الاختيارات الاقتصادية السائدة: تكريس للتبعية والهشاشة والافتراس وتدمير البيئة
الاختيارات الاقتصادية السائدة: تكريس للتبعية والهشاشة والافتراس وتدمير البيئة
إذا ما استثنينا محاولة حكومة عبد الله إبراهيم التي أجهضت في المهد، ضلت الاختيارات والسياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية خاضعة، بالأساس، لمصالح الثالوث المكون من الإمبريالية الغربية، وخاصة الفرنسية، والكتلة الطبقية السائدة المشكلة من الملاكين العقاريين الكبار والبرجوازية الوكيلة للشركات المتعددة الاستيطان والمخزن. فما هي مصالح هذا الثالوث؟
1. مصالح الإمبريالية الغربية في المغرب:
تتجلى مصلحة الامبريالية الغربية في الحفاظ على المغرب كسوق لمنتجاتها الصناعية والزراعية، منها بالخصوص المواد الغذائية الأساسية (الحبوب والسكر والزيوت)، والخدماتية والثقافية والتكنولوجية والعلمية والفنية ذات القيمة المضافة المرتفعة وكمصدر للخامات المعدنية والنصف مصنعة والمواد الزراعية، خاصة منها النهمة في استهلاك الماء، وكقاعدة لاستقبال الشركات المتعددة الاستيطان التي تحول نحو بلادنا أنشطة صناعية تتمثل في عمليات إنتاجية بسيطة (تركيب السيارات وصناعة أجزاء غير أساسية في الطائرات وغيرها من الأجهزة والآلات…) وأنشطة خدماتية رتيبة. هذه الأنشطة الصناعية والخدماتية التي تستفيد من امتيازات هائلة (إعفاءات ضريبية ومناطق حرة وقروض بأسعار فائدة ضئيلة) تتسم بكونها ذات قيمة مضافة ضعيفة وتستغل استغلالا بشعا يدا عاملة رخيصة. كما لا ترى الامبريالية مانعا في إقامة صناعات وأنشطة ملوثة في بلادنا، خاصة الصناعة الكيماوية. وجل هذه الأنشطة الصناعية والخدماتية تابعة بالكامل للمركز الامبريالي الذي يمكنه تحويلها، في أي وقت، إلى منطقة أخرى. أما الاختيارات في الميدان الزراعي، فتكرس ارتهان تغذية الشعب المغربي للسوق الامبريالية وتمثل، بالتالي، سلاحا فتاكا لفرض التبعية والخضوع للهيمنة الامبريالية. هكذا يتبين أن الاختيارات والسياسات الاقتصادية المتبعة، منذ الاستقلال الشكلي، عاجزة على أن تكون قاطرة لبناء نسيج صناعي واقتصادي مستقل ومتكامل يلبي، في المقام الأول، الحاجيات الأساسية للشعب المغربي.
وتلعب فرنسا والاتحاد الأوروبي والمؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية (البنك العالمي وصندوق النقد الدولي…) الخاضعة للامبريالية الغربية، وخاصة شركاتها المتعددة الاستيطان، دورا أساسيا في بلورة ومتابعة تطبيق هذه التوجهات والاختيارات الاقتصادية.
كما تقوم منظمة التجارة العالمية بدورا خطير في فتح أبواب البلاد على مصراعيها أمام المواد والخدمات، بما في ذلك الخدمات الاجتماعية العمومية (التعليم والصحة بالخصوص) مساهمة بذلك ومحفزة على تخريبها.
2. مصالح الكتلة الطبقية السائدة:
تتقاطع، إلى حد كبير، مصالح الكتلة الطبقية السائدة ومصالح الامبريالية:
فالبورجوازية الوكيلة هي برجوازية تبعية أي شريك من موقع ضعيف للشركات المتعددة الاستيطان. فهي تقوم بأنشطة اقتصادية (صناعية وفلاحية وتجارية وغيرها) بسيطة ومكملة لأنشطة هذه الشركات والتي يمكن أن تستغني عنها. وبكلمة، فإنها خاضعة للامبريالية وعاجزة على بناء اقتصاد وطني مستقل.
أما ملاك الأراضي الزراعية الكبار، فهم ورثة المعمرين الذين يستفيدون من دعم الدولة ويوجهون إنتاجهم، بالأساس، نحو الخارج، وخاصة أوروبا الغربية، وهم معفون من الضرائب ويهربون جزء من العملة الصعبة التي يحصلون عليها نحو الخارج، وخاصة الجنات الضريبية. وهم الذين وقفوا ويقفون سدا منيعا أمام أي إصلاح زراعي يمكن الفلاحين من الأرض ويساعدهم على تطوير إنتاجيتهم. هذا الإصلاح الزراعي الذي كان من شأنه أن يطور ويوسع السوق الداخلي ويمكن من تطوير التصنيع وأن يحد من الهجرة القروية إلى المدن التي تؤدي إلى:
– تشكل جيش من العاطلين يضغط على الأجور
– الضغط وعلى الأراضي في المدن، مما يغذي ويضخم المضاربات العقارية التي يستفيد منها كبار ملاكي الأراضي والسلطات التي تسهر على التخطيط الحضري (كبار موظفي وزارة الداخلية والوكالات الحضرية والمنتخبين المحليين…).
هكذا تتم خدمة مصالح البرجوازية العقارية في المدن (ارتفاع صاروخي لأسعار العقار) وباقي مكونات البرجوازية المحلية والشركات المتعددة الاستيطان من خلال الحفاظ على الأجور في أدنى مستوى.
3. مصالح المخزن:
إن وظيفة المخزن الأساسية، وعلى رأسه المافيا المخزنية، تتركز في فرض السياسات والاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تبلورها الامبريالية الغربية خدمة لمصالحها ومصالح عملائها المحليين: الكتلة الطبقية السائدة. ومصلحة المافيا المخزنية الخاصة تتمثل في الاستفادة من تحكمها في مفاصل الدولة وكل أجهزتها العسكرية والأمنية والأيديولوجية والإدارية والإعلامية والحقل الديني وغالبية “المجتمع المدني” لتنمية مصالحها الاقتصادية الخاصة:
— التحكم في موارد الدولة واستعمال جزء منها لتقوية موقعها الاقتصادي
— التحكم في القطاع العمومي المنجمي (الفوسفاط) والمالي (صندوق الإيداع والتدبير بالأساس) ومن خلاله التحكم في العديد من المشاريع الصناعية والسياحية والسكنية وغيرها واستعماله كصناديق سوداء لا تخضع للمراقبة والمحاسبة.
— الريع الذي يكتسي أشكالا مختلفة (تراخيص الصيد في أعالي البحار والمقالع والنقل، تفويت أراضي فلاحية أو في المجال الحضري بأثمان بخسة…) ويستفيد منه الضباط السامون وكبار المسئولين الإداريين والأمنيين والسياسيين وغيرهم أو يمنح مقابل رشاوى..
–الرشاوى على صفقات الدولة،خاصة في المشاريع الكبرى.
— المساهمة في الشركات الكبرى مقابل الحماية أو الاستفادة من امتيازات جمركية أو ضريبية وهي ممارسة مافيوزية بامتياز.
–حماية الاقتصاد ذي الطابع الإجرامي: إنتاج وتجارة المخدرات، وخاصة تصديرها، وتهريب البضائع و الأموال إلى الخارج ونحو الجنات الضريبية، وذلك إما من طرف نافذين كما تبين في قضية بانما بيبارز أو مقابل رشاوى بالنسبة للأثرياء من خارج المافيا المخزنية.
— الاحتكار الذي يتم التنظير له بضرورة التوفر على “أبطال وطنيين” والذي يتقوى ويمس عددا من القطاعات: التجارة الداخلية (مرجان-أسيما)، الاتصالات (“اتصالات المغرب”، “مديتيل” و”انوي”)، البنوك وقطاع البناء وغيرها.
إن هذا الافتراس للخيرات من طرف المخزن وتفشي الرشوة والمحسوبية والزبونية واختلاس المال العام والتبذير الذي يتسم به والغش والتهرب والامتيازات الضريبية للكتلة الطبقية السائدة وللشركات المتعددة الاستيطان والطابع المتخلف للاقتصاد الوطني، كلها عوامل تنتج عجزا مزمنا لميزانية الدولة وبالتالي يصبح اللجوء إلى القروض، وخاصة الخارجية، ضرورة بنيوية لهذه الدولة الفاسدة والمفترسة ولهذا الاقتصاد الرأسمالي التبعي والريعي. هذه المديونية التي تشكل أحد أهم الوسائل لفرض الامتثال لتوجيهات واختيارات للامبريالية الغربية.
4. أهم نتائج هذه الاختيارات:
لقد حاولنا أعلاه توضيح المسئولية المشتركة للامبريالية الغربية والكتلة الطبقية السائدة والمافيا المخزنية في بلورة وتطبيق الاختيارات الاقتصادية الحالية والتقاطع بين مصالح هذا الثالوث الجهنمي. ولعل التفصيل في مسألة المديونية الناتجة، كما أوضحنا أعلاه، عن تواطوء مصالح هذا الثالوث مسألة مهمة نظرا لانعكاساتها ليس فقط على المستوى الاقتصادي، بل أيضا الاجتماعي:
هكذا، وباسم حل أزمة المديونية، يتدخل صندوق النقد الدولي لفرض سياسات اقتصادية واجتماعية رجعية تتمثل في:
° خوصصة القطاع العمومي
° تصفية الخدمات الاجتماعية العمومية: التعليم، الصحة، السكن
° التراجع عن المكتسبات الاجتماعية: قانون الشغل، التقاعد، تجميد التوظيف العمومي واللجوء، أكثر فأكثر للتوظيف بالعقدة، تجميد الأجور…
° تصفية دعم المواد الغذائية الأساسية والطاقة.
° تقديم التسهيلات والامتيازات لجدب الاستثمارات الأجنبية.
° فتح أبواب البلاد أمام البضائع والخدمات والراسميل الأجنبية
أما البنك العالمي، فيتدخل لتأبيد الموقع المتخلف الذي يحتله الاقتصاد الوطني في قسمة العمل على المستوى الدولي بواسطة تحديد الاختيارات الاقتصادية الأساسية وبلورة “الإصلاحات” الاقتصادية الهيكلية ووضع الإطار المؤسساتي لهذه “الإصلاحات” التخريبية.
ومن الواضح أن هذه السياسات والاختيارات تخدم، في المقام الأول، مصالح الشركات المتعددة الاستيطان، أساسا منها الغربية.
ومن النتائج الخطيرة لهذه الاختيارات ما يلي:
– عجز بنيوي لميزانية الدولة
– عجز هيكلي للميزان التجاري
– عجز هيكلي على تلبية الحاجيات الغذائية الأساسية وتبعية غذائية شبه مطلقة للسوق العالمي الذي تتحكم فيه الشركات المتعددة الاستيطان، رأس رمح الامبريالية.
– استحالة تطبيق سياسة تنموية وطنية مستقلة وتكريس الاقتصاد المغربي كاقتصاد هش وتبعي عاجز على توفير مناصب الشغل الضرورية.
– دولة فاسدة ومفترسة وعاجزة على تلبية أبسط المطالب الشعبية.
– تدمير الفرشة المائية في عدد من المناطق بسبب التركيز على الحوامض والفواكه النهمة في استهلاك الماء، إنشاء صناعات ملوثة، استقبال نفايات خطيرة لدول أوروبية، تلوث الأنهر الكبرى، تقلص الغطاء الغابوي، التصحر، تلوث المدن الكبرى…
– أوضاع اجتماعية متردية لأغلبية الشعب المغربي
– تعمق الفوارق الطبقية والمجالية
– هجرة حاملي الشواهد العليا والكفاءات المتعددة التي تشكل خسارة ونزيفا كبيرين تضاف إلى الهجرة السرية ومآسيها الخطيرة
– تبعية ثقافية ولغوية للامبريالية الغربية حيث لا زالت اللغة الفرنسية سائدة في أغلب الإدارات. ورغم كل الكلام عن التعريب، تستمر اللغة الفرنسية، مع بعض المنافسة من اللغة الإنجليزية، في احتلال مواقع متقدمة في الكليات ومعاهد التعليم العالي. وتقوم مؤسسات البعثة الثقافية الفرنسية بدور خطير في تأبيد التبعية الثقافية واللغوية وبالتالي الاقتصادية لفرنسا لكونها تكون أبناء وبنات الطبقات السائدة ليشكلوا النخبة السائدة مستقبلا.
– تهميش القضية الامازيغية رغم أهميتها القصوى لتحقيق تنمية بشرية ومجالية حقيقية.