم المالي للسلطة الفلسطينية،..)، ومنها ما هو مطلوب من واشنطن (عودة القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، إفتتاح مكتب م.ت.ف في واشنطن،
الخ …)، ومنها ما هو مطلوب من إسرائيل (التعهد بوقف مشروع الضم، توسيع مناطق (أ) و(ب)، حضور شُرطي فلسطيني على المعابر، تسهيلات في تسييل أموال المقاصة، توسيع صلاحيات الحكم الذاتي، الخ…).

■ «طوفان الأقصى» لم يقطع الطريق تماماً على كل هذا، لكنه – بكل تأكيد – أبطأ وتيرة العمل نحوه بالحد الأدنى، فعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة، باعتبارها قضية تحرر وطني قائمة بذاتها، مستقلة، تستدعي حلاً متكاملاً، أبعد من الإستجابة لبعض المطالب، توزع هنا وهناك…

2- الحالة الثانية، أوروبية بأبعاد دولية، هي الحرب في أوكرانيا:

■ ضمن تداعيات الحرب التي فجَّرتها عملية «طوفان الأقصى»، تراجع موقع الحرب في أوكرانيا في سلم تدرج الإهتمامات، ليس من الزاوية الإعلامية فحسب، حيث يحل – عادة – الاهتمام بمتابعة حدث بعينه مكان آخر، لسخونته، بل من زاوية أهميته السياسية في أجندة واشنطن بخاصة، التي ليس بمقدورها – في الوقت عينه – أن تجمع بين مسئولية نشوب أو توسيع نطاق حربين معاً، حتى لو تعاملت معهما، أو شاركت بهما بالواسطة: الأولى، في أوكرانيا من خلال الناتو؛ والثانية، في منطقتنا من خلال إسرائيل، باعتبارهما – أي النزاعين – يستبطنان معاً إحتمال تحولهما إلى حروب ممتدة (إقليمية، أو ما يتعداها)، في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة لتركيز قواها وبناء شبكة تحالفاتها لمواجهة تعاظم قوة الصين، ومحاصرتها قدر المستطاع، إن كان في محيطها الإقليمي المباشر، أو الأبعد مدى.

■ في هذا السياق، وجدت الولايات المتحدة نفسها في وضع إقليمي ودولي شديد التعقيد، فالحرب هزَّت أركان الإقليم كله، وفتحت الباب أمام عديد الإحتمالات، منها إشتعال الحرب على أكثر من جبهة ذات صلة بالملف الفلسطيني، أو بتداعياته، ما يضع واشنطن أمام إستحقاقات عسكرية وأمنية، رأت فيها تهديداً، ليس لدولة الاحتلال والإستعمار الاستيطاني فحسب، بل وللمصالح الأميركية عموماً في المنطقة بأسرها، وبما يتعداها، فسارعت مع حلفائها الأطلسيين، إلى تحشيد الأساطيل أمام سواحل بلدان المنطقة، كخطوة أرادت منها أن تبرز قدرتها مع حلفائها على ردع الأطراف الإقليمية، التي قد تساورها أفكار «التدخل» في الحرب، دعماً للشعب الفلسطيني وإسناداً لمقاومته. إن استعراض القوة الأميركية تلويحاً بالردع، كشف – في الوقت نفسه – عن تراجع الدور الردعي المستقل لإسرائيل، وبما ينال من إحدى وظائفها الاستراتيجية في الإقليم.

■ إن التلويح بالردع، هو في حد ذاته تهديداً بالحرب، ما أدخل الإقليم بكامله في حالة من التوتر الشديد، وحوله إلى ساحة التوتر الدولي الأولى بامتياز، أي تلك الساحة المرشحة للإنفجار لدى أقل خطأ في الحساب، خافضاً لمنسوب التوتر الذي ساد لفترة في المدى الإستراتيجي الموصول للمحيطين الهاديء والهندي، دون أن تُلغى الأسباب الجوهرية التي كانت إستدعت – موضوعياً – تصعيد التوتر في هذا المدى، لاستمرار التحدي، الذي يرفعه الصعود الصيني، المدرج بثبات – كأولوية – على جدول أعمال واشنطن.

■ الحرب المشتعلة منذ 7/10 في غزة (وامتداداً في الضفة الغربية) بتداعياتها الإقليمية، وما استتبعته من حشود واصطفافات، حوَّلت مركز ثقل الاهتمام (والأهمية) من قارة إلى أخرى، ما عزز المنحى الذي بدأت ملامحه ترتسم بشكل يزداد وضوحاً في أفق العلاقات الدولية، ألا وهو التقدم نحو إكتمال شرط تجميد الجبهة الأوكرانية لصالح تسوية (متفاوض عليها، أو بالأمر الواقع) تنهي أو تجمد الأعمال الحربية المباشرة في أوكرانيا.

3- الحالة الثالثة، إسرائيلية داخلية، بانعكاساتها المؤثرة على أوجه رئيسية في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي:

■ الوجه الرئيسي للأزمة السياسية الداخلية في إسرائيل، التي تصدرت المشهد منذ بداية العام 2023، أي بعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية الـ 37- 29/12/2022- برئاسة نتنياهو، تمحورت حول إحداث تغيير نوعي في النظام السياسي الإسرائيلي من مدخل ما سُمي بـ«الإصلاح القضائي» الذي يشمل المنظومة بمختلف مستوياتها، بما فيه تجريد القضاء الأعلى من صلاحياته في نقض أو تعديل ما يراه مخالفاً (أي لا ينسجم مع ما يسمى بـ«المعقولية» في العرف القضائي الإسرائيلي) للقوانين الأساس من قرارات الحكومة (مراسيم، قوانين،…)، بما يؤدي إلى تكريس موقعية السلطة التنفيذية وهيمنتها على السلطتين التشريعية والقضائية، وبالتالي إلى ثلم الطابع العلماني والليبرالي للنظام السياسي – إن لم يكن أكثر – لصالح المكون السياسي الأصولي الديني، مع إحتفاظ الدولة بطابعها البنيوي الأصلي، كدولة أبارتهايد وتمييز عنصري.

■ بعد نشوب الحرب تجمد الخلاف الداخلي حول الإصلاح القضائي، لكن الحكومة الإسرائيلية إلى جانب ما يرتكبه جيشها في القطاع من جرائم حرب موصوفة، وجرائم ضد الإنسانية تجمع ما بين العقوبات الجماعية + الإبادة الجماعية + التطهير العرقي (القائم على وجود نيّة مبيَّتة ومثبتة لارتكابه)، واصلت عدوانها في الضفة الغربية على خط الإمعان في الإستيطان والتهويد بأهدافه المشهرة في الضم والترحيل، لا بل صعَّدت وتيرته في واقع الحال، وشحنته بمزيد من عوامل التفجير من خلال مضاعفة تسليح المستوطنين، وإلغاء الجيش الإسرائيلي لخصوصية المناطق (أ) المنتهكة أصلاً، الخ … ما يُغلّب إحتمال المزيد من الحدة في المواجهة في الضفة الغربية، الجانحة بتسارع نحو حال الحرب، بغض النظر عن مآل وقائع الحرب في قطاع غزة■

(2) بين الرسمي والشعبي، عربياً وإسناد المقاومة، إقليمياً

■ على أهمية الموقف الوطني والقومي المسئول لكل من مصر والأردن، في الرفض القاطع للضلوع بمخطط الترحيل للشعب الفلسطيني واقتلاعه من تراب الوطن (من القطاع إلى مصر، ولاحقاً من الضفة إلى الأردن، الذي اعتبر – بدوره – التهجير بمثابة إعلان حرب)، وهذا ما ينبغي أن يسجل بكل تقدير لكلا البلدين، فقد فشلت المنظومة العربية الرسمية في تحمل مسؤولياتها القومية والأخلاقية نحو قضية فلسطين، دفاعاً عن شعبها في مواجهة العدوان المتمادي، إذ تعرضت هذه المنظومة خلال ولاية ترامب.. 2017-2021 إلى اختراقات إستراتيجة فاقمت إنكشافها على الضغوط الخارجية، عندما نجحت الإدارة الأميركية في بناء «تحالف أبراهام» وفي امتداده «منتدى النقب» السداسي (الإمارات + المغرب + البحرين + مصر إلى جانب واشنطن وتل أبيب)، باعتبارهما الإطارين السياسي والإقتصادي والاستراتيجي للإقليم، المسخرين في خدمة سياسة الهيمنة الأمريكية على المنطقة، ودمج إسرائيل فيها وإعادة صياغة المعادلات الحاكمة للسياسات العليا، بما يجعل من إسرائيل حليفاً، والجمهورية الإسلامية في إيران عدواً.

■ لقد أضعفت هذه التطورات مناعة النظام الرسمي العربي وخلخلت تماسك الموقف من القضية الفلسطينية، بما في ذلك الابتعاد عن التمسك بمضمون وآلية تطبيق «مبادرة السلام العربية»، ما عنى تغليب الإستجابة لمصالح الأنظمة وارتباطها التبعي بالاستراتيجية الأميركية في الإقليم على حساب القضية الفلسطينية وحقوق شعبها.

إن أقصى ما نجحت المنظومة العربية الرسمية في تحقيقه هو الدعوة إلى قمة عربية – إسلامية في الرياض– 11/11/2023، إنبثقت عنه لجنة متابعة لم تتجاوز تحركاتها حدود «عرض الحال» التي تفتقر إلى القدرة على طرح مبادرة ذات مغزى تستند إلى عناصر القوة للدول التي تمثل، وهي كثيرة، ما أحالها إلى هوامش الحراكات السياسية الرسمية الجارية في أكثر من مكان، لم يكن بمقدورها أن توظف ثقل «منظمة التعاون الإسلامي» النوعي، أي وزن كتلة دولها الـ 57، للجم العدوان.

■ إنتصرت الحراكات الشعبية العربية للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، وعبَّرت بذلك عن تمايزها عن السياسات الرسمية العربية، وعكست حالة غضب عارم أمام العجز الرسمي العربي، عن وقف العدوان على الشعب الفلسطيني؛ كما عكست إحساساً عميقاً بعمق ومدى تهديد الكيان الصهيوني مصالح الشعوب العربية، وللخطورة المتعاظمة للمشروع الصهيوني التوسعي، وإدراكاً عميقاً لما سوف يحدثه من تداعيات سلبية إنتصار إسرائيل على الشعب الفلسطيني، وكسر إرادته ومقاومته. لقد جاءت الحراكات الشعبية العربية لتعبر بصدق عن طبيعة الصراع القائم، ولتضع أنظمتها أمام واجبات تمس المصلحة القومية بالصميم، إذا لم يتم الأخذ بها، فالمصالح العربية كلها ستكون في خطر.

■ نقطة الضعف في هذه الحراكات الشعبية العارمة وبشعاراتها السياسية الواعية والصريحة، تكمن بافتقارها إلى العنصر الضروري للتنظيم، الضامن لاستدامتها، لأسباب عدة لسنا بواردها، نكتفي بالإشارة إلى أحد أهمها، وهو الطبيعة السلطوية أو النازعة إليها، للنظام الرسمي العربي بشكل عام، التي تحد من تمكين المواطن ممارسة دوره الحر في المساهمة بصناعة وتقرير مصير وطنه. إن افتقار الأنظمة العربية في جملتها إلى أقنية التواصل الديمقراطي بين الحاكم والشعب عَطَّل كثيراً من قدرة الحراكات الشعبية على التأثير في مسار حرب 7/10، وتلك ظاهرة تحتاج المزيد من القراءة والدراسة والتأمل وصولاً إلى بناء المعادلات الصائبة والمستخلصات المفيدة.

■ على صعيد الإقليم، تأكد التنسيق بالتوازي في الجهد المشترك، بين المقاومة الفلسطينية وبين حركات التحرر الوطني المناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل، الناشطة تحت مظلة ما اصطلح على تسميته بـ «محور المقاومة»، التي انخرطت بجهد إسنادي حقيقي للمقاومة الفلسطينية في أكثر من ساحة. غير أن حقيقة الأوضاع السائدة بحسابات ميزان القوى، والظروف المتحكمة بالقرار الإستراتيجي، بتأثير الشرط السائد في المكان، رسمت لهذا المحور سقفاً عَمْلانياً بحدود المشاغلة والإستنزاف، إنما المنفتحتين – في الوقت نفسه – على مزيد من التصعيد النوعي تبعاً لمعطيات الميدان، وهذا ما تؤكده الجبهة العسكرية المؤثرة التي إفتتحتها المقاومة الإسلامية إنطلاقاً من جنوب لبنان، بدءاً من اليوم التالي لاندلاع الحرب- 8/10؛ كما وجبهة «البحر الأحمر» التي يديرها الجيش اليمني بمرجعية حركة «أنصار الله»؛ وإلى حد ما جبهة المقاومة العراقية بعدد من فصائلها التي تستهدف القواعد الأميركية المنتشرة في كلٍ من العراق وشمال شرق سوريا■

(3) الغرب الأطلسي المنافق

■ أُصيبت الولايات المتحدة وتحالفها الأطلسي في عواصم الغرب الإستعماري بصاعقة سياسية وهي تشهد كيف، وفي ساعات قليلة، إنهارت أسطورة «الجيش الذي لا يقهر»، ما يهدد الوظيفة – الأساس التي من أجلها خُلقت إسرائيل، قاعدة إستراتيجية عدوانية للمصالح الإستعمارية الغربية في مواجهة معسكر الخصوم والأعداء، كما وفي مواجهة تطلعات شعوب المنطقة وقواها السياسية الوطنية التقدمية والديمقراطية لبناء دولة المواطنة القائمة على القانون والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة وصون الثروات الوطنية في مواجهة سياسة النهب الاستعماري.

■ ضمن محددات هذه الوظيفة، وفي استعادة سريعة لبعض المحطات ذات الدلالة في التاريخ الحديث، نستذكر الدور المحوري الذي لعبته إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر- 1956، لإجهاض حالة النهوض القومي واسترداد الشعب المصري لمقدراته، وفي المقدمة إستعادة ملكية قناة السويس، ولبناء قاعدته الصناعية والزراعية، وبما يحرر مصر آنذاك من شروط التبعية للغرب.

كذلك لعبت دولة العدوان الإسرائيلي- 1967 دوراً حاسماً مازالت نتائجه تتداعى حتى يومنا، حين شنت حربها في حزيران (يونيو) لقطع الطريق على نهوض المشروع القومي العربي، بما في ذلك المقدمات الواعدة لإعادة تنظيم الصف الفلسطيني وتعبئة طاقات شعبنا عبر تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، كمشروع بناء كياني لشعب فلسطين تؤطر نضاله وتقوده في سبيل إنجاز حقوقه الوطنية.

تلا ذلك – كما هو معروف – سلسلة من الحروب العدوانية الإسرائيلية ضد لبنان وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية (1978 + 1981 + 1982 + 1992 + 1996 + 2006) وضد الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع (12 حملة عسكرية، بدءاً من «السور الواقي»- 2002، وصولاً إلى «السيوف الحديدية»- 2023) لتصفية قضيته الوطنية، والاستيلاء على كامل أرض فلسطين المحتلة، وآخرها على يد برنامج الائتلاف الحكومي اليميني العنصري في إسرائيل، لحسم الصراع وتهجير السكان وضم الأراضي وقطع الطريق على قيام الدولة الفلسطينية باعتبارها، وفقاً للحسابات الإسرائيلية، ستشكل منعطفاً حاسماً في حركة التاريخ، يؤذن بانحسار المشروع الصهيوني، ونهوض المشروع الوطني الفلسطيني عنواناً لنهضة شعوب المنطقة بأسرها.

■ عملية «طوفان الأقصى» شكلت ضربة محكمة للمشروع الاستعماري الصهيوني ولعموم المشروع الاستعماري الغربي في المنطقة، وعززت مخاوف عواصم الغرب الأطلسي من أن تطلق هذه المعركة تطورات تقلص، أو حتى تقضي على الدور المحوري لإسرائيل في صميم المشروع الإستعماري على مدى الإقليم، فضلاً عن فتح الطريق أمام تمدد الدور والنفوذ الروسي والصيني والإيراني في المنطقة، في سياق التحولات الدولية لإعادة بناء نظام عالمي جديد يتجاوز نظام القطب الواحد، الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة.

لذلك قُرعت طبول الحرب في واشنطن وباريس وبون ولندن ضد الشعب الفلسطيني ومقاومته، حتى قبل أن تقرع داخل إسرائيل نفسها. كما أعادت الولايات المتحدة صياغة بعض أولوياتها في السياسة الخارجية، لصالح إدارة الحرب ضد الشعب الفلسطيني مع التحسب لاحتمالات تحولها إلى حرب إقليمية، ولو على حساب الدور الأميركي – الأطلسي في حرب أوكرانيا، التي بهت وهجها نسبياً.

■ لقد لجأ الغرب إلى كل أشكال التعبئة السياسية والعسكرية والإعلامية، وغيرها..، لدعم إسرائيل بكل أدوات القتل، بما في ذلك تحشيد الأساطيل في المنطقة في استعادة لبعض مظاهر الحرب الباردة. حتى أن نظاماً إستعمارياً غربياً آفلاً كفرنسا، التي لم تكن قد تعافت بعد من شدة الضربات التي تلقتها بالتتابع في بلدان الساحل الإفريقية (بوركينا فاسو، مالي، النيجر،..)، هذا النظام الإستعماري المتصابي لم يتوانَ عن سنّ قوانين تحرم على الفرنسيين حقهم في التعبير عن رأيهم حيال ما يجري في المنطقة، والعمل – كما صرح الرئيس الفرنسي ماكرون – من أجل بناء تحالف دولي ضد مقاومة الشعب الفلسطيني تحت شعار إستئصال حماس، بدعوى إنتسابها إلى حركة «الإرهاب الداعشي».

■ أما على الصعيد الدولي، فقد بات الانقسام واضحاً في مجلس الامن وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو انقسام لم تتوفر له شروط التوازن في القوة والفعل، فبقي الطرف الأكثر فعالية وتأثيراً هو الطرف الغربي الذي يدير المعركة. أما أصدقاء الشعب الفلسطيني من خارج الحالة العربية ودول «منظمة التعاون الإسلامي»، كروسيا الإتحادية والصين الشعبية والجمهورية الإسلامية في إيران ودول أمريكا اللاتينية، فإن دورها ونفوذها في المدى الإقليمي – حتى الآن – لا يوفر لها شروط التأثير الفاعل الموازي للفعل الغربي في إدارة الحرب.

■ مثل هذه التطورات تقودنا إلى التأكيد على أن الرهان على الوعود الأمريكية بما فيها الوعد بـ«حل الدولتين» ما هو إلا رهان خاسر، ومضيعة للوقت، وهدر للطاقات، وتوفير الزمن الضروري للمشروع الإسرائيلي لتحقيق أهدافه التوسعية.
كما أن هذه التطورات تعيد التأكيد أن أوروبا الغارقة – بكل عام – والمستغرقة حتى الأذنين في أزمات كبرى جرّاء ما يجري في أوكرانيا + الشرق الأوسط، إلى جانب ملف الهجرة، الخ..، مازالت رهينة لسياسات الولايات المتحدة، الأمر الذي يفترض بالعواصم العربية أن تعيد قراءة المشهد الإقليمي قراءة جديدة، وعليها أن تدرك أن خطر الهيمنة الأمريكية والغربية عموماً، لا تطال الشعب الفلسطيني وحده، بل تستهدف المنطقة العربية بأسرها، وتلك قضية تضع حركات التحرر الوطني والديمقراطي العربية أمام إستحقاقات جديدة في المديين المباشر والمتوسط.

■ وفي كل الأحوال، وعلى الرغم من الوزن الذي مازالت تتمتع به واشنطن في السياسة والعلاقات الدولية، فإننا نؤكد على الحقيقة التالية: لقد شكل الرهان على الشعب الفلسطيني وصموده ومقاومته وإرادته الوطنية العنصر الأقوى الذي نجح في بناء ميزان قوى ميداني واستتباعاً سياسي، من شأنه أن يفيض بنتائجه على المعادلات القائمة ويؤثر في المواقف الإقليمية والدولية، ولعل التغيير الذي طرأ على موقف أوروبا مؤخراً في موضوع وقف إطلاق النار يقدم مثالاً على ذلك، حيث إرتفع عدد الدول المطالبة بوقف إطلاق النار في غزة، من دولتين إلى 17 دولة من أصل 27 دولة يتشكل منها الإتحاد الأوروبي■

(4) الفعل السياسي الفلسطيني

■ سلطت الأحداث المتلاحقة بعد 7/10، المزيد من الضوء على تآكل الوضع القيادي الرسمي الفلسطيني، الذي فوجيء هو أيضاً بالحدث الكبير، كما فوجيء غيره، في الوقت الذي كانت فيه القيادة الرسمية منهمكة في متابعة وقائع مباحثات «التطبيع السعودي – الإسرائيلي»، والبحث لها عن دور في هذه العملية، وإن كان تحت سقف «إتفاقات أوسلو»، يبقيها في إطار المعادلة السياسية التي سوف تنشأ بنتيجة خطوات التطبيع.

■ الحملة المغرضة التي تعرضت لها حركة حماس، باعتبارها إرهاباً وحالة داعشية، إلتقت عندها الولايات المتحدة مع إسرائيل مع عواصم الاستعمار الأوروبي، حاولت بعض أوساط القيادة الرسمية أن تستفيد منها لما يؤهلها لأن تحتل الموقع الذي تطمح له، بعد أن تحقق الحرب العدوانية أهدافها في كسر المقاومة، والانتقال بقطاع غزة إلى صيغة سياسية وميدانية جديدة، عندما يزف إستحقاق «اليوم الذي يلي…».

وقد جاء تصريح القيادة الرسمية في نزع الغطاء السياسي عن حماس، بالقول أنها لا تمثل الشعب الفلسطيني، قبل أن يتم تعديل التصريح بإحلال «الفصائل» بدلاً من «حماس»، جاء هذا التصريح ليوجه إشارة شديدة الوضوح إلى من يعنيه الأمر(!)، حيث رسمت مسافة بينها وبين حماس، وأخرجت نفسها من المعركة الدائرة في القطاع، وأعفت نفسها من مسؤولياتها عن الشعب الفلسطيني، الذي يذبح يومياً على يد الحرب العدوانية، مغلبة بذلك موقفها الإنتظاري الساكن على حساب الدور القيادي المبادر المفترض باعتبارها قيادة لكل الشعب الفلسطيني، في الأحوال الإستثنائية الصعبة بخاصة، وأن على المؤسسة الفلسطينية الرسمية أن تضطلع بهذا الدور، كونها الإطار الجامع الذي يمثل الكل الفلسطيني، وبالتالي جميع القوى الفلسطينية، بصرف النظر عن عضوية هذا الفصيل أو ذاك في هيئاتها القيادية، فكل من وما يحمل الصفة الفلسطينية، أكان فرداً أو تجمعاً أو مؤسسة، ينتمي – بالتعريف – إلى منظمة التحرير الفلسطينية، بغض النظر عن موقفه منها، أو رأيه فيها.

■ ومن بين المواقف النافرة التي إستدعت المزيد من التوجس من مواقف القيادة الرسمية، موقف وزير الخارجية في السلطة الفلسطينية في الإجتماع التحضيري لوزراء الخارجية العرب للقمة العربية – الإسلامية في الرياض، حين وافق على إدانة التعرض للمدنيين على الجانبين، في مساواة جائرة بين حق المقاومة المشروع في الدفاع عن شعبنا وحقه في الحياة، وبين جرائم الإحتلال التي تندرج تحت عنوان «جرائم الحرب» و «الجرائم ضد الإنسانية» بحسب القانون الدولي.

■ وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن اللجنة التنفيذية لم تدعَ للإجتماع منذ إندلاع الحرب، باستثناء ذلك الذي إدعى إطلاق مبادرة لتوحيد الحالة الفلسطينية، حيث عطلت هذه المبادرة المزعومة بأساليب مختلفة، بما في ذلك التلاعب بشروط الدعوة إلى حوار وطني جامع للكل وأسسه، ما أكد اتساع المسافة بين خطابها الإعلامي وموقفها السياسي العملي، الذي لم يغادر «إتفاق أوسلو» والتزاماته، والتمسك بسراب« المقاومة السلمية»، في إدانة غير مباشرة للمقاومة بكل أشكالها المتلاحقة وقائعاً من نور ونار في كل من القطاع والضفة، مواصلة رهانها على الوعود الأميركية.

■ بالمقابل، نجحت فصائل المقاومة مجتمعة في إدارة المعركة العسكرية، وإلحاق الخسائر بجيش العدو، ما أكد مجدداً مصداقية خيار المقاومة، ونجاعته، وأكد في السياق نفسه، جدية فصائل المقاومة، في الدفاع عن شعبها ومصالحه وحقوقه، وقدرتها على إعادة تقديم القضية الفلسطينية إلى العالم، باعتبارها قضية تحرر وطني لشعب تحت الاحتلال، يواجه آلة القتل الجماعي بشجاعة لا توصف، يُقتل ويتوجع، لكنه لا يسلم ولا يستسلم. وفي هذا الإطار إستطاعت حركة حماس في إعادة تقديم نفسها إلى الرأي العام، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من حركة التحرر الوطني، بفعل دورها وتضحياتها وصمودها.

■ حركتا فتح وحماس إفتقدتا معاً إلى القدرة على إطلاق مبادرة توحيدية، في اللحظة التاريخية التي صنعتها عملية 7 أكتوبر، والحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، فبدت القيادة الرسمية في زاوية الحركة السياسية في الإقليم، وعلى هامش المشاورات الجارية، لولا تلك الكوة الضيقة التي توفرت لها من خلال عضويتها في لجنة المتابعة المنبثقة عن قمة الرياض العربية – الإسلامية.

وفي الحالتين، تبقى الحالة الوطنية تفتقر إلى قيادة موحدة، كونها هي المعنية برسم الاستراتيجية الوطنية في متابعة مسار النضال الوطني الفلسطيني، وهو ما من شأنه أن يضعف الطرفين، القيادة الرسمية في رام الله، وقيادة حماس عند الوصول إلى مفاوضات مفصلية تتناول القضايا الأهم في ملف الصراع. والمثال الساطع على ذلك غياب الرؤية الفلسطينية الموحدة لما يسمى «مستقبل إدارة غزة»، سواء توقفت حملة «السيوف الحديدية»، أو إستؤنفت بمسمى آخر■

(5) السلطة الفلسطينية

■ سبق الحرب التي أطلقتها عملية «طوفان الأقصى» مواقف وتصريحات لحكومة التحالف اليميني الأصولي الفاشي، تشكك في قدرة السلطة الفلسطينية على أن تكون «شريكاً» إذ رغم إلتزام السلطة من طرف واحد باستحقاقات أوسلو الاقتصادية والأمنية بما في ذللك تعطيل القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية قرارات المجلس الوطني والمركزي، القاضية بفك الإرتباط مع إتفاقيات أوسلو، وتعطيلها تشكيل قيادة وطنية موحدة لدعم المقاومة الشعبية، وإصرارها بالمقابل – تجنباً لوصمها بالإرهاب – على الالتزام في الخطاب الرسمي الفلسطيني بما سمي «المقاومة السلمية» التي عجزت حتى الآن عن تقديم تعريف محدد لها، ما عدا كونها مغايرة لكل أشكال المقاومة القائمة بالفعل في الضفة والقطاع.

■ وفي هذا السياق يصر الجانب الإسرائيلي على أن تقوم السلطة بخطوات أبعد في قمع الحركة الشعبية الفلسطينية بما فيها ظاهرة مقاتلي الحرية المنتشرين في مدن وبلدات ومخيمات الضفة الغربية، حتى لو أدى ذللك إلى فتنة فلسطينية تضع السلطة في مواجهة الشارع. كما تطالب إسرائيل السلطة التوقف عن تدويل القضية واللجوء إلى محكمة العدل الدولية، ومحكمة الجنايات الدولية، وتغيير المناهج التعليمية والتخلي عن الرواية التاريخية الفلسطينية، ووقف ما يعتبره العدو تحريضاً، كما ورواتب الأسرى وعائلات الشهداء، الخ..

■ إذا كان نتنياهو قد قطع الطريق على أية تسويات سياسية بدعوى الافتقار إلى شريك فلسطيني للتسوية (أي التسوية بالمعيار الإسرائيلي، وليس بمعيار الشرعية الدولية، والقانون الدولي، وحق تقرير المصير،..) فإن رئيس الولايات المتحدة جو بايدن، أطلق في 17/11/2023 دعوته لقيام «سلطة متجددة» على حد تعبيره، دون أن يفصل معناها، الذي لا يمكن أن يعني سوى إعادة هيكلة السلطة الفلسطينية، مؤسسات وأفراد، بما يوفر الشرط اللازم لإدامة صيغة الحكم الإداري الذاتي الذي يفي باستحقاقاته الاقتصادية والأمنية والسياسية نحو إسرائيل، بما في ذلك قمع الحركة الشعبية وشل قدرتها على الفعل والتأثير، وشطب المشروع الوطني الفلسطيني وإعادة برمجة أنظمة التعليم وكذلك إعادة صياغة الرواية الفلسطينية، وسن قانون جديد للإعلام يرسم سقفاً لحرية الرأي تحت حجة منع التحريض ضد الاحتلال، ويسلم بواقع «القدس الموحدة» عاصمة الإسرائيل.

■ إذن، «المتجدد» في هذا المجال، ليس إلا إستعادة للـ «قديم» من خلال تشكيل سلطة تصطف في المعادلة الأمريكية للإقليم، وفي القلب منها تصفية القضية الفلسطينية. ولعل جيك سوليڤان، مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض عبَّر بوضوح، عن شروط «إعادة بناء السلطة الفلسطينية وتجديدها» لتتحمل مسؤولياتها في المرحلة التي تعقب وقف إطلاق النار، عندما حدد لها ثلاث مهمات: «الإلتزام التام بأمن دولة إسرائيل، والإلتزام التام بقيم المجتمع الدولي، وتلبية إحتياجات الشعب الفلسطيني».

■ منذ الدقيقة الأولى لشن إسرائيل حربها الدموية على قطاع غزة أـخذت الدوائر الغربية السياسية والبحثية في الحديث عما يسمى «اليوم التالي…»، الذي يفترض هزيمة المقاومة وتسليمها لسلاحها وسقوط خيار الصمود وتركيع الشعب الفلسطيني وتدمير إرادته الوطنية. وفي هذا السياق تعددت المشاريع والسيناريوهات، ومنها السيناريو الإسرائيلي الذي توزع بين الحديث عن بقاء دائم لقوات الاحتلال في غزة وبين إعادة الانتشار حول القطاع في حزام أمني يستقطع أجزاء واسعة منه شمالاً وشرقاً فضلاً عن الحصار البحري والرقابة الجوية. كذلك تداولت الدوائر الغربية بمشروع لإعادة الانتداب الاستعماري إلى غزة بوظيفة محددة هي استكمال مالم يحققه العدوان من تجريد الشعب ومقاومته من السلاح وفرض أحكام عسكرية توفر شروط (الاستقرار الأمني) وتحويل القطاع إلى جار «صديق لإسرائيل»، بما في ذلك الحديث عن نفي قادة المقاومة والحركة الوطنية إلى خارج فلسطين.

■ غير أنه من الواضح أن هذه الأمور لن يقيَّض لها النجاح، طالما إستمرت المقاومة بكل أشكالها في الضفة والقطاع، واستمر المدد من الشعب الفلسطيني في كل مكان، وإلى جانبه ومعه حركات التحرر الوطني في المنطقة، والحركات الشعبية عموماً في كل أنحاء العالم■

(6) موقف الجبهة الديمقراطية

■ حددت الجبهة الديمقراطية موقفها حيال ما يتم تداوله من مشاريع، كما يلي: إن الحديث عن «اليوم التالي» إنما هو ترويج إنهزامي يقوم على الرهان على إنكار المقاومة وكسر إرادة الشعب الفلسطيني في غزة وفرض شروط الإسرائيلي المنتصر (زعماً) ليس على القطاع وحده، بل على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، كمقدمة لفرض شروطه السياسية التصفوية. وعليه، فإن كافة المشاريع والسيناريوهات التي تندرج في هذا السياق مرفوضة رفضاً قاطعاً، أياً كان شكلها، وأيا كان مصدرها، فليست إسرائيل ولا الولايات المتحدة ولا بريطانيا ولا أياً من الأطراف الإقليمية يملك الصلاحية في تحديد ورسم مستقبل قطاع غزة لا الآن، ولا في ما يسميه «اليوم التالي..». مستقبل غزة وأي بقعة من ترابنا الوطني المحتل، ترسمه الآن وفي كل أوان، وإلى دهر الداهرين، المقاومة والصمود البطولي لشعبنا، ولا شيء سواهما، وفي كل الأحوال لن يكون إلا مستقبلاً وطنياً فلسطينياً.

■ على هذه الخلفية، أطلقت الجبهة الديمقراطية في 5/11/2023 مبادرة سياسية، دعت فيها إلى إعادة النظر بالواقع الفلسطيني المستجد بعد 7/10 على قاعدة أن المعادلات الوطنية ما بعد 10 أكتوبر هي غيرها ما قبلها، الأمر الذي يفترض إعتماد مبادرة وطنية شاملة ترتقي بالمسؤولية الوطنية إلى ما يستجيب للاستحقاقات الحالية والقادمة. من هنا دعت الجبهة الديمقراطية إلى حوار وطني شامل وملزم لكافة الأطراف بنتائجه يقود إلى تشكيل إطار قيادي موحد تحت سقف منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، مدخلاً لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني المؤهل لحمل أعباء استراتيجية كفاحية جديدة وبديلة تربط بين مستقبل الضفة – بما فيها القدس – ومستقبل القطاع باعتبارهما معاً، ودون أي إنتقاص أو إقتطاع، يشكلان التراب الوطني الذي ستقام عليه الدولة الفلسطينية المستقلة. وقد نصت هذه المبادرة بعنوان «رؤية سياسية للتعامل مع التحديات الراهنة» على مايلي:

«1- الإعلان فوراً عن وقف اطلاق نار شامل ومستدام وإنشاء آلية دولية لمراقبة إلتزام الأطراف كافة بوقف النار.
2- العمل على تنفيذ خطوات متزامنة لضمان ما يلي:
أ) فك الحصار وتزويد السكان في قطاع غزة بالغذاء والماء والكهرباء والوقود والدواء والخدمات الطبية والإنسانية؛ ب) اخلاء سبيل المدنيين المحتجزين في قطاع غزة؛ ج) بدء مفاوضات للإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين من الجانبين وتبادل الجثامين.
3- رفض التهجير القسري للسكان في قطاع غزة وتأمين المأوى المؤقت للنازحين في أماكن إقامتهم.
4- البدء الفوري بعملية إعادة إعمار القطاع تحت إشراف آلية دولية من الجهات المانحة، بما في ذلك صندوق دولي مخصص لهذا الغرض.
5- الوقف الكامل للأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية كافة بما في ذلك ما يسمى بالنمو الطبيعي ووقف إرهاب المستوطنين.
6- وقف إجراءات تهويد القدس وضمان إحترام الوضع القانوني التاريخي للمسجد الأقصى وسائر الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، ونبذ مخططات التقسيم الزماني والمكاني للحرم الشريف.
7- عقد مؤتمر دولي تحت إشراف الأمم المتحدة، وعلى أساس قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، بهدف التوصل إلى حل سياسي شامل يكفل إنهاء الاحتلال وإنجاز إستقلال دولة فلسطين وممارستها سيادتها الكاملة على أرضها وعاصمتها القدس بحدود الرابع من حزيران (يونيو) 67، وحل قضية اللاجئين على أساس القرار الأممي 194، الذي يكفل لهم حق العودة إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها منذ عام 1948.
8- منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، هي التي تمثل دولة فلسطين في المؤتمر الدولي، وسوف تشكل وفدها بالتوافق بين الفصائل الفلسطينية كافة ومشاركتها على قاعدة برنامج م.ت.ف القائم على الالتزام بقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، التي تضمن إنهاء الاحتلال وإنجار إستقلال دولة فلسطين بعاصمتها القدس بحدود الرابع من حزيران (يونيو) 67 وضمان حق اللاجئين وفق القرار194 في العودة إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها منذ عام 1948.
9- ينجز المؤتمر الدولي مهمته خلال سقف زمني متفق عليه لا يتجاوز العام.
10- خلال هذا السقف الزمني فإن إدارة قطاع غزة هي شأن داخلي فلسطيني يتم حله على أساس تنفيذ إتفاقيات المصالحة المبرمة بين الفصائل الفلسطينية كافة»■

(7) من هنا، إلى أين؟

■ العدو لم يدرك أهدافه، والمقاومة صمدت وأحبطت أهداف العدو، ما يطرح سؤال: كيف نحوّل فشل العدو إلى هزيمة، وكيف نحوّل الصمود إلى إنتصار؟

الإجابة الصحيحة على هذا السؤال تكون بإعادة التأكيد على ما يلي: الثبات على خيار مواصلة المقاومة والدفاع المستميت عن القطاع + تصعيد المواجهة بكل أشكالها في الضفة الغربية + تصعيد الحالة الجماهيرية المؤازرة للشعب الفلسطيني ومقاومته في كل مكان + إستثمار جهود المساندة بمنحاها التراكمي الصاعد، التي نشأت في المحيط العربي: لبنان – سوريا – العراق – اليمن…

■ الحالة الفلسطينية ينبغي أن تقدم إجابة على التطورات المطروحة من قبل مختلف الفرقاء إنطلاقاً مما يلي: نتنياهو يريد الإستئصال المادي والسياسي للمقاومة، الإمساك الأمني بالقطاع، خلق مناطق عازلة، الخ… ولا يقبل بعودة السلطة التي يعتبرها غير مقبولة لأنها لم تُدن 7 أكتوبر، الخ… إلى جانب هذا ثمة من يقترح مرحلة إنتقالية، تدار عربياً – دولياً (غوتيرش)؛ كما أن الرئيس الأميركي يقترح تجديد السلطة (سلطة متجددة) على الضفة والقطاع.

جميع هذه الإقتراحات تنطلق من فرضية هزيمة المقاومة، ومن هنا عدم واقعيتها. وبالنتيجة فإن ما يقرر الحالة الفلسطينية أمران: نتائج الميدان + توحيد الصفوف، وحدة الصف، التي بدورها تستدعي: حوار وطني + التوحد على مكونات الكيانية الفلسطينية: وحدانية التمثيل + الدولة الحرة السيدة المستقلة وحق العودة، مسوَّرة بقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة■

20/12/2023