في الحرب والسياسة: فلسطين والإقليم بعد «طوفان الأقصى» – أكتوبر 2023 (1/2)

في الحرب والسياسة: فلسطين والإقليم بعد «طوفان الأقصى» – أكتوبر 2023 (1/2)
فهد سليمان: نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات
«ملف»

في الحرب والسياسة
فلسطين والإقليم بعد «طوفان الأقصى» –
حرب تشرين/ أكتوبر 2023 (1/2)

fahd-soulayman في الحرب والسياسة: فلسطين والإقليم بعد «طوفان الأقصى» - أكتوبر 2023 (1/2)

فهد سليمان:
نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية
لتحرير فلسطين
مقدمة
1- طبيعة الحرب … في الجانب العسكري وانعكاساته المباشرة
2- «طوفان الأقصى» … حرب محلية أم إقليمية؟
3- العملية السياسية … محطات في مسار الصراع
4- في مواجهة المخطط الأصلي

28/1/2024

مقدمة

■ في سلسلة الحروب العربية – الإسرائيلية التي إفتتحتها حرب 1948، ومن ثم حرب السويس– 1956 (العدوان الثلاثي) + حرب الأيام الستة – حزيران (يونيو) 1967 + حرب الإستنزاف لأكثر من عام على جبهة القناة– 3/1969 إلى 8/1970 + حرب العبور إلى سيناء والجولان – تشرين (أكتوبر) 1973، إختتمت الأخيرة مرحلة ما يُسمى بـ«الحروب المتناظرة»، أي تلك التي تدور بين دول وجيوش نظامية تُخاض بتشكيلات عسكرية متشابهة، بغض النظر عن كفاءة الأداء في الميدان ومستوى التسليح ونوعيته.

■ الأعمال الحربية اللاحقة، التي دارت رحاها على أرض لبنان (من بيروت جنوباً وحتى الحدود) بين الجيش الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية المتحالفة – في حينها – مع الحركة الوطنية اللبنانية، بدءاً من حرب الليطاني– 1978، مروراً بحرب الجسور– 1981، وصولاً إلى اجتياح 1982 (حرب لبنان الأولى بالتسمية الإسرائيلية)؛ هذه الحروب تنتسب إلى نمط «الحروب غير المتناظرة»، التي تكون فيها المواجهة بين جيوش نظامية لدول، وبين حركات تحرر وطني بتشكيلاتها الفدائية والدفاع الذاتي المحلية. (في هذا الإطار لا يفوتنا التذكير بأن حرب 1982 إنطوت على فصل عسكري مهم، إنحكم لمنطق «الحرب المتناظرة»، عندما واجه الجيش العربي السوري في معركتي عين زحلتا – المديرج + عين السلطان، القوات الإسرائيلية الزاحفة وردها على أعقابها).

■ توصيف «الحرب غير المتناظرة» ينطبق أيضاً على الحروب التي خاضتها إسرائيل ضد حزب الله في لبنان، من خلال 3 محطات فاصلة: الإجتياح الجوي –1992 + عناقيد الغضب– 1996، أي المواجهتان اللتان مهدتا لفرض قواعد إشتباك كفلت – بغطاء من الشرعية الدولية – حق المقاومة المسلحة ضد جيش الاحتلال، الذي تحظر عليه – في الوقت نفسه – الإعتداء على المدنيين في المناطق المحتلة،… وصولاً إلى حرب 2006، حرب الـ33 يوماً (حرب لبنان الثانية بالتسمية الإسرائيلية) التي كرّست قواعد الإشتباك القائمة على معادلة الردع المتبادل على جانبي حدود البلدين، وهي الحرب التي بلور فيها العدو (وبالتحديد على يد أيزنكوت، رئيس الأركان اللاحق، وأحد أركان كابينيت الحرب الحالي)، وبنتيجة تقييم معمق لوقائعها، ما أسماه بـ«عقيدة الضاحية» (نسبة إلى الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت بالدمار الواسع الذي لحق بها جرّاء الحرب)، التي تستهدف إلحاق الهزيمة بالمقاومة من خلال التسبب بأفدح الأضرار بالبنى التحتية، وبالسكان المدنيين، لوضعهم في مواجهة عدائية مع المقاومة.

■ تصنيف نمط معين من الحروب في خانة «الحروب غير المتناظرة» يسري أيضاً على الحملات والحروب التي شنتها إسرائيل على الشعب الفلسطيني ومقاومته في الضفة والقطاع، بدءاً من هبّة النفق – أيلول (سبتمبر) 1996، مروراً بحملة السور الواقي- 2002/ 2004، التي إستهدفت القضاء على الإنتفاضة الثانية– 28/9/2000 حتى 8/2/2005 تحت شعار «دعوا الجيش ينتصر» و«كي وعي الشعب الفلسطيني»، لكي يتخلى نهائياً عن المقاومة، لا بل يُقلع نهائياً عن مجرد التفكير بهذا الخيار؛ وانتهاءً بما تعرض له قطاع غزة على امتداد 16 عاماً (من عدوان أمطار الصيف/ الوهم المتبدد– 25/6/2006، وحتى السهم الواقي/ ثأر الأحرار– 5/2023، محطة العدوان الأخيرة التي سبقت عملية طوفان الأقصى/ السيوف الحديدية – 7/10/2023)(1).

*(1) في هذا الإطار تندرج 10 حملات وحروب سابقة على «طوفان الأقصى»، وهي بالتسميتين الإسرائيلية والفلسطينية كما يلي:
1- أمطار الصيف/الوهم المتبدد– 2006/6؛
2- شتاء ساخن/محرقة غزة– 2008/2؛
3- الرصاص المصبوب/معركة الفرقان– 2008/12 إلى 2009/1؛
4- عامود السحاب/حجارة السجيل– 2012/11؛
5- الجرف الصامد/العصف المأكول– 2014/7؛
6- الحزام األسود/صيحة الفجر– 2019/11؛
7- حارس األسوار/سيف القدس– 2021/5؛
8- كاسر األمواج– 2022/3؛
9- الفجر الصادق/ وحدة الساحات– 2022/8؛
10- السهم الواقي/ ثأر األحرار– 2023/5.

■ ومن بين الحملات العسكرية العشر التي تعرض لها قطاع غزة، تحتل ثلاث حروب منها مكان الصدارة من حيث المدة التي إستغرقتها، والخسائر البشرية والمادية التي تسببت بها، والسياق السياسي الذي إندرجت فيه، وهي: 1- «الرصاص المصبوب/ معركة الفرقان»، التي إستغرقت 23 يوماً، بدءاً من 27/12/2008، إرتقى فيها 1.430 شهيداً فلسطينياً؛ 2- «الجرف الصامد/ العصف المأكول»، التي إستغرقت 51 يوماً، بدءاً من 7/7/2014، إرتقى فيها 2.322 شهيداً فلسطينياً؛ 3- «حارس الأسوار/ سيف القدس»، التي إستغرقت 11 يوماً، بدءاً من 10/5/2021، إرتقى فيها 256 شهيداً فلسطينياً، والتي على قصر مدتها – قياساً على ما سبقها – تستمد أهميتها من كونها توّجت – إنطلاقاً من قطاع غزة – المساهمة الكفاحية للكل الفلسطيني في كافة مناطق تواجده (الضفة بما فيها القدس + الـ48 + الشتات)، باعتماد أشكال النضال المجدية، المنسجمة مع الشروط والتوازنات السائدة في كل ساحة من ساحات العمل الوطني، معبرة بذلك عن وحدة هذه الساحات، وتكامل أشكال النضال فيما بينها.

■ تقع الحرب التي أطلقتها عملية «طوفان الأقصى»، في امتداد «الحروب غير المتناظرة» التي تسيّدت مشهد الصراع مع إسرائيل على امتداد نصف قرن من الزمن، أي منذ حرب تشرين/ أكتوبر 1973، لكنها تتمايز عن سابقاتها، إن لم يكن تختلف عنها بعدد من الأمور، سواء بأسلوبها، نمطها، إصطفافاتها، وتداعياتها، سواء على مستوى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، أو من زاوية المشهد الجيوسياسي في الإقليم، هذا ما سيتم تناوله فيما يتبع، آخذين بالاعتبار أنه نظراً لموقعية عملية «طوفان الأقصى» في تاريخ الصراع مع الكيان الغاصب، وتداعياتها المرتقبة، سنشير إليها بحرب تشرين/أكتوبر 23، على غرار حرب تشرين/أكتوبر 73، أو حرب 7/10، الخ …

(1)
طبيعة الحرب …
في الجانب العسكري وانعكاساته المباشرة

■ من بين «الحروب غير المتناظرة» التي خيضت ضد الكيان الغاصب، تتسم حرب تشرين/ أكتوبر 23 بأمور، تؤكد فرادتها ورقيّْ سويتها، ويتمثل أهمها بمايلي:

أولاً- بأسلوبها المبتكر في المحطات الثلاث التي إجتازتها حتى كتابة هذه السطور:

1- في محطة الإغارة الاستراتيجية في ساعاتها الأولى، التي طاولت العمق المعادي، بعد الإطاحة بجدار غزة المنيع، الذي كان يسوّق باعتباره عصياً على الإختراق، وصولاً إلى غلاف غزة (أو غرب النقب) بمستوطناته ومواقعه العسكرية الحاضنة لـ«فرقة غزة» المكلفة – إلى جانب مهماتها الدفاعية، التي لم يكن يتراءى لها، أنها ستكون مطروحة عليها عملياً – بالاعتداء دورياً على قطاع غزة، على ما كان عليه الحال، فيما مضى.

2- وفي محطة إحتواء مفاعيل القصف التدميري للقطاع، الذي طاول البنيتين الحضرية بمدنييها والعسكرية بمقاتليها، والرد عليها بالمثل ودونما إنقطاع على امتداد 19 يوماً سبقت شروع العدو بالغزو البري للقطاع.

3- كما وفي محطة الصمود الأسطوري للمجتمع الفلسطيني رغم تكبده خسائر هائلة في الأرواح والممتلكات، والدمار الواسع الذي لحق بالبنية التحتية والمرافق الحيوية في القطاع، تعبيراً عن إرادة وطنية لا تلين عند الشعب، وإرادة القتال حتى النصر المبين لدى الفدائيين، فبتنا أمام ظاهرة المقاتل المندمج في مجتمعه، المنصهر بقضية الوطن، المتفوق معنوياً وأخلاقياً على عدو هابط السوية، معنوياً وأخلاقياً، على الرغم من تفوقه التقني.

ثانياً- في المحطات الثلاث آنفة الذكر، تجلت عبقرية العقل العسكري الفلسطيني، وتفوقه في التنظيم والتخطيط والقيادة والسيطرة (C&C) والأداء التكتيكي، كما تبدَّت في مهارة الميدان، وحسن إستخدام الأسلحة المتاحة المضادة للدروع والتحصينات والأفراد، وصولاً إلى ذروة الإبداع، عندما تحوّلت شبكة الأنفاق، بما هي – أساساً – بنية تحتية بوظيفة دفاعية (إيواء المقاتلين وتخديمهم + مراكز القيادة والسيطرة + أدوات العمل التذخيرية والتسليحية واللوجستية، الخ …) إلى سلاح هجومي من الطراز الأول.

ثالثاً- تسببت الحرب على الجبهة الرئيسية في غزة، وجبهتي الإسناد في الضفة الغربية وجنوب لبنان، بـ«استنزاف تكتيكي» لدولة العدوان على أكثر من مستوى:

1- الأول، تعبر عنه أرقام قاطعة وناطقة بحد ذاتها، بالخسائر البشرية العالية، والمادية المكلفة التي لحقت بجيش العدو، والنزف الاقتصادي الغائر الذي لحق بالدولة والمجتمع بشكل عام.

2- المستوى الثاني، يمثله الإستنزاف بجانبه الأمني، الذي لا يقتصر تعريفه – إسرائيلياً – على مستوى الدولة فحسب، أي بالمعنى الإجمالي للمصطلح الذي يعبر عنه عادة مفهوم «الأمن القومي»، بل أيضاً على مستوى أمن الأفراد والمجتمع المحلي بالمعنى الضيق للكلمة، والذي يترجم بمقولة: الأمن الكامل لمواطني الدولة على كامل مساحتها، وليس الأمن المنقوص في مناطق معينة من الدولة، كما هو حال مستوطنات غلاف غزة أو شمال فلسطين، التي نجم عن أعمال المقاومة فيها، تهجير ربع مليون من سكانها.

3- المستوى الثالث، يطاول سمعة إسرائيل بالخسارة التي لحقت بها على يد المقاومة الفلسطينية، فثلمت أسطورة الكيان، كدولة مرهوبة الجانب بحكم إمتلاكها لجيش لا يقهر، ومخابرات لا تخيب، وتكنولوجيا شاهقة المستوى، الخ … هذا إلى جانب ما نتج عن الجرائم الموصوفة التي إرتكبتها دولة العدوان بحق المدنيين من أبناء الشعب الفلسطيني، ما أدى إلى تلطيخ سمعتها، وقوَّضّ الأسس الأخلاقية التي يقوم عليها أي كيان سياسي، وقادها صاغرة إلى قوس «محكمة العدل الدولية» بتهمة إرتكاب جريمة الإبادة الجماعية – Genocide، ما يستدعي إنزال العقاب بها، حتى لو إقتصر الأمر على مجرد توافر النية لارتكاب هذه الجريمة، وهذا ما حصل بداية– 26/1/2024 بالتدابير الإحترازية التي أقرتها المحكمة المندرجة في إطار الشق المستعجل في القضية المرفوعة.

 

■ ما سبق يطرح السؤال التالي: لمن الكلمة الأخيرة في هذه الحرب؟ للمقاومة، أم لدولة العدوان؟ ففي الحروب المتناظرة، وعندما تتوفر الإدارة التكتيكية المتمكنة في إطار الاستراتيجية المناسبة، تكون الغلبة – في العادة – لمن يملك «قوة النيران» ويتفوق في إدارتها. أما في الحرب غير المتناظرة، فتكون الغلبة للمقاومة القادرة على مواصلة «إستنزاف» قدرات عدوها. وهذا ما يمكن للمقاومة الفلسطينية أن تحققه بتضافر عدد من العوامل، أهمها يقوم على مواصلة المقاومة المحمية بصمود مجتمعها، وكذا الأمر بالنسبة لدور جبهات الدعم والإسناد الشقيقة، وبالتوازي معها تعاظم زخم حركات التضامن الشعبي في كل مكان. هذا ما يمكن البناء عليه، كي ينتصر الشعب الفلسطيني في معركة شاقة، ما زالت تفتقد إلى مرجعية وطنية عليا تضم الكل الفلسطيني، يشكل غيابها حتى الآن، ثغرة بيَّنة في صموده.

(2)
«طوفان الأقصى» … حرب محلية أم إقليمية؟

[■ كانت حرب تشرين/ أكتوبر 73، آخر الحروب الإقليمية في المنطقة، حيث إلتقت على أرضها وتوحدت جهود وإمكانيات ثلاث دول عربية محورية بمواجهة إسرائيل: مصر وسوريا في الجانب العسكري، والسعودية في الجانب الاقتصادي المتمثل بسلاح قطع النفط عن الغرب. وكانت لهذه الحرب أبعادها الدولية، إذ وضعت قطبي النظام العالمي في حينها: الولايات المتحدة والإتحاد السوڤييتي في مواجهة بعضهما البعض.
الحروب غير المتناظرة في المنطقة التي أعقبت أكتوبر 73، على إمتداد الـ50 عاماً المنصرمة – على أهمية بعضها ومحوريتها – لم تكتسِ طابعاً إقليمياً، فحتى حرب الـ82 التي أخرجت م. ت. ف من لبنان، وأحلّت الجيش الإسرائيلي محتلاً في مناطق واسعة منه، وعلى الرغم من التحول الجيوسياسي المهم الذي أحدثته، لم تأخذ منحى الحرب الإقليمية، والأمر نفسه ينطبق على حرب 2006.
على هذه الخلفية يأتي السؤال حول كيفية تصنيف حرب 7/10 التي أطلقتها عملية «طوفان الأقصى»، هل هي حرب محلية، أم إقليمية؟ وعلى هذا نجيب بما يلي:]

■ سرعان ما عبّرت حرب تشرين/ أكتوبر 23 عن طابعها كحرب إقليمية ذات تداعيات دولية، فمنذ اليوم الأول لاندلاعها، سارعت الولايات المتحدة وفي ذيلها المملكة المتحدة، إلى توجيه قطعها البحرية إلى المنطقة، تحسباً لاحتمال تمدد مسرح العمليات شمالاً، ومنها إلى أكثر من مكان، ودفعت الحرب بعض الملفات السياسية التي كانت تحتل الواجهة، إلى الخلف، فحُجبت حرب أوكرانيا عن الرؤية، وتباطأت على نحو ملحوظ إندفاعة التطبيع في المنطقة … وبالمقابل، دُفعت إلى الواجهة، مساعي إحتواء الحرب وتداعياتها، وجُدد الاهتمام – شكلاً – بملف التسوية، فاستعيدت مقولة «حل الدولتين»، إنما دون تحديد لمضمونها.

■ إلى جانب ما تنطوي عليه القضية الفلسطينية بحد ذاتها من أبعاد إقليمية ودولية في زمن السلم، وبشكل خاص في فترة الحرب، ثمة تطورات هامة على مستوى الإقليم واكبت حرب 7/10 منذ اندلاعها، وساهمت بتأكيد طابعها الإقليمي بامتياز:

1- فجبهة المساندة الفعلية التي أشعلتها المقاومة الإسلامية في لبنان، إنطلاقاً من جنوبه، أثارت في سياقها قضايا ذات طبيعة إقليمية متصلة بالصراع اللبناني – الإسرائيلي: تحرير ما تبقى من أراضٍ لبنانية محتلة (مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وشمال شرق بلدة الغجر) + ترسيم الحدود بعد تسوية النزاع على 13 نقطة على الخط الأزرق + إعادة صياغة معادلة الردع المتبادل على جانبي الحدود، التي أعادت المقاومة الإسلامية صياغتها من خلال تعليق وقف عملياتها ضد الكيان، على وقف العدوان على غزة.

2- في العراق، وإلى جانب القيام بقصف العمق الإسرائيلي، رفعت المقاومة الإسلامية مطلب الخلاص من القواعد الأميركية في العراق، ما يستتبع إنهاء الوجود الأميركي العسكري في شمال شرق سوريا، بكل ما يترتب على ذلك من تغييرات جيوسياسية وجيوستراتيجية في كلا البلدين.

3- وفي اليمن بقيادة أنصار الله، تحوّل شعار التضامن بالنار مع المقاومة في غزة، إلى فرض الحظر على السفن المتوجهة إلى مرفأ إيلات، ما فتح على مواجهة مع الولايات المتحدة طرحت أمن الملاحة في البحر الأحمر – كمسألة إقليمية – في ضوء المسعى الأميركي الحثيث لعسكرته.

■ إن حرب أكتوبر 23، بتعدد جبهاتها على مساحة الإقليم من شط العرب شرقاً إلى المتوسط غرباً، فإلى باب المندب جنوباً، وبطبيعة قضايا الصراع التي أحيتها بأبعادها المحلية والإقليمية معاً، تجعلنا نقف أمام حرب مترابطة الأهداف، تدور فصولها في أكثر من دولة في الإقليم بمواجهة نفس العدو المشترك، وتشكل الحرب الدائرة رحاها في غزة وفي امتدادها في الضفة الغربية – وموضوعها ليس أقل من القضية الفلسطينية – عقدة الحل والربط فيها، فهل ما زلنا بحاجة إلى مزيد من الوقائع لإثبات الطابع الإقليمي للحرب التي نحن بصددها؟.

(3)
العملية السياسية …
محطات في مسار الصراع العربي والفلسطيني – الإسرائيلي

■ منذ أن وضعت حرب الأيام الستة أوزارها – 1967 وحتى يومنا، أي على امتداد ما يقارب ستة عقود من تاريخ الصراع العربي والفلسطيني – الإسرائيلي، قطعت التجربة المعاشة بوقائعها الملموسة، بالحقيقة التالية: إن العامل الأهم – وليس الوحيد بطبيعة الحال – في إدراك التسوية السياسية المتوازنة – ولا نقول العادلة – هو توافر نسبة قوى تفرض نفسها على العدو، قبولاً بهذه التسوية:

1- فلولا حرب الإستنزاف – 1969/ 1970 التي ألحقت بإسرائيل خسائر بالغة على الجبهة المصرية بشكل رئيسي، ومعها عمليات المقاومة الفلسطينية على أكثر من جبهة، لما وافقت إسرائيل على مشروع وزير الخارجية الأميركي وليم روجرز – 7/1970( )، بوقف إطلاق النار لمدة 3 شهور (إستغرقت 3 سنوات و3 شهور في واقع الحال) يبحث خلالها مبعوث الأمم المتحدة غونار يارينغ عن تنشيط عملية التسوية كوسيط بين الأطراف المعنية على أساس القرار 242 – 22/11/1967، الذي لم تكن تل أبيب تعتبره أكثر من إطار للمفاوضات المباشرة (أي بدون وسيط)، وليس قراراً للتنفيذ، رغم الغموض أو الإلتباس الذي يحيط بالنص، فيما يتصل بتمامية الانسحاب من جميع الأراضي المحتلة حتى خط الرابع من حزيران (يونيو) 1967، أي من سيناء + الجولان + الضفة الغربية + قطاع غزة + بعض النقاط على الجبهة الأردنية.

*(1) نص مشروع وزير الخارجية الأميركي وليم روجرز على قيام كل من مصر والأردن وإسرائيل بإبالغ الأمين العام للأمم المتحدة أنها
تقبل قرار مجلس الأمن الرقم 242 بكل أقسامه ومستعدة لتنفيذه، وأنها توافق على تعيين مندوبين عنها في محادثات تجري تحت رعاية
الأمين العام في الوقت والمكان اللذين يقررهما، على أن يكون هدف هذه المحادثات إحلال سلام عادل وثابت بالشرق الأوسط يقوم على
المباديء التالية:
1- يعترف كل طرف بسيادة الطرف الآخر وتكامله الإقليمي واستقلاله السياسي.
2- تنسحب إسرائيل من المناطق التي إحتلتها في حزيران (يونيو) ،1967 وذلك طبقا لقرار مجلس الأمن 242.
3- ما دامت التسوية لم تتحقق، فإنه يترتب على الأطراف كلها أن تحافظ بدقة على وقف إطلاق النار الذي يدخل حيز التنفيذ في بداية تموز (يوليو) 1970 حتى بداية تشرين الأول (أكتوبر) 1970.
– ملاحظة: في الواقع العملي، بقي وقف إطلاق النار مستمرا على الجبهة المصرية حتى إندلاع حرب تشرين/ أكتوبر 1973.

2- ولولا «نصف الهزيمة التي أُلحقت بإسرائيل» (على قول شمعون بيريس) جرّاء حرب تشرين/ أكتوبر 73، لما قبلت إسرائيل الشروع بالإنسحاب من الأراضي المصرية المحتلة بعدوان 67، بموجب إتفاقيتي سيناء الأولى- 1/1974 وسيناء الثانية- 9/1975، وصولاً إلى إتفاقية كامب ديڤيد – 9/1978، التي مهَّدت لمعاهدة السلام المصرية/ الإسرائيلية – 3/1979، التي قادت – بدورها – إلى الجلاء الكامل عن سيناء المحتلة (باستثناء بقعة طابا بمساحة 1 كم2، التي أُخليت لاحقاً بالتحكيم الدولي).

3- ولم يكن لجيش الاحتلال الإسرائيلي أن يخرج مدحوراً، ودون قيد أو شرط، من المناطق التي كان يحتلها في لبنان، لولا الإستنزاف الذي تعرض له على امتداد 18 عاماً (من 6/6/1982 – تاريخ بدء الإجتياح الشامل، وصولاً إلى العاصمة بيروت، وحتى 24/5/2000 – تاريخ التحرير)، على يد المقاومة المسلحة المستمرة بمختلف مراحلها (المقاومة الفلسطينية، التي سَلَّمت الراية إلى جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية – جمّول، فأفواج المقاومة اللبنانية – أمل، قبل أن تؤول إلى المقاومة الإسلامية – حزب الله)، والتي تسببت بمقتل أكثر من 1.550 عسكرياً إسرائيلياً، ما عدا قتلى الرديف العميل – «جيش لبنان الجنوبي».

4- ولم تكن الحكومة الإسرائيلية برئاسة أريئيل شارون لتقدم على إقرار ما سمي بخطة «فك الارتباط أحادي الجانب» – 6/6/2004، لولا الفعل الإستنزافي للمقاومة، الذي ترتب عليه تفكيك 4 مستوطنات شمال الضفة الغربية، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة – 12/9/2005 بعد تفكيك مستوطنات القطاع، إنما مع إبقاء الحصار مضروباً حول غزة، ما جعل الانسحاب المحقق، أشبه بعملية «إعادة إنتشار».

■ قد يُقال، تعليقاً على ما سبق، وبحق، إن إسرائيل لم تكن لتقبل بمشروع روجرز، لو لم ترَ فيه ميزة التخلص من خسائر حرب الإستنزاف، مع معرفتها أن مصر سوف تستفيد من وقف إطلاق النار لتشييد الجدار الصاروخي المضاد لطيران تل أبيب؛
… أو لتقبل بالإنسحاب الكامل من سيناء، لو لم ترَ في خروج الدولة العربية الأهم من دائرة المواجهة العسكرية مكسباً جيوسياسياً وجيوستراتيجياً ثميناً، يساعد – من بين أمور أخرى – على إحكام القبضة على الضفة الغربية – «الجائزة» الكبرى من حرب الـ67 -، إلى جانب ما يقود إليه من تعميق لهوة الخلافات العربية، وضرب وحدة الصف في الصميم، كما تجلّت في حرب تشرين/ أكتوبر 73؛

… أو لتقبل بإعادة الإنتشار من غزة بعد تفكيك مستوطناتها، لو لم ترَ فيه «تضحية تكتيكية» مقابل مكاسب إستراتيجية، تتمثل بـ«تجميد عملية السلام» (على قول ڤايسغلاس، المستشار الرئيسي لشارون)، أي العملية السياسية المطروحة من خلال خطة «خارطة الطريق»، التي كانت ستُدخل إسرائيل – وإن بسقف هابط بالنسبة للفلسطينيين – في تسوية تفرض على تل أبيب تقديم تنازلات تتعاكس مع خطة «إبتلاع» الضفة الغربية (!)؛ إلى جانب الرهان على تأسيس قاعدة لانقسام فلسطيني لاحق، يؤكد «عدم أهلية» الفلسطينيين لنيل الاستقلال.

… أو لتقبل الانسحاب من جنوب لبنان، ليس لتجنب مواصلة إستنزاف جيشها على يد المقاومة فحسب، ما كان يقابل بسخط متزايد في الرأي العام الإسرائيلي، بل أيضاً ضمن الرهان على ضرب ما كان يسمى بـ«وحدة المسارين» التفاوضيين اللبناني والسوري، باعتبارهما يملكان معاً أراضٍ تحتلها تل أبيب، الأمر الذي لم يحصل؛ كما لم ينجح الرهان على إفقاد المقاومة مبرر وجودها، حيث أتت حرب 2006 لتؤكد على أهمية دور الجيش اللبناني، والمقاومة معاً في الدفاع عن حياض الوطن.

■ تؤكد المحطات الآنف ذكرها في مسار الصراع العربي والفلسطيني – الإسرائيلي على الحقائق التالية:

1- نسبة القوى المؤاتية هي التي تضمن تحقيق مكاسب وطنية من خلال عملية سياسية ذات مغزى، سواء بأسلوب المفاوضات المباشرة – كما في حال الانسحاب من سيناء، أو من خلال دور وسيط (في العادة الأمم المتحدة)، كما في حال مشروع روجرز، أو الانسحاب من لبنان، أو إعادة الإنتشار حول غزة.

2- نسبة القوى المؤاتية، بدورها، هي معطى نسبي، فما يتحكم بمخرجاتها هو مدى رجحان كفة الميزان لصالح أحد فريقيها المتواجهين، ففي المحطات التي جرى عرضها، نلاحظ أن نسبة القوى الراجحة، أنتجت إنسحاباً من جنوب لبنان دون قيد أو شرط، أي دون أية مكاسب لتل أبيب، ودون أية إلتزامات من جانب لبنان؛ بينما لم تتوفر نسبة القوى في الحالات الأخرى (سيناء، غزة، وقف إطلاق النار على الجبهة المصرية)، بالمستوى الذي يحول دون تحقيق مكاسب لإسرائيل. بكلام آخر، ثمة نسبة قوى تحقق إنتصاراً كاملاً، وأخرى تكون مسقوفة بتسويات تنتقص – بهذا القدر أو ذاك – من الإنجاز الوطني.

3- بالمقابل، تؤكد التجربة بوقائعها أهمية الإدارة السياسية في استثمار مخزون ما تتيحه نسبة القوى من إمكانيات تترجم بإنجازات؛ فحرب تشرين/ أكتوبر 73 – كمثال – كان بالإمكان أن تقود إلى نتائج أهم من تلك التي حققها إنفراد القاهرة بمسارها التفاوضي الخاص، تخلّت فيه عن شريكها في القتال – سوريا، وعن منظمة التحرير الفلسطينية. والأمر نفسه ينطبق على القيادة الرسمية لــ م. ت. ف، التي لم تستفد بالقدر المطلوب من نسبة القوى المؤاتية الناجمة عن إنطلاق الإنتفاضة الأولى – 1987 واستمرارها لسنوات، للخروج من العملية التفاوضية التي أطلقها مؤتمر مدريد – 30/10/1991، بنتائج سياسية أفضل من تلك التي رست عليها إتفاقات أوسلو المسقوفة بحكم ذاتي محدود الصلاحيات.

إن نسبة القوى المؤاتية وحدها لا تنتج حلولاً وطنية، إلا بقدر ما تستند إلى إدارة سياسية متمكنة، تستخلص منها أقصى ما يمكن من نتائج، وتبني عليها ما يصب في خدمة إنتصار أهداف النضال الوطني التحرري.

4- في معرض تناولنا للعملية السياسية المنتجة لحلول وطنية، إنطلاقاً من توفير نسبة القوى المؤاتية، لا تفوتنا – أخيراً – الإشارة إلى الدور المساند، إنما الهام لقرارات الشرعية الدولية الصادرة عن مؤسسات الأمم المتحدة (الجمعية العامة، مجلس الأمن، مجلس حقوق الإنسان، محكمة العدل الدولية،…)؛ أي تلك القرارات ذات الصلة بالقضية الوطنية، والتي ينبغي الإستناد إليها في المعركة الدائرة منذ عقود حول مضمون حق تقرير المصير لشعب فلسطين. وفي هذا السياق، علينا أن ندرك أهمية هذه القرارات في خدمة حركة التحرر الفلسطينية، إنطلاقاً من قدرتها على إجتياز عتبتين: الأولى، هي نسبة القوى اللازمة لاتخاذ قرارات تخدم القضية الوطنية؛ والثانية، تطاول نسبة القوى اللازمة لتنفيذ هذه القرارات، وهي الأرقى، والأصعب منالاً من الأولى بطبيعة الحال؛ ما يؤكد في الحالتين معاً، أي فيما يتعلق بالعتبتين آنفتي الذكر، بأن ما يحدد نتائج الصراع السياسي في هذا العالم هو نسبة القوى التي تمسك بمقاليدها قيادة سياسية، تجمع ما بين الوعي لجميع العوامل المتحكمة بدينامية الصراع، وبين الإرادة السياسية الجاهزة لمواجهة جميع الصعوبات التي تعترض مسار العملية الوطنية التحررية، وأساسها التسلح بالإيمان المطلق بعدالة القضية الوطنية، والثقة المطلقة بأصالة الشعب، والإخلاص الكامل لمصلحته الصميمة.

(4)
في مواجهة المخطط الأصلي

■ تنتصر حركات التحرر الوطني، أو الدول المحتلة أراضيها، عندما يؤدي نضالها إلى تعاظم خسائر الدولة المحتلة قياساً بالمكاسب التي تجنيها، أو عندما تتوخى هذه الدولة مكسباً بتخففها من أعباء الاحتلال؛ فسرى مفعول هذه القاعدة على إسرائيل عندما إنسحبت – جيشاً ومستوطنين – من سيناء – 1982، ومن بقع جغرافية بعينها من الأردن، إثر التوقيع على معاهدة السلام/ وادي عربة – 1994، ومن جنوب لبنان – 2000.

■ غير أن هذه القاعدة لا تنطبق تلقائياً وبنفس الشروط على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67، لأنها جزء من «أرض إسرائيل» التي يستهدفها المشروع الصهيوني. صحيح أن الأخير أخلى غزة – 9/2005، إنما بخلفية التضحية بالإصبع للإحتفاظ بكامل الجسم، فالمشروع الصهيوني القائم على ركيزتي الضم للأراضي والترحيل للسكان، كان يستوجب «التخلي» عن القطاع، أي عن 1.35% من مساحة «الأرض الموعودة» للخلاص من عبء 33% من أبناء الشعب الفلسطيني المتجذرين في أرض الوطن من «البحر إلى النهر».

■ لكن التجربة عَلَّمَت، أن إسرائيل، إذ غادرت القطاع، فهو لم يغادرها، فعاد إليها بزخم نضالي أشد، تلمست تل أبيب مفاعيله في العقدين الأخيرين، وبلغ ذروته في الحرب الأخيرة، فأحدثت نقلة في تفكير الكيان الغاصب لجهة إستعادة القطاع لمشروع الضم، إنما هذه المرة بأقل عدد ممكن من السكان، أي بإلحاق الضم بالترحيل. ومن هنا ما نشهده حالياً من قيام إسرائيل باستخدام كل أسلحة الدمار المتاحة، لتحويل القطاع إلى منطقة غير قابلة للحياة بالنسبة للأصلانيين من أبنائها.

■ وباستعادة الكيان الغاصب لبرنامجه الأصلي، القائم على الاستعمار الاستيطاني، الذي يستهدف الضفة، بما فيها القدس وغزة معاً، سيضع نفسه بمواجهة حركة وطنية فلسطينية متجددة، إستعادت زخمها وارتقت بأوضاعها، رغم الجراح، على وهج حرب غزة التحريرية، ومعها إنتفاضة الضفة على خلفية النهوض الشعبي المتوثب في الوطن (48 + 67) والشتات.

وإن كانت الثغرة الرئيسية في الحالة الفلسطينية تتمثل بالإفتقاد إلى الوحدة الداخلية المؤسسية على قاعدة البرنامج المشترك، فإن الوضع الحالي يقتضي المعاجلة بإجراء حوار وطني شامل، يبلور السياسة الوطنية الواجب إتباعها، للإنتقال بالمواجهة الوطنية من مستوى الإستنزاف النسبي للعدو، إلى مستوى الإستنزاف الاستراتيجي الذي ينشيء المعادلة الطاردة للإحتلال، والخلاص من شروره، واستعادة الحقوق الوطنية، في إطار حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير على أرضه بحرية.

28/1/2024

تجميل: في الحرب والسياسة – فلسطين والإقليم بعد طوفان الأقصى 28-1-2024-

لا يمكن تنفيذ أوامر محكمة العدل الدولية دون وقف لإطلاق النار في غزة