المتاهة السياسية في رام الله: معتصم حمادة

المتاهة السياسية في رام الله: معتصم حمادة

المتاهة السياسية في رام الله
معتصم حمادة
عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

■ لعل القيادة السياسية في رام الله تعيش متاهة، ربما هي الأشد تعقيداً منذ زمن.

لقد مرَّ العام الماضي ثقيلاً على القيادة السياسية، وشهد محطات عكست نفسها سلباً على موقع هذه القيادة ونفوذها، وأظهرها في حالة ضعف غير مسبوقة.

فقد أهدرت القيادة السياسية ما وفرته حوارات القاهرة من أجواء إيجابية تمهيداً لتنظيم الانتخابات العامة، حين لجأت إلى إلغاء الانتخابات دون أن تستطيع أن تداري، أمام الرأي العام، احتمالات الخسارة التي قد تتعرض لها في هذه الانتخابات.

• فقد أهدرت فرصة معركة القدس، حين تخلفت عن تحمل مسؤولياتها في توفير الغطاء السياسي للهبة الجماهيرية، والتقدم باعتبارها القيادة اليومية لهذه الهبة، فأخلت المكان لحماس وقوى المقاومة، وأدخلت نفسها في عزلة سياسية، اضطرت معها الولايات المتحدة لإرسال وزير خارجيتها توني بلينكن إلى المنطقة لإعادة تعويم قيادة رام الله أمام تقدم دور حركة حماس.

• كذلك أهدرت فرصة لتثمير انتصار معركة القدس، حين تراجعت عن دعوتها للانتخابات العامة، وأصرت على حصر الحوار مع حماس والقوى الأخرى في قضايا الإعمار دون غيرها، ما أفشل الدعوة المصرية لاستئناف الحوار الفلسطيني في ضوء انتصارات معركة القدس.

• كذلك أهدرت فرصاً أخرى، حين استجابت للتوجهات الأميركية لأن سقف تحركها لا يتجاوز الحل الاقتصادي مع إسرائيل (وإن كانت حاولت أن تجمل موقفها بالادعاء بالتمسك بأفق سياسي لهذا الحل)، وتوقفت عن الدعوة إلى دور جديد للرباعية (التي ذهبت ضحية أزمة أوكرانيا)، وكذلك حل الدولتين، خاصة بعد أن أوضح بلينكن لرام الله بعبارات صريحة أن واشنطن ليست الآن في وارد الانشغال بالملف الفلسطيني، وأن المطلوب هو الحفاظ على الوضع الراهن، و«ضبط النظام» في الشرق الأوسط، إلى أن يحين دوره في اهتمامات البيت الأبيض.

ربما شكلت الدعوة إلى اجتماع الدورة الـ31 للمجلس المركزي، فرصة تطل القيادة السياسية برأسها فوق سطح الماء، وتسترد عبرها بعض أنفاسها التي كادت أن تنقطع تحت وطأة الأحداث، بما فيها وطأة الخطاب في الأمم المتحدة، الذي عكس انفعالاً واضطراباً سياسياً لدى القيادة السياسية، بفعل تجاهل القيادة الإسرائيلية لها وعدم اكتراث واشنطن بملف المفاوضات.

أعادت دورة المجلس المركزي الـ31 انتخاب هيئة رئاسة جديدة للمجلس الوطني، واستكملت عضوية اللجنة التنفيذية بما في ذلك انتخاب رئيس الصندوق القومي، وصدرت عن المجلس سلسلة قرارات أعادت التأكيد على ما سبقها من قرارات سياسية، مشددة على ضرورة انتظام اجتماعات وأعمال اللجنة التنفيذية، باعتبارها القيادة اليومية، وانتظام اجتماعات المجلس المركزي باعتباره الهيئة التشريعية المخولة بصلاحيات المجلس الوطني.

وحتى لا نقع في فخ خداع الذات يتوجب الاعتراف أن تشكيلة اللجنة التنفيذية الجديدة، شكلت خطوة إلى الوراء مقارنة مع التشكيلة السابقة، وإن كان الرهان على نشاطية اللجنة لم يسقط. لكن تطور الأحداث أوضح أن اللجنة التنفيذية وضعت على الرف، وجرى تعطيلها، وتعطيل قرارات المجلس المركزي، حتى مسألة تعيين عضو اللجنة حسين الشيخ أمين سر للجنة التنفيذية، جرى عبر تجاوز نظامها بإصدار مرسوم رئاسي بذلك، بديلاً لعقد اجتماع اللجنة يتم فيه توزيع المهام على أعضائها وليس فقط مهمة أمين السر، والذي حملت مسألة تعيينه إشارات أبعد من هذا المنصب، ربما تتعلق بمسألة خلافة الرئيس عباس، وهو الأمر الذي فتح المجال للنقاش دون الوصول إلى نتائج شافية.

المشهد السياسي في رام الله بات في ظاهره عصياً على الفهم من قبل بعض المراقبين، فالاحتلال بصدد شن هجمة دموية غير مسبوقة ضد الفلسطينيين بتعليمات مباشرة من رئيس حكومة إسرائيل، ولعل بعض مشاهد اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة، والاعتداء على مسيرة تشييعها، ومشهد غزوة الأعلام، وانبطاح اليهود في ساحات الأقصى في صلوات تلمودية والإصرار على الادعاء بأن القدس عاصمة لإسرائيل، واجتياح المدن والمخيمات، واغتيال الشبان والمناضلين، كلها أحداث وضعت الحالة على شفا الانفجار.

وحدها القيادة السياسية كانت الغائب الأكبر، ليس لأنها ذات أعصاب حديدية أو باردة، بل لأنها تستشعر أنها لا تملك القدرة على فعل ما يمكن أن يشفى بعض غليل الفلسطينيين. لم يتوقف سيل البيانات الرسمية الداعية إلى تدخل أميركي أو أممي لردع إسرائيل ولجم جرائمها. وجرت اتصالات مع بعض عواصم الغرب تشكو لها الهجمة الإسرائيلية، وتدعو لتدخل ما لا يكتفي بلجم التغول الإسرائيلي، بل وكذلك في حفظ ماء وجه القيادة السياسية التي وقفت بين خيارين سياسيين، أدخلاها في متاهة سياسية لم تخرج منها حتى الأن.

فمن جهة هي مدعوة لعقد اجتماعات اللجنة التنفيذية والقيادات السياسية لبحث الحالة العامة في الضفة، وتحمل المسؤولية أمام الشارع بما في ذلك الشروع في تنفيذ قرارات المجلس الوطني والمركزي، باعتبارها هي الرد العملي على التغول الاسرائيلي بعد أن أعفت اسرائيل نفسها من أي التزامات نحو الاتفاقات الموقعة (أوسلو وغيره) بات الالتزام مطلوباً من جانب واحد هو الجانب الفلسطيني في التزاماته الأمنية نحو سلطة الاحتلال، والتزاماته الاقتصادية نحو إسرائيل وعدم التفلت منها.

تطبيق قرارات المجلس المركزي، هو الحد الأدنى الذي طالب به الشارع الفلسطيني وقواه السياسية. وهذا معناه قلب الطاولة في المنطقة وحشر الإسرائيليين والأميركيين في الزاوية، والخروج من المعادلة الأميركية – الإسرائيلية نحو معادلة فلسطينية رسمت عناوين قراراتها المؤسسة الوطنية وحوارات التوافق الوطني.

هذا أمر من شأنه أن يؤجج نار «الانتفاضة الشعبية» وأن يعمق المواجهة مع الاحتلال، وأن يوفر الغطاء السياسي، لمقاومة شعبية شاملة لكل الاساليب بما في ذلك العودة إلى العمل المسلح.

هذا تطور له انعكاساته في العواصم العربية المجاورة، وكذلك في تل أبيب وفي البيت الأبيض، وفي العواصم الأوروبية. سيرغم الجميع على إعادة النظر إلى القضية الفلسطينية، ليس باعتبارها مسألة غذاء ودواء ومساعدات مالية، وليس باعتبارها قضية مؤجلة إلى حين آخر(ربما الولاية الثانية لبايدن على أقرب تقدير)، بل اعتبارها العنصر المفجر للحالة في الإقليم على الصعيد الرسمي والشعبي، ولن تستطيع الحدود أن تحول دون انتشار نيرانها إلى الجوار، وبالتالي ليصبح على الجميع أن يعيد دراسة أولوياته، وأن يعيد ترتيب ملفاته وأوراقه) ليحد من المفاجأة أو يحاصرها أو يتفاعل إيجاباً معها.

لا شك في أن هذه التوقعات لا تتلاءم واستراتيجية القيادة السياسية للحل، منذ مجيء الرئيس أبو مازن إلى السلطة بات الخيار الوحيد للقضية هو «الحل السلمي» عبر مفاوضات مع اسرائيل. وجعل مفردات السلطة ترجمات لهذه الاستراتيجية كالحديث عن المقاومة الشعبية السلمية، أو الحديث عن رفض كل أشكال العنف أو إدانة قتل المدنيين على الجانب الفلسطيني والاسرائيلي تعليقاً على العمليات الفدائية في مدن الـ 48 وأحيائها الإسرائيلية اليهودية.

وفي ظل هذه الاستراتيجية، وصف التنسيق الأمني، تطبيقاً لاتفاق أوسلو بأنه مقدس، كما اعتبر الوزير «حسين الشيخ» العودة إلى الالتزام بالاتفاق في 17/11/2020 انتصاراً للسلطة الفلسطينية ولرئيسها، وهي العودة التي شكلت انقلاباً على القرار القيادي في 19/5/2020 بوقف التنسيق الأمني، وانقلاباً على توافقات الأمناء العامين في 3/9 من العام نفسه. وبدلاً من الذهاب إلى المؤسسات الفلسطينية لمعالجة الحالة الوطنية بموجب قرارات المؤسسة، لجأت القيادة السياسية إلى الاستنجاد بواشنطن وبالعواصم الأوربية. وبناء لنصائح أميركية أسداها إلى القيادة السياسية وزير الخارجية الأميركي توني بلينكن. وأسدتها إلى المخابرات الفلسطينية وكالة المخابرات المركزية، وحتى لا تنزلق الهيئات الرسمية إلى خارج الخط العام لاستراتيجية القيادة السياسية، تحت وطأة الضغط السياسي وتطور الأوضاع في القدس خاصة وفي الضفة بشكل عام، عطلت القيادة السياسية اجتماعاً قيادياً فلسطينياً، كما عطلت اجتماعات اللجنة التنفيذية في م.ت.ف، رغم النداءات المتكررة لحركة فتح التي اعترف اثنان من أعضائها، عزام الأحمد وعباس زكي، أن اجتماعاً دُعِيَ له في «المركزية» علق بعد «نصيحة أميركية بالتروي»، وتعهد أميركي بالتدخل لدى حكومة بينيت بوقف التغول الإسرائيلي.

المشهد الفلسطيني الآن يبدو التالي:

1- مقاومة شعبية مشتتة في القدس والضفة الفلسطينية في مواجهة هجمة شرسة لقوات الاحتلال وعصابات المستوطنين.

2- هيئات رسمية منوط بها القيادة اليومية للشعب الفلسطيني مغيبة عن المسرح السياسي، ومعطلة بقرار أميركي.

3- قيادة سياسية عليا تعيش حالة انتظار لما يمكن أن تسفر عنه ضغوط أميركا و أوربا على اسرائيل في سياسة تكرر الفشل الذي صار العنوان الرسمي لاستراتيجية السلطة.

4- معارضة سياسية لا تكف عن الدعوة إلى الخروج من أوسلو، ولا من يجيب، لغياب القدر الكافي من الضغط على السلطة لتستجيب لهذه النداءات.

5- رئيس الحكومة استبدل وظيفته الميدانية، بإطلاق التصريحات وتوسل التوسط الخارجي في وقت تعجز فيه حكومته عن حل الأزمات المعيشية للمواطنين.

6- أجهزة أمنية فلسطينية مكبلة بقيود أوسلو أمام ناظريها يسفك الدم الفلسطيني.

إنها متاهة سياسية تعيشها رام الله، وتفيض بتداعياتها على المشهد الفلسطيني كله.