اكتساح الرأسمالية للعالم ولمختلف ميادين النشاط الاجتماعي

اكتساح الرأسمالية للعالم ولمختلف ميادين النشاط الاجتماعي
الرفيق عبد الله الحريف

elharrif-ab-300x300 اكتساح الرأسمالية للعالم ولمختلف ميادين النشاط الاجتماعي

عبدالله الحريف

اكتساح الرأسمالية للعالم ولمختلف ميادين النشاط الاجتماعي: الأيديولوجيا والقوى الفاعلة والأدوات والوسائل

في إطار بحثها الجنوني على فرص جديدة لمواجهة ميل نسبة الربح إلى الانخفاض الذي يميزها، تكتسح الرأسمالية العالم حيث أصبحت سائدة في كل بقاع المعمور. كما تكتسح أنشطة مختلفة، إما كانت، بالأساس، من مهام الدول أو الهيئات المنتخبة المحلية أو الجهوية (إنتاج وتوزيع الكهرباء والطاقة، بشكل عام، والماء والنقل العمومي والصناعات ذات الطابع الاسترتيجي والتعليم والصحة والثقافة والرياضة) وإما كانت، بالأساس، منزلية (التغذية وتنظيف الملابس…) وإما كانت تهيمن عليها البرجوازية الصغرى والمتوسطة (تجارة التقسيط ومهن حرة كالمحاماة والطب). كما نلاحظ هجوما كبيرا على الأراضي الفلاحية في العالم الثالث من طرف الشركات المتعددة الاستيطان وبعض الدول لانجاز مشاريع زراعية أوغيرها.

ولتحقيق هذا الهدف، ترتكز الرأسمالية على أيديولوجيا وأدوات وسائل جد فعالة:

1. الأيديولوجيا:

لعل أهم أيديولوجيا اعتمدت عليها الرأسمالية، منذ أربعة عقود، هي النيولبرالية التي ترتكز على عقيدة مفادها أن السوق (أي قانون العرض والطلب) هو الحل السحري لكل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها الرأسمالية. والنتيجة هي سعي الرأسمالية إلى تحويل جل الإنتاج المادي والغير مادي (العلم والثقافة والفن والرياضة والترفيه…) والخدمات إلى سلع تتبادل في السوق. هكذا يصبح دور الدولة يقتصر على ضمان حرية السوق بتخليصه من أية قوانين تعرقل سيره أو تدخلات للدولة لمعالجة اختلالاته، من جهة، وتوفير الشروط لاكتساح الرأسمالية لجل الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية والترفيهية، من جهة ثانية… ولذلك يجب أن تنسحب الدولة من كل الأنشطة الاقتصادية (إنتاج وتوزيع الكهرباء والبترول والغاز والصناعات ذات الطابع الاستراتيجي…) والاجتماعية (التعليم والصحة والنقل العمومي..) والثقافية والترفيهية وأن تترك اليد طليقة لاكتساح الرأسمالية لهذه القطاعات. على مستوى العلاقات مع الخارج، فتح الباب على مصراعيه أمام الراسميل والبضائع الأجنبية. ورفعت النيولبرالية شعارات خوصصة القطاع العام وتفكيك القوانين التي تنظم السوق ووقف تدخلات الدولة لمواجهة اختلالاته و”دولة أقل”. وهي شعارات يكذبها الواقع حيث أن السوق ليس حرا كما يتطلبه قانون العرض والطلب، بل تهيمن عليه الاحتكارات، وعلى رأسها الشركات المتعددة الاستيطان، التي تنتزع ريعا هائلا. هذه الشركات التي أغلبيتها الساحقة من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية واليابان. كما أن الكلام عن “دولة أقل” هو من قبيل ويل للمصلين. وهي، في الحقيقة “دولة أقل” من حيث التزاماتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها إزاء الشعب و”دولة أكثر” لتوفير الشروط للرأسمال: بنيات تحتية ضرورية (طرق وسكك حديدية ومطارات ومواصلات…) وأراض وكهرباء وهاتف وإنترنيت وغيرها بأثمان زهيدة وامتيازات ضريبية… ويد عاملة مؤهلة للعمل ورخيصة وقوانين قمعية ضد الطبقة العاملة وجهاز أمن قوي للتصدي لاحتجاجات العمال والكادحين.

هكذا يتبين أن النيولبرالية هي أيديولوجيا الرأسمال الاحتكاري، وعلى رأسه الشركات المتعددة الاستيطان رأس رمح الامبريالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. فلا عجب أن يتحمس الرأسمال الاحتكاري، وخاصة المعولم، المغربي لتطبيقها.

2. القوى الفاعلة والأدوات والوسائل:

إضافة إلى النيولبرالية كعقيدة، يرتكز اكتساح الرأسمالية للعالم ولمختلف الميادين الاقتصادية والاجتماعية وغيرها على قوى اجتماعية (الرأسمال الاحتكاري، وعلى رأسه الشركات المتعددة الجنسية) ومؤسسات خاضعة لها: نقدية (صندوق النقد الدولي…) ومالية (البنك العالمي…) وتجارية (منظمة التجارة العالمية…) وإعلامية (آلاف القنوات التلفزية…) وسياسية (الاتحاد الأوروبي…) وتجمعات لقادة شركات متعددة الجنسية وسياسيين ومفكرين( منتدى دافوس(1) ولقاءات بلدربرغ(2)…) ومؤسسات لا ربحية لبعض كبار الأغنياء (بيل غيتس وروكفلير وكارنيجي وصوروص…) ومنظمات غير حكومية ممولة من طرف هذه المؤسسات وهيئات التفكير(3) كشركة راند(4) ومؤسسة هيريطاج(5).

هكذا يستغل صندوق النقد الدولي المديونية ليفرض برامج التقويم الهيكلي التي تتجسد في تراجع تدخل الدولة في الميدان الاجتماعي (التعليم والصحة والسكن والنقل العمومي…) وفي ميادين استراتيجية كالطاقة والماء (إنتاج وتوزيع الكهرباء والنفط والغاز والماء) والمواصلات، وذلك لصالح الرأسمال الخاص.

ويلعب البنك الدولي دورا أساسيا في هيكلة الاقتصاد الوطني من خلال تحديد وظيفته في قسمة العمل على المستوى الدولي التي تتحكم فيها الشركات المتعددة الجنسية (القطاعات التي تحضى بالأولوية) وتقديم التمويل الضروري لتوفير الشروط الملائمة للاستثمار التي ذكرناها أعلاه.

بينما تقوم منظمة التجارة بدورين أساسيين: فتح أسواق الدول التابعة أمام الرأسمال وتسليع الخدمات، وخاصة الاجتماعية.

ويلعب الاتحاد الأوروبي، على غرار مؤسسات أقليمية أخرى، دورا هاما في الترويج والتقنين للوصفات النيولبرالية بالنسبة لأعضائه والدول التي تجمعه معها اتفاقيات تجارية ومالية وغيرها.

أما مؤسسات التفكير، فيتمثل دورها، أساسا، في إسداء النصيحة للشركات المتعددة الجنسية والدول حول الوسائل والتكتيكات لإنجاح اكتساح الرأسمالية لكل مناطق العالم ولكل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها.

وتقوم المؤسسات اللا ربحية لبعض أكبر أغنياء العالم بدور خبيث في نشر النيولبرالية من خلال تمويلها لجمعيات غير حكومية تزعم أنها مستقلة، وهي، في الحقيقة، تشكل أدوات لنشر النيولبرالية وكذلك من خلال تقديم المنح للنخب لتكوينها وقولبتها، بل حتى شرائها وتحويلها إلى عملاء في كبريات الشركات والإعلام والبرلمانات والحكومات تخدم مصالح الرأسمال الاحتكاري في بلدانها.

وحين تعجز هذه الوسائل على فرض الوصفات النيولبرالية بسبب مواجهة الشعوب، وخاصة الطبقة العاملة وعموم الكادحين والكادحات الذين هم الأكثر تضررا من انعكاساتها المدمرة على أوضاعهم المعيشية، يسعى الرأسمال الاحتكاري إلى تقسيم صفوف الشعب من خلال تطبيق جزء من هذه الوصفات وتأجيل الجزء الآخر في انتظار توفير الشروط الملائمة لذلك. هكذا يتوفر الرأسمال الاحتكاري الغربي على استراتيجية يصرفها، بشكل انتقائي وتدريجي، حسب موازين القوى.

وحين يجد الرأسمال الاحتكاري الغربي نفسه أمام أنظمة تقدمية تسعى فعلا إلى التحرر من سيطرته وترفض اكتساحه للاقتصاد الوطني والقطاع العمومي، فإنه لا يتوانى عن اللجوء إلى العنف، إما بواسطة انقلابات عسكرية كما وقع و لا زال يقع في العديد من دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، وتدخلات عسكرية كما وقع في يوغسلافيا والعراق وليبيا… وحين يعجز عن ذلك، يلجأ إلى حروب هجينة تمزج بين المؤامرت والتهديدات والاستفزازات والعقوبات والحصار والحرب الإعلامية كما هو الحال بالنسبة للعديد من الدول، وخاصة كوبا وفينزويلا ونيكاراغوا وإيران…

والخلاصة هي أن النضال ضد اكتساح الرأسمالية لجل النشاط الإنساني يتركز، الآن، في النضال ضد الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي تمثل، أساسا، مصالح الشركات المتعددة الاستيطان باعتبارها القوة السائدة وسطها وضد الأنظمة والقوى المحلية التابعة لهذه الامبريالية

هوامش:
(1) Forum de Davos
(2) Meeting Bilderberg
(3) Think Tank
(4) Rand Corporation
(5) The Heritage Foundation