رؤية استشرافية للاقتصاد الفلسطيني في ضوء الانقسام والاحتلال
ورقة عمل بعنوان:
رؤية استشرافية للاقتصاد الفلسطيني في ضوء الانقسام والاحتلال
مقدمة من الاستاذ الدكتور سمير مصطفى أبو مدلله
محاضر في جامعة الأزهر بغزة، وعضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
مقدمة:
يعيش الشعب الفلسطيني مرحلة حساسة واستثنائية في مسيرة نضاله الوطني، تتمثل أبرز سماتها بالسعي الجاد نحو تحقيق المصالحة الفلسطينية واستعادة الوحدة الوطنية بعد عقد ونصف من الانقسام، وتوتر العلاقات بين السلطة الفلسطينية وحكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي جراء تعثر المفاوضات والمساعي الدولية في التوصل إلى سلام يُنهي الصراع بين الجانبين، وتضاؤل فرص تمديد مهلة التفاوض إلى فترة جديدة دون قبول إسرائيل بقرارات الامم المتحدة التي يطالب بها الجانب الفلسطيني، وما نجم عنه من سعي الجانب الفلسطيني لانضمام دولة فلسطين للعديد من المعاهدات والاتفاقيات والمؤسسات الدولية وأهمها محكمة العدل الدولية لاهاي، الأمر الذي أثار حفيظة الاحتلال الإسرائيلي وهدد بفرض وتطبيق عقوبات اقتصادية قاسية كان لها تبعات على مجمل الاقتصاد الفلسطيني وانعكس سلباً على الواقع الاجتماعي خصوصاً مع الأزمة المالية التي تعاني منها السلطة بسبب تراجع حجم التمويل والدعم الدولي.
وفي ضوء الحالة الاستثنائية التي تشهدها فلسطين وتأثيرات ذلك على الاقتصاد الفلسطيني هناك العديد من الأسئلة التي تخص الاقتصاد الفلسطيني حول ماهية التصور لإدارة هذا الاقتصاد في ظل الانقسام وممارسات الاحتلال الاسرائيلي حيث لا يمكن إغفال مآلات الانقسام وممارسات الاحتلال على الاقتصاد الفلسطيني، وماذا بالنسبة لتراكمات السنوات السابقة من تعدد القوانين والنظم واللوائح والمؤسسات ذات الطابع الاقتصادي والمالي وتحديداً في قطاع غزة؟، وما هي المتطلبات اللازمة لتحفيز نمو الاقتصاد الفلسطيني؟ ومدى قدرة الاقتصاد الفلسطيني على تحمل ومواجهة العقوبات الاقتصادية التي تهدد بها دولة الاحتلال والتي تسعى جاهدة لعقاب الشعب الفلسطيني لمنع تصالحه مع ذاته.
قبل البدء بتحليل الجوانب الاقتصادية لفترة الانقسام ومتطلبات المرحلة القادمة، فإن الجدير ذكره أن يتم استعراض السياق التاريخي لمراحل الاقتصاد الفلسطيني والشعارات الاقتصادية التي رفعت في هذه المراحل من أجل إدراك المعاني الحقيقية للمرحلة التي نعيشها.
لقد دأب الاقتصاديون الفلسطينيون على تسمية كل مرحلة يعيشها الاقتصاد بمسمى الحالة السياسية والأمنية التي يمر بها، فظهر في سياق مسيرة هذا الاقتصاد عدة مراحل، أولها “الاقتصاد تحت الاحتلال” (قبل تأسيس السلطة الفلسطينية، حيث لا زال الاحتلال هو المحدد الرئيسي لمسيرة الاقتصاد الفلسطيني)، ثم بعد تأسيس السلطة أصبحنا نتحدث عن ” الاقتصاد في عهد السلطة الفلسطينية” ليعكس تأثيرات وخصائص الاقتصاد في ضوء إدارة السلطة الفلسطينية لمسيرة هذا الاقتصاد، ثم بعد اندلاع انتفاضة الأقصى المبارك في العام 2000 ظهر لدينا “اقتصاد الانتفاضة” ليعكس تأثر الاقتصاد الفلسطيني بالأحداث وسياسات الاحتلال الإسرائيلي للقضاء على الانتفاضة، ومع عمق تأثير الاحتلال وخنقه وحصاره للاقتصاد الفلسطيني رفعت شعارات “الاقتصاد المقاوم” ليعكس استراتيجية التنمية التي ينبغي تبنيها على المستوى الاقتصادي والتنموي، وهي حالة البقاء على قيد الحياة والصبر على عقوبات المحتل، ودعم صمود الشعب في فلسطين بكافة الوسائل المتاحة.
ومع انتخابات عام 2006 والتباين العميق في الرؤية السياسية وآليات الفعل الوطني والناجمة عن اختلاف ايدلوجي في الأساس، وتدهور العلاقة بين أكبر فصيلين فلسطينيين، وانعكاسها على الأداء الحكومي الرسمي، وصولاً الى النتيجة المأساوية والتي تمثلت في ظهور الانقسام الفلسطيني وانعزال قطاع غزة عن الضفة الغربية، أصبحنا نتحدث عن حالة الاقتصاد الفلسطيني في ظل الانقسام “اقتصاد الانقسام”، وقد انبثق عن “اقتصاد الانقسام” مصطلحاً جديداً في أدبيات الاقتصاد الفلسطيني الغزي ألا وهو “اقتصاد الانفاق”، والذي ظهر في سياق كسر الحصار الإسرائيلي المشدد على قطاع غزة، وليثبت قدرة الشعب الفلسطيني على التأقلم مع أحلك الظروف، وأنه صخرة صلبة تتكسر عليها كل محاولات قتل وخنق هذا الشعب. فبالرغم من الآثار السلبية التي لحقت بالاقتصاد الفلسطيني، إلا أن الأنفاق كانت المنفذ الوحيد للتخفيف الجزئي من حدة الحصار على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
ثم بدأ الحديث عن “اقتصاد الدولة” وبناء مؤسساتها، وانعكس ذلك على خطة التنمية الفلسطينية 2011 – 2013، والتي جاءت لترفع شعار (إقامة الدولة وبناء المستقبل)، وترسخت القناعة بالتوجه نحو “فلسلفة اقتصاد الدولة” بعد الاعتراف بفلسطين دولة مراقب غير عضو في الامم المتحددة بتاريخ 29/11/2012، وما له من دلالات كبيرة وانعكاسات هامة على الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، اذ فرض هذا الانجاز على مؤسسات الدولة الفلسطينية وضع وتحديد التوجهات الاقتصادية والتنموية المستقبلية والتي عكسها المخطط الفلسطيني في خطة التنمية 2014-2016، التي رسخت الرؤية نحو بناء دولة مستقلة ذات سيادة. ومن ثم جاءت الخطة القطاعية للفترة (2021-2023) بعنوان الاستراتيجية القطاعية لتنمية الاقتصاد الوطني من خلال توفير خدمات أفضل للمواطنين، والتوجه نحو الانفكاك الاقتصادي التدريجي والتنمية بالعناقيد، والأخذ بعين الاعتبار الاولويات التنموية الجديدة في القطاع والبعد الجغرافي، والتركيز على المرأة والشباب والبيئة.
يُلاحظ من المراحل أعلاه عدم قدرة الاقتصاد الفلسطيني في هذه المراحل من تحقيق الاستقلالية الكاملة والاعتماد على الذات وبناء نموذج اقتصادي قادر على مواجهة التحديات أو التخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية ويرجع ذلك إلى حالة الضعف الذي شهده الاقتصاد الفلسطيني حيث ندرة الموارد وتزايد أعباء الاقتصاد وارتفاع عدد السكان ونموه بشكل لا يتناسب ونمو الناتج, إضافة للسياسات الاقتصادية غير الوازنة والتي تقع في خانة السياسة النيو ليبرالية والتي لا تتناسب مع احتياجات الاقتصاد في ضوء مرحلة التحرر الوطني والانعتاق من التبعية وشروط التبادل غير المتكافئة مع دولة الاحتلال حيث تخضع لمفاهيم اقتصاد المركز والأطراف ومن الاستحالة أن يؤدي النمو في المركز إلى تحقيق نمو في الأطراف بل يسعي المركز لاستنزاف الأطراف، وهذه الأمور تعني أن هناك تداعيات للظروف السياسية والأمنية على مجمل الاقتصاد الفلسطيني إضافة لتأثيراتها على رفاهية المواطنين وصمودهم في وجه الاحتلال ولذلك انعكاسات على القضية الوطنية ككل.
إن الإجابة على التساؤلات السابقة بأسلوب مهني اقتصادي، وقبل الحديث عن رؤية استشرافية للاقتصاد الفلسطيني، يستلزم من الناحية الموضوعية والمنهجية التطرق لتأثيرات الاحتلال والانقسام على الاقتصاد الفلسطيني، وذلك من خلال عرض العديد من المؤشرات الاقتصادية المتأثرة بالاحتلال والانقسام الفلسطيني ومن ثم التطرق للحلول للخروج من الأزمات التي يعاني منها الاقتصاد الفلسطيني منذ عقود
أولاً: نمو متذبذب وغير تنموي وغير مستدام
أدت سياسات الاحتلال وممارساته إلى إضعاف العلاقة بين انتاجية العمل والأجور في الاقتصاد الفلسطيني، واضعاف العلاقة بين الانتاج والاستهلاك، وإضعاف التنوع الصناعي، واعتماد الاقتصاد الفلسطيني على نشاط وفعاليات المشاريع الصغيرة والمتوسطة (SMEs)، والتي لا تستطيع الاستجابة إلى الزيادة المتنامية في عرض العمالة الفلسطينية. فقد بلغ المتوسط للنمو الاقتصادي خلال الفترة 1995- 1999 ما يقارب (7.7%)، وبعد أن سجل الاقتصاد الفلسطيني أعلى نسبة نمو في العالم عام 1999، تدهورت المؤشرات الاقتصادية بشكل كبير جداً بعد اندلاع انتفاضة الأقصى في الربع الاخير من العام 2000، وخلال العامين 2001 و2002 انخفض الناتج المحلي بشكل كبير، ونتج عنه زيادة مفرطة في نسبة البطالة وصلت إلى أعلى مستوياتها والتي تراوحت ما بين 25-35%، واستمرت عند هذه المستويات حتى مطلع العام 2005. إلا أن الأوضاع الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية عادت فتحسنت تدريجياً في فترة الهدوء النسبي خلال السنوات 2004-2005، وبدأ الناتج المحلي الاجمالي يحقق نسب نمو متأرجحة ما بين الأعوام 2006-2007، وبلغ متوسط النمو الاقتصادي في الفترة (2007-2014) ما يقارب 5.72%، والشكل البياني التالي يوضح معدل نمو الناتج المحلي الاجمالي بالأسعار الثابتة في فلسطين من 1996-2020
ومن ثم سجل معدل نمو سلبي خلال العام 2014، وعاد للارتفاع خلال الفترة (2015-2019) ليسجل متوسط معدل نمو 3.32%، ومع تفشى جائحة كورونا وتأثيرها على الاقتصاد العالمي والاقتصاد العربي تأثر معدل نمو الناتج المحلي الفلسطيني بالأسعار الثابتة ليبلغ (-11.3%).
إن تحقيق الناتج المحلي الفلسطيني لنمو متذبذب خلال الفترة 1995-2021 يعني أن الاقتصاد يعاني من اختلالات هيكلية لذلك فلم ينعكس النمو الإيجابي في بعض السنوات إلى تحقيق أثر ملموس في مستوى معيشة الأفراد وكذلك لم نصل لمرحلة النمو المستدام, فالنمو في القطاعات الإنتاجية لا زال دون المستوى المطلوب.
ثانياً: استمرار التحدي المزدوج (البطالة والفقر)
اتسمت معدلات البطالة في الأراضي الفلسطينية للفترة 1995-2021 بالتقلب الشديد، وذلك تبعاً للأوضاع السياسية والاقتصادية السائدة محلياً وإقليمياً. وتعتبر سياسة الإغلاق والحصار الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية العامل الحاسم والمؤثر في معدلات التشغيل والبطالة، حيث يتراجع حجم العمالة الفلسطينية في إسرائيل والمستوطنات في أوقات الإغلاق والحصار، ويرتفع حجم ومعدل البطالة بصورة حادة ومفاجئة. بالإضافة لوجود فجوة في معدل البطالة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وكما أن معدل البطالة الأعلى يتجلى في فئة الشباب سواء في الضفة أو غزة، بحيث يصل الى 65% وبلغ معدل البطالة 25.9% في فلسطين خلال العام 2020، بواقع 15.7% في الضفة الغربية و46.6% في قطاع غزة.
نلاحظ (من نتائج البحث) ارتفاع معدل البطالة في الفترة (2001-2004) حيث ارتفع متوسط البطالة خلال لتلك الفترة إلى ما نسبته (27.9%) مقارنة مع 14.3% في عام 2009، وهذا يعود لبداية انتفاضة الأقصى والتي انعكست على الاقتصاد الفلسطيني ومؤشراته بالسلب من خلال الإجراءات الإسرائيلية التعسفية من إغلاق المعابر ومنع وصول العمال من الوصول لأماكن عملهم، وتدمير البنية التحتية للاقتصاد الفلسطيني والاجتياحات المتكررة للمدن والمحافظات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
كما كان للانقسام السياسي الفلسطيني آثار على البطالة وتمثل ذلك بارتفاع معدل البطالة في العام 2006 مقارنة مع عام 2005، كما ظلت نسب البطالة في المحافظات الجنوبية الفلسطينية آخذه في الارتفاع نتيجة السياسات الإسرائيلية والانقسام الفلسطيني.
ومن الجدير ذكره ارتفاع فجوة معدل البطالة في المحافظات الجنوبية مقارنة بالمحافظات الشمالية، وارتفاع معدل البطالة في فلسطين بشكل عام مقارنة مع العالم ومع الدول العربية. والشكل البياني التالي يوضح فجوة معدل البطالة بين الضفة الغربية وقطاع غزة خلال الفترة (2015-2020).
كما نلاحظ ارتفاع معدلات البطالة في قطاع غزة مقارنة مع معدل البطالة في الضفة الغربية، وهذا يعود لتأثير الانقسام الفلسطيني على الاقتصاد الغزي بشكل أكبر من الضفة الغربية. حيث بلغ متوسط معدل البطالة (35.5%) في قطاع غزة خلال الفترة 2015-2020، فيما بلغ المتوسط في الضفة الغربية (16.6%) خلال نفس الفترة.
ونتيجة لارتفاع معدلات البطالة استمر الانتشار الكلي للفقر مرتفعاً في الأراضي الفلسطينية، حيث كانت معدلات الفقر في قطاع غزة أعلى منها في الضفة الغربية. ورغم أن الاتجاه العام لمؤشرات الفقر هو في حالة تناقص خلال الفترة 2004-2011، إلا أن نسب الفقر في جميع المناطق لا تزال مرتفعة، وكان أعلى معدل للفقر في الأراضي الفلسطينية (31.2%) في عام 2007، وأدناها (21.9%) في عام 2011. هذا إلى جانب التراجع المتواصل في القدرة الاستهلاكية لدخول المواطنين نتيجة لموجات ارتفاع الأسعار منذ عام 2007، مع بقاء متوسط الأجر اليومي الإسمي في الأراضي الفلسطينية دون تغيير، أي عند 70 شيكل يومياً، أما الأجر الحقيقي فقد انخفض خلال هذه الفترة.
يمكن التنويه بأن الفوارق الملموسة في معدلات البطالة في الضفة الغربية وقطاع غزة لا تعني بالضرورة أن اقتصاد الضفة أكثر استدامة من اقتصاد قطاع غزة لجهة أن هناك قرابة 170 ألف عامل من الضفة يعملون في المستوطنات ومدن دولة الاحتلال, وفي حالة إغلاق سوق العمل الإسرائيلي أمام العمالة الفلسطينية فإن هناك احتمالية لأن يتعرض اقتصاد الضفة لأزمة حقيقية تتمثل في ارتفاع معدلات البطالة بشكل كبير, وعليه فإن معدلات البطالة ستبقى المشكلة الأساسية في الاقتصاد الفلسطيني ولا يمكن التخفيف من حدته في ضوء الاحتلال والانقسام .
ثالثاً: اختلال التوازن الداخلي: العجز المزمن في الموازنة العامة بعد الدعم الخارجي
العجز الجاري في موازنة السلطة يشكل أحد الاختلالات الهيكلية والتحديات الرئيسية التي تواجه الاقتصاد الفلسطيني. ويتسم الوضع المالي للسلطة بأربع سمات أساسية هي:
السمة الأولى: تزايد العجز الجاري كنسبة من الناتج الإجمالي الحقيقي حيث بلغت نسبة الايرادات من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (28.4%) خلال العام 2020، كما بلغت نسبة إجمالي النفقات العامة من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (29.37%) وهذا يعكس ارتفاع العجز المالي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي.
السمة الثانية: الاعتماد على المنح والمعونات الخارجية لتمويل عجز الموازنة العامة، حيث خلال السنوات الأخيرة بلغت نسبة المنح والمساعدات الخارجية كنسبة من الناتج المحلي الحقيقي (3.3%) خلال عام 2020.
السمة الثالثة: تفاقم الدين العام الحكومي، بحيث اقترب مع نهاية عام 2011 من 5 مليار دولار، موزَّعة على دين محلي (قروض مصرفية وديون تجارية) مقداره 2 مليار دولار ودين خارجي مقداره 1.2 مليار دولار والتزامات غير مسدّدة لهيئة التقاعد والمعاشات بحوالي 2 مليار دولار. وارتفعت نسبة الدبن العام الحكومي إلى (23.5%) كنسبة من الناتج المحلي الحقيقي خلال العام 2020 مقارنة مع (18.1%) خلال العام 2016.
السمة الرابعة: الخلل الهيكلي في النفقات حيث بلغت نسبة النفقات التطويرية (1.2%) كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي خلال العام 2020، مقارنة مع (13.47%) لنفقات الأجور والرواتب كنسبة من إجمالي الناتج الإجمالي الحقيقي.
وفي الخلاصة يمكن القول بأن السلطة كما الاقتصاد الفلسطيني يواجهان حالياً مشكلة مستعصية عنوانها “ضعف مستوى الاستدامة المالية”، ولعلها ستبقى المشكلة الأبرز والأخطر في المستقبل المنظور وخصوصا في ظل قرارات الحكومة الإسرائيلية الأخيرة والتي تتعلق بحجز أموال المقاصة التي شكلت ما يقارب (22.35%) كنسبة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي خلال العام 2020.
رابعاً: اختلال العلاقة بين الاستهلاك والإنتاج والاستثمار والادخار
يعاني الاقتصاد الفلسطيني من وجود فجوة عميقة ما بين الادخار والاستثمار، تظهر في عدم قدرة الادخارات المحلية على تغطية الاستثمارات المحلية الإجمالية (التكوين الرأسمالي الإجمالي). ففي خلال الفترة 1994-2012 كانت قيم الادخارات القومية المتاحة منخفضة جداً أو سالبة في بعض السنوات (2003 و2004) مقارنة بحجم الاستثمارات المحلية الإجمالية. والشكل البياني التالي يوضح الفجوة بين نسبة الاستهلاك من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي ونسبة الاستثمار من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي.
شكل(4) نسبة الاستهلاك النهائي والاستثمار من الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي في فلسطين
خلال الفترة (2000-2020).
نلاحظ (كذلك من نتائج البحث) أن الإنفاق الاستهلاكي النهائي يفوق الناتج المحلي الإجمالي ويستحوذ على معظم الدخل القومي الإجمالي، مما يعكس هيمنة الطابع الاستهلاكي من ناحية وهامشية الادخار في مكونات الدخل القومي المتاح من ناحية أخرى. كما أن هذا الوضع قاد الى تزايد منسوب مديونية معظم الأسر الفلسطينية، والتي اضطرت في السنوات الأخيرة للاقتراض من البنوك لسد الفجوة بين دخولها الحقيقية واحتياجاتها المعيشية المتزايدة. حيث بلغ متوسط نسبة الاستهلاك النهائي من الناتج المحلي الإجمالي (98%) خلال الفترة 2000-2020، فيما بلغت نسبة الاستثمار من الناتج المحلي الاجمالي (20%) خلال نفس الفترة، كما بلغت نسبة الاستهلاك الكلي النهائي (124.1%) كنسبة من الناتج المحلي الحقيقي خلال العام 2020 بينما بلغت نسبة إجمالي التكوين الرأسمالي الثابت (26.9%) كنسبة من الناتج المحلي الحقيقي خلال نفس العام. وبلغت نسبة الادخار من الناتج المحلي الحقيقي (-14.3%) في عام 2020. وهذا يعكس ارتفاع الميل الحدي للاستهلاك وانخفاض الميل الحدي للادخار في الاقتصاد الفلسطيني. وهذا يعكس ضعف السياسات والاستراتيجيات من أجل رفع الميل الحدي للادخار بالإضافة لضعف نصيب الفرد من الناتج، الأمر الذي أدى لتوجه المواطنين باتجاه الاستهلاك أكثر من الادخار بالإضافة إلى أن الانقسام الفلسطيني ولّد طبقتين في المجتمع، من حيث القدرة على الادخار فئة بسيطة جدا لديها القدرة على الادخار وغالبية المواطنين لم يتمكنوا من الادخار بسبب ضعف الدخل والبطالة وضعف الاستثمار خاصة في قطاع غزة.
يمكن القول أن لارتفاع حجم الاستهلاك مقارنة بحجم الناتج يُعتبر مسألة خطيرة وضارة على الاقتصاد, ورغم أهمية الاستهلاك كمحدد للطلب الكلي الفعال بشقيه الاستهلاكي والاستثماري إلا أن زيادة الاستهلاك وبلوغها قرابة 130% من الناتج يعني أن المجتمع الفلسطيني أضحى مجتمعاً استهلاكياً ويميل مع الوقت ليصبح إتكالياً على حساب المجتمع الإنتاجي الذي ينوط به توليد الادخارات وتوظيفها في الاستثمار, وتراجع الادخارات يُعتبر من عوامل الضعف في الاقتصاد الفلسطيني وسبباً في صعود الاقتصاد نحو الأسفل, الأمر الذي يعني أن الاقتصاد أصبح غير طبيعي وهذا يؤسس للمزيد من التراجع الاقتصادي وصعوبات الوصول إلى حالة التنمية, فالمطلوب من أية رؤى استشرافية هي تعزيز معدل الادخار الوطني كمحدد للنهوض الاقتصادي وتدنية الحاجة لاقتصاد دولة الاحتلال.
خامساً: تعاظم سيطرة قطاعات الخدمات والتجارة على حساب قطاعات الإنتاج السلعي
تشير بيانات الحسابات القومية للفترة 2000-2020 إلى تعاظم مساهمة قطاعات الخدمات والتجارة في تكوين الناتج المحلي الإجمالي للأراضي الفلسطينية. مقابل تراجع ملموس وكبير في مساهمة قطاعات الإنتاج السلعي. حيث تشير هذه البيانات إلى تراجع المساهمة النسبية لقطاعات الإنتاج السلعي للأراضي الفلسطينية من حوالي 39.0% بالمتوسط للفترة 1994-1999 إلى 30.5% للفترة 2000-2004، ثم إلى 26.6% للفترة 2005-2011، بينما ازدادت المساهمة النسبية لقطاعات الخدمات من 61.0% إلى 69.5% ثم إلى 73.4% بالمتوسط للفترات الثلاث المذكورة على التوالي، وهو ما يشير إلى تعمق السمة الخدماتية للاقتصاد الفلسطيني. وتبدو الصورة أكثر سوءاً عند النظر للمصدر القطاعي للناتج المحلي الإجمالي في قطاع غزة، حيث تراجعت قطاعات الإنتاج السلعي من 34.2% بالمتوسط للفترة 1994-1999 إلى حوالي 28.3% للفترة 2000-2004، ثم إلى 21.5% للفترة 2005-2011.
بالمقابل تعاظم دور قطاعات الخدمات والتجارة في تكوين الناتج المحلي الإجمالي، والتي بلغت مساهمتها النسبية أكثر من ثلاثة أرباع الناتج المحلي الإجمالي للفترة 2005-2011. ومن التأثيرات السلبية لهذه الظاهرة تناقص قدرة الاقتصاد على خلق فرص التشغيل وتزايد انكشاف الاقتصاد المحلي للصدمات والتقلبات الخارجية. والشكل البياني التالي يوضح قيمة القطاعات الاقتصادية في الناتج المحلي الاسمي بالأسعار الجارية خلال الفترة (1995-2020).
يتضح (من خلال الدراسة) ضعف مساهمة القطاعات الانتاجية في الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة 1995-2020، وهذا يوضح أن القطاعات الإنتاجية (خاصة الزراعة) لم تحظ حتى اللحظة بأولوية، أو على الأقل باهتمام خاص في برامج المانحين وخطط التنمية والموازنات العامة الفلسطينية. وهذا التحول الهيكلي في الاقتصاد الفلسطيني أدى إلى الاعتماد على المستوردات من سلع الاستهلاك خاصة من الاقتصاد الإسرائيلي لتلبية الطلب المحلي.
إن تراجع الاهتمام بتنمية أو تمويل القطاعات الإنتاجية وعلى رأسها الزراعة يُعتبر إحدى محددات التراجع الاقتصادي حيث لا يمكن استيعاب أن تكون حصة الزراعة أقل من 1% من الموازنة العامة الفلسطينية, وفي ضوء مشاريع تصفية القضية الفلسطينية ومشاريع التسوية السياسية القائمة على مبدأ السلام الاقتصادي فإن الاستثمار الكثيف في الزراعة يعتبر ذو أهمية من الناحية السياسية والاقتصادية فالزراعة ليست مصدر للدخل وتوليد فرص عمل وتعزيز الأمن الغذائي فحسب بل هي بمثابة الأرض والفلسطينيين ليسوا بصدد البحث عن وطن بديل.
سادساً: انكشاف القطاع المصرفي اتجاه القطاع العام:
يعتبر إتاحة الفرصة التمويلية لكافة الانشطة والقطاعات الاقتصادية وعدم تركيزها في نشاط معين أو قطاع معين من أهم القضايا لمواجهة انكشاف القطاع المصرفي تجاه قطاع غزة ، نظرا لارتباط القدرة على السداد بالتطورات والتقلبات الاقتصادية والتطورات غير المتوقعة المصاحبة لهذا القطاع أو النشاط، وتشير البيانات الصادرة عن سلطة النقد استحواذ القطاع الخدماتي على نحو (51.2%) من إجمالي المحفظة الائتمانية في العام 2020، اما القطاعات الانتاجية وصلت إلى (21.9%) نفس العام، بينما حصل القطاع العام على (21.9%) من إجمالي المحفظة الائتمانية في العام 2020.
سابعاً: تذبذب قطاع الأوراق المالية (بورصة فلسطين):
عانت بورصة فلسطين خلال العام 2020 من إحجام في التداول حيث انخفضت عدد الأسهم المتداولة على 84.4 مليون سهم عام 2020 مقارنة مع 142.8 مليون سهم عام 2019، مما انعكس على اجمالي قيمة التداولات بالسلب بما يقارب (30.6%) عام 2020، بالإضافة لتراجع القيمة السوقية للأسهم بنسبة 8.3% حيث انخفضت بحدود 3.4 مليار دولار، مما أدى لتراجع مؤشر القدس بنسبة (10.4%) ليصل إلى مستوى 471.3 نقطة بسبب تراجع جمع المؤشرات القطاعية في البورصة. ومن الجدير ذكره ان أداء البورصة ينعكس على الاستقرار المالي الفلسطيني من خلال مؤشر سوق رأس المال، باعتباره أحد المؤشرات الفرعية المستخدمة في احتساب المؤشر العام للاستقرار المالي في فلسطين.
إن التذبذب في بورصة فلسطين تُدلل على ضعف سوق الأوراق المالية الفلسطينية وعدم نجاعته من الناحية الاقتصادية, والاقتصاد الفلسطيني وخصوصيته تحتاج لتعزيز الاستثمارات في الاقتصاد الحقيقي على حساب توظيف الأموال في البورصة والتي تعتبر غير آمنة من التقلبات والصدمات التي تتعرض لها أسواق الأوراق المالية في ضوء العولمة والانفتاح المالي.
ثامناً: الازدواج الضريبي:
لقد تسبب الانقسام الفلسطيني بإيجاد الكثير من القوانين والازدواج الضريبي بين غزة والضفة الغربية، كل هذه الرسوم المزدوجة اثقلت كاهل التجار والمواطنين في قطاع غزة على حد سواء فبينما يضطر التاجر للاختلاف القانوني في العديد من القوانين الاقتصادية بين قطاع غزة والضفة الغربية، مما أدى لوجود ظاهرة الازدواج الضريبي، بمعنى دفع الضريبة مرتين, حيث انعكس الازدواج الضريبي على المواطن وأضعف قدرته الشرائية وأدى الى افلاس العديد من التجار ورجال الاعمال. فمثلا الضريبة على السيارات المستوردة تحصل حكومة غزة على ضريبة (25%) بالإضافة لدفع المستورد ضريبة بقيمة (50%) لحكومة رام الله، وهذا أدى لارتفاع اسعار العديد من السلع المستوردة والتي يتحمل المستهلك جزء كبير من الضريبة، ومن ناحية أخرى وفي مجال ضريبة الدخل استمرت حكومة غزة بتطبيق أحكام قانون ضريبة الدخل القديم دون إجراء أي تعديلات في المقابل تم تعديل هذا القانون في الضفة الغربية.
بنافلة القول فإن للازدواج الضريبي تأثيرات سلبية على مجمل الاقتصاد في قطاع غزة حيث تسبب بإحداث حالة من الفوضى واستنزاف دخول الفلسطيني في غزة, حيث تزايدت أعباء الضريبة التي يتحملها وبالتالي تراجعت مستويات المعيشة ونجم عن ذلك ركوداً اقتصادياً شديداً بسبب تراجع الطلب.
تاسعاً: عجز متزايد في الميزان التجاري السلعي والخدمي
أشارت بيانات الميزان التجاري السلعي والخدمي لارتفاع نسبة العجز في الميزان التجاري السلعي والخدمي من الناتج المحلي الإجمالي حيث بلغت (54.0%) من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة 2005-2011. كما انخفضت نسبة الصادرات (سلع وخدمات) من الناتج المحلي الإجمالي، حيث تراوحت ما بين 14%- 16% بالمتوسط في الفترة (2016-2020) مقابل ارتفاع نسبة الواردات (سلع وخدمات) من الناتج المحلي الإجمالي والتي تراوحت ما بين 51% – 55% وهو ما يشير إلى أن الاقتصاد الفلسطيني يعد اقتصاداً مستورداً بالدرجة الأولى. كما أن ارتفاع نسبة الواردات من الناتج المحلي الإجمالي تعني ارتفاع نسبة تسرب الدخل المحلي للخارج، وهو ما يؤدي إلى نقص الطلب (الإنفاق) المحلي، ويؤدي ذلك لنتائج سلبية على نمو الناتج المحلي الإجمالي، وذلك تحت تأثير مضاعف الإنفاق. بالإضافة لارتفاع درجة تركز التجارة الخارجية مع إسرائيل: إذ أظهرت البيانات المتاحة ارتفاع مؤشر التركز الجغرافي للتجارة الخارجية السلعية الفلسطينية، حيث شكلت الصادرات السلعية إلى إسرائيل أو من خلالها عبر قنوات التسويق الإسرائيلي أكثر من 90% بالمتوسط من إجمالي الصادرات السلعية، في حين لم تتجاوز نسبة الصادرات السلعية إلى الدول العربية (5%).
عاشراً: ضعف وانخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الفلسطيني:
يعتبر مؤشر نصيب الفرد من المؤشرات الهامة التي تعكس مستوى التنمية الاقتصادية والنشاط الاقتصادي في الدولة، ولقد اتبع البنك الدولي تصنيف الدول بناء على نصيب الفرد من الدخل وكانت التصنيفات مختلفة من عام لآخر بناء على التطورات الاقتصادية في الاقتصاد العالمي، وسيتم التطرق هنا لتصنيف البنك الدولي للدول حسب معيار الدخل لعامي 2018 و 2019، حيث كانت التصنيف على النحو التالي: يصنف البنك الدولي اقتصادات العالم إلى أربع شرائح دخل: البلدان مرتفعة الدخل، والشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل والشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل، والبلدان منخفضة الدخل. ونستند في هذا التصنيف إلى نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي (بالقيمة الحالية للدولار) محسوباً باستخدام طريقة أطلس. ويتم تحديث هذا التصنيف في 1 يوليو/تموز من كل عام.
نلاحظ وبناء على تصنيفات البنك الدولي ان فلسطين تأتي ضمن شريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل، حيث بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي خلال عام 2019 حوالي (3656) دولار أمريكي، ولقد شهد نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي تذبذب واضح خلال الفترة (2000-2020) نتيجة سياسات الاحتلال الاسرائيلي والانقسام الفلسطيني، والشكل البياني التالي يوضح نصيب الفرد من الناتج خلال الفترة (2000-2020).
نلاحظ (من خلال نتائج هذا البحث) تذبذب نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي خلال الفترة 2000-2020، ونلاحظ الانخفاض الشديد لنصيب الفرد من الناتج الاجمالي المحلي خلال العام 2006 نتيجة الانتخابات التشريعية ونتائجها التي لم تجد القبول الدولي والتي ادت لتوقف الدعم والمساعدات الخارجية وفرض العقوبات الاقتصادية من الجانب الاسرائيلي على الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن كان قطاع غزة الأكثر تأثرا بالانقسام السياسي من الضفة الغربية خاصة بعد الفترة الزمنية التي تلت الانقسام الفلسطيني، وهناك العديد من المؤشرات التي تعكس ذلك، فمن الجدير ذكره وجود فجوة كبيرة جداً بين نصيب الفرد من الناتج الاجمالي المحلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، والجدول التالي يوضح ذلك.
كما نلاحظ اتساع حجم الفجوة بين نصيب الفرد من الناتج المحلي والدخل القومي والدخل القومي المتاح في قطاع غزة مقارنة مع مثيله في الضفة الغربية، حيث بلغ نصيب الفرد من الدخل القومي (1357) دولار عام 2020 في قطاع غزة، في حين بلغ نصيب الفرد من الدخل القومي (5532) دولار في عام 2020 في الضفة الغربية. أي ما يقارب (أربعة) أضعاف نصيب الفرد من الدخل القومي في قطاع غزة.
كما عمدت اسرائيل لتقييد الاقتصاد الفلسطيني من خلال فرض عقوبات اقتصادية ومصرفية على السلطة الفلسطينية، وتتمثل تلك العقوبات في النقاط التالية:
1. تجميد ومصادرة إيرادات المقاصة المستحقة للحكومة الفلسطينية وخصم كافة ديون المؤسسات والشركات الإسرائيلية مباشرة من هذه الإيرادات.
2. خفض سقف ودائع المصارف العاملة في فلسطين لدى المصارف الإسرائيلية، الأمر الذي يعني رفض الجهاز المصرفي الإسرائيلي استقبال فائض الشيكل المتكدس لدى المصارف العاملة في فلسطين.
3. وقف النشاط والتعاون في مجال التنقيب عن حقول الغاز على شواطئ قطاع غزة.
4. عرقلة النشاط التجاري المتمثل في عمليات الاستيراد والتصدير من والى إسرائيل وعبر موانئها ومطاراتها.
5. تشديد القيود على تحرك ونشاطات رجال الأعمال والتجار الفلسطينيين، خاصة في المنطقة “ج” من الأراضي الفلسطينية، والانعكاس السلبي الحاد لهذا الإجراء على مجمل النشاط التجاري والصناعي.
6. إلغاء وسحب بطاقات VIP من الشخصيات العامة الفلسطينية، وتقييد حرية تحركهم.
مما سبق يتضح أن الخلل في الاقتصاد الفلسطيني بنيوي، تعود أسبابه إلى انعدام الرؤى الوطنية في تحقيق استراتيجية اقتصادية واضحة تقوم على قاعدة “اقتصاد الصمود. وبالرغم من أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية غير ممكنة دون تحقيق تقدم على الصعيد السياسي، فإن تعزيز الصمود في الاراضي الفلسطينية يثبِّت الوجود الفلسطيني ويرتقي بجودة حياة الفلسطينيين. وفيما يلي بعض المقترحات والتوصيات حول رؤية استشرافية للاقتصاد الفلسطيني في ضوء الانقسام والاحتلال:
1. إعادة النظر في فلسفة التخطيط التنموي الفلسطيني كي يكون أكثر واقعية، بحيث يأخذ بالاعتبار قدرات الاقتصاد الحقيقية، وعدم تحميل القطاع الخاص أكثر مما يحتمل، وعدم المبالغة في إمكانيات الازدهار الاقتصادي مستقبلاً، كي لا نكون أمام خطط تنموية وهمية وردية بينما الواقع الاقتصادي مأساوي. كما ينبغي البدء بوضع استراتيجية تنموية جديدة (وبالإمكان الدمج والبناء على ما كان مخطط سواء في غزة او الضفة) بحيث تأخذ بعين الاعتبار كافة الآثار الاقتصادية التي حدثت في مرحلة الانقسام، والعمل على التخلص منها في أقرب فرصة، وتحقيق الاندماج الاقتصادي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ورفض أية محاولات لتعزيز الفصل الاقتصادي بينهما مهما كانت التكلفة او التضحية، والرفض التام لما كان يتردد “بدولة غزة” او انفصال الاقتصاد الغزي عن اقتصاد الضفة الغربية.
2. إعادة هيكلة كافة الإجراءات الحكومية في مجال إدارة الشؤون الاقتصادية والمؤسسات، والتخلص من البيروقراطية والإجراءات المعقدة والمثبطة لأنشطة القطاع الخاص، والمتسببة بشكل رئيسي في توسع الاقتصاد غير الرسمي (غير المنظم)، بحيث يتم العمل على وضع منظومة محددة ومهنية وشفافة لاتخاذ أي قرار اقتصادي من جانب. ومنظومة إجراءات محددة تخفف من تعقيدات ومتطلبات الترخيص والتنظيم والرقابة على مؤسسات القطاع الخاص والمشاريع الصغيرة والأنشطة الفردية والعائلية.
3. تعزيز إستراتيجية مقاطعة المنتجات الإسرائيلية وتعزيز القدرة التنافسية للمنتج الوطني (على أن يبنى هذا المنتج على أسس ومعايير الجودة وضمان توافر الشروط الصحية والبيئية فيها، وتعزيز منافستها السعرية)، والعمل على “الانسلاخ المدروس المتدرج” من التبعية النقدية والاقتصادية لإسرائيل، وتعميق العلاقات الاقتصادية الفلسطينية العربية (دول الجوار) والدولية، والتخلص من اتفاق باريس الاقتصادي وتبعاته.
4. تبني استراتيجية تنموية قائمة على المشاريع الصغيرة والمتوسطة كمصدر أساسي لفرص العمل والتشغيل، على أن تكون إجراءات وسياسات الحكومة داعمة ومساندة بقوة لهذه المشاريع بدلاً من إرهاقها بكثرة وتعقيد الإجراءات الحكومية الروتينية، وإرهاقها بالرسوم والضرائب المرتفعة, والاستفادة من التجارب الناجحة في العالم خاصة دولة الهند حيث ان الهند لها تجربة ناجحة ومميزة في الاعتماد على المشروعات الصغيرة والمتوسطة لتحقيق التنمية الاقتصادية في الهند.
5. إعادة هيكلة شاملة لقطاع التعليم، والعمل الجاد على الارتقاء الحقيقي بكفاءة مخرجات المؤسسات التعليمية بجميع مستوياتها بما يتلاءم مع متطلبات سوق العمل المحلية والدولية، والعمل الجاد على الارتقاء بالتعليم المهني باعتباره جوهر نجاح وتطور القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد كتوجه أساسي لعلاج مشكلة البطالة، وتحديات سوق العمل.
6. إعادة هيكلة نمط الاستهلاك للمواطن الفلسطيني، بحيث تكون في نطاق انتاجيته لا أن تكون في نطاق مستوى نصيبه من الدخل القومي المتاح والذي يتأثر بقوة بحجم المساعدات والمنح الدولية. اذ أن نسبة الانفاق الاستهلاكي من اجمالي الناتج المحلي الحقيقي بلغت 128% في قطاع غزة و105% في الضفة الغربية، و111% على المستوى الفلسطيني وذلك وفقاً لبيانات عام 2013. وينبغي أن يتم ذلك في سياق البعد الوطني لتعزيز قدرة المواطن الفلسطيني على تحمل أية ضغوطات اقتصادية أو مالية تمس رفاهيته، بدافع ابتزازه سياسياً ومساومته على حقوقه الوطنية الثابتة.
7. تعزيز الأفكار الخلاقة والإبداعية في مجال التشغيل وخلق فرص عمل بعيداً عن القطاع الحكومي، والعمل الجاد والحقيقي على إنجاح هذه الأفكار وتكوين صناديق تمويلية لها، وإنشاء بنك لأفكار المشاريع الصغيرة، وتأسيس حاضنات أعمال وطنية على مستوى كبير بدلاً من الاقتصار على حاضنات أعمال بسيطة تقتصر على بعض الجامعات، بحيث تقوم بدور حقيقي في دعم وإنجاح هذه المشاريع في مختلف الأنشطة الإنتاجية والخدمية، ويمكن الاستفادة من العديد من التجارب الدولية الناجحة في هذا المجال. وفي هذا الجانب من الممكن تحقيق تكامل مالي بين المصارف ومؤسسات الإقراض المتخصصة والجمعيات والهيئات الدولية المانحة لتمويل هذه المشاريع وحاضنات الأعمال الخاصة بها.
8. دعم حقيقي لقطاع الزراعة والصناعة، وحماية المنتج الوطني وتطويره، وتبني إستراتيجية مدروسة لإحلال الواردات بطريقة ممنهجة ومتدرجة، بما يؤدي الى تحقيق الاحتياجات المجتمعية الأساسية من المنتجات الزراعية والصناعية.
9. التحول التدريجي في الاستيراد من إسرائيل نحو الاستيراد من أو عبر الأردن ومصر، وبالتالي فان هذا سيقلل من حجم إيرادات المقاصة التي تتحكم بها إسرائيل. ولعل أهم أنواع الواردات التي ينبغي استيرادها من غير إسرائيل هي المحروقات والطاقة (الكهرباء)، ومن الممكن أن يتم ذلك من خلال الأردن أو مصر وبدعم عربي لاسيما في مجال الكهرباء. علماً بأن هذا حق من حقوق السلطة الفلسطينية نص عليه اتفاق باريس الاقتصادي (على سوئه)، ولكن للأسف لم تعمل السلطة الفلسطينية على الاستفادة منه منذ تأسيسها، وأبقت نفسها مكبلة بعقود احتكارية مع الشركات الإسرائيلية، وهذا يطرح مدى التناقض بين الإجراءات والسياسات الاقتصادية المطبقة فعلياً من قبل متخذ القرار والمخطط الاقتصادي الفلسطيني، والشعارات الاقتصادية المرفوعة بضرورة التخلص من التبعية للاقتصاد الإسرائيلي، وتعزيز العلاقات الاقتصادية الفلسطينية مع دول العربية ودول العالم الأخرى
10. تحسين أداء القطاع العام، وزيادة انتاجيته، وتخفيف الاجراءات المثبطة لنشاط القطاع الخاص: ويجب العمل على معالجة التشوهات من خلال تحسين أداء القطاع العام وإجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية اللازمة لتحسين البيئة الاستثمارية، وتطوير البيئة القانونية بهدف التشجيع على المنافسة، كما تتطلب هذه الاستراتيجية إعادة تأهيل البنية التحتية مع التركيز على القطاعات الأساسية، مثل الزراعة، الصناعة والإنشاءات بما يتوافق مع الاحتياجات المستقبلية. والعمل على تقنين أعداد الموظفين في القطاع الحكومي. وذلك من خلال إعادة هيكلة كافة الإجراءات الحكومية في مجال إدارة الشؤون الاقتصادية والمؤسسات، والتخلص من البيروقراطية والإجراءات المعقدة والمثبطة لأنشطة القطاع الخاص، والمتسببة بشكل رئيسي في توسع الاقتصاد غير الرسمي (غير المنظم)، بحيث يتم العمل على وضع منظومة محددة ومهنية وشفافة لاتخاذ أي قرار اقتصادي من جانب. ومنظومة إجراءات محددة تخفف من تعقيدات ومتطلبات الترخيص والتنظيم والرقابة على مؤسسات القطاع الخاص والمشاريع الصغيرة والأنشطة الفردية والعائلية.
11. ضرورة تفعيل إسراع سلطة النقد الفلسطينية في مأسسة العلاقة بين مؤسسات ضمان القروض الخاصة من جهة والجهاز المصرفي من جهة أخرى لتحفيز هذا الجهاز على إعطاء ومنح تسهيلات ائتمانية أكبر للمنشآت الصغير والمتوسطة، وهي الاقل قدرة في الوصول لمصادر التمويل
12. تأسيس منصات التمويل الجماعي بمساهمات فردية من البنوك وربما أيضاً من الجهات المانحة بهدف منح هذه المنشآت تمويلاً وشروطاً ميسّرة. وإعادة هيكلة مؤسسات التمويل غير المصرفية، بما يؤدي إلى تخصصها في الإقراض للمنشآت الصغيرة والمتوسطة في القطاعات والأنشطة الاقتصادية المختلفة.
13. اعادة النظر في الرسوم الجمركية على السلع المستوردة بحيث تخفف هذه الرسوم عن السلع الاساسية وترفع على السلع التي تعاني من المنافسة الشديدة من المنتجات الاسرائيلية والصينية وهذا ينطبق ايضا على معدلات ضريبة القيمة المضافة.
14. انهاء حالة الازدواج الضريبي إذا ما تحدثنا عن حكومة واحدة ومصالحة تمضي بخطوات ثابتة نحو توحيد مختلف المؤسسات الحكومية بين الضفة وغزة.، باعتبار ان هذا الامر سوف يزيل الكثير من الهموم عن كاهل المواطن في قطاع غزة الذي وقع مصيدة الدفع المالي لازدواجية الضريبة.
15. التوجه نحو الاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا الرقمية من خلال الاهتمام بالبنية التحتية الرقمية والاستفادة من الدول والتجارب الناجحة بالتكنولوجيا والرقمنة، وتعزيز الثقافة الرقمية والالكترونية لدى المواطنين من خلال عقد الدورات والورشات الثقافية لعكس مدى اهمية الاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا.
وفي الختام ورغم العراقيل المتعددة التي تحد من قدرة الاقتصاد الفلسطيني على العمل والنهوض في ضوء الازمات المتكررة وتحديداً آفتي السوء (البطالة والفقر) إلا أن إمكانية الحل قائمة وإن كانت بدرجة محدودة وهذا يتطلب إعادة النظر بالسياسات الاقتصادية الفلسطينية وبآليات العمل الفلسطيني, فالاحتلال ورغم قبحه وسياساته التدميرية لكل ما هو فلسطيني إلا أنه لا يضع لجاماً أو رسناً على عقلك الفلسطيني لكي لا تعمل فكما يقول المثل الفلسطيني ما بيحرث الأرض إلا عجولها, فالموضوع يحتاج لوقفة حقيقية وللاستثمار في العمل والعمل بصمت كما يعمل الآخرون ولنا في تجارب عدد من دول العالم نموذجاً, وبدون العمل الجاد لا يمكن للفلسطيني أن يضع حداً لأزماته المتكررة, أما الإتكالية والتوقف عن العمل لأن هناك شماعة تُرفع دائماً وهي الاحتلال والانقسام سبباً لكل أزماتنا, ورغم أن ذلك حقيقة إلا أنه بالإرادة الشعبية والرسمية يمكن تقليص الخسائر التي تسببها الاحتلال والانقسام إلى أقل حد ممكن, ويتوجب على الفلسطيني أن يعمل لتحقيق التنمية في ضوء الاحتلال والانقسام, أي أن يتعايش مع هذه الحالة فبوادر انتهاء الاحتلال العسكري للضفة وغزة أو إنهاء الانقسام لا زال من المُبكر الحديث في ذلك فلا مؤشرات قريبة لذلك.