حوار جريدة النهج الديمقراطي مع الرفيق عبد الرحيم هندوف

حوار جريدة النهج الديمقراطي مع الرفيق عبد الرحيم هندوف

في عددها 493 جريدة النهج الديمقراطي تجري حوارا هاما

مع الرفيق عبد الرحيم هندوف، كاتب عام سابق للجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي/الإتحاد المغربي للشغل.

●○ تعرف البادية المغربية استغلالا بشعا للعاملات الفلاحيات، وتهميشا واضحا للمجال هل من توضيح حول الموضوع؟
● عبدالرحيم هندوف

 هذه الفئة موضوع يؤرقنا ويحسسنا بمرارة، للأسف أن الرأي العام لم يطلع عليه ولا يعرفه كثيرا. إن العمال الزراعيين يعيشون التمييز الاقتصادي وهو صارخ. فعمال جميع القطاعات كانوا يستفيدون من الضمان الاجتماعي منذ تأسيسه سنه 1960، أما العمال الزراعيين لم يستفيدوا من ذلك حتى سنة 1982. وبالنسبة للتعويضات العائلية فلم يستفيدوا منها إلا سنة 2009، أي بعدما قامت الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي بخوض معركة دامت عدة سنوات، هذه النقابة حيث كنت عضوا فيها من 2003 حتى 2012، وآنذاك كنت أقول لزملائي في القطاع الفلاحي، إذا لم نستطع أن نحصل على مكسب التعويضات العائلية لفائدة العمال الزراعيين نكون قد فشلنا في مهمتنا. وبالفعل كان في تلك الفترة نضال داخل المجلس الإداري للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ونضال خارج المجلس الإداري، عبارة عن إضرابات ووقفات وتحسيس للرأي العام. فعلى سبيل المثال إذا أعطينا ل 500 ألف عامل زراعي التعويضات العائلية أي 600 درهم سنضع في جيوبهم أزيد من 3 ملايير درهم في السنة، أي أكثر من ميزانية المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وهذه الثلاثة ملايير لا تكلف الدولة ولو سنتيما، لأن 2 مليار درهم للمبادرة الوطنية في السنة فيها مليار درهم من المساعدات الخارجية كدعم والمليار الثاني من ميزانية الدولة وهذا المبلغ عندما يصرف يذهب للمقاولات المكلفة ببناء دور الطلبات أو أشياء أخرى، أما هذه ال 3 مليارات درهم فتذهب مباشرة لجيب العمال الزراعيين وبالتالي فإن 600 درهم شهريا تشكل 40% زيادة في دخلهم. هذه هي محاربة الفقر إذا أردنا محاربة الفقر: امنحوا الناس حقوقهم! فمن حسن الحظ استطعنا بعد القيام بإضرابات واحتجاجات كثيرة وبنضالات العمال الزراعيين، تمكنا لأول مرة في المغرب من تحقيق مطلبنا، ولكن لاتزال هناك مشكلة كبيرة وهي الحد الأدنى للأجر، حيث أن اليوم الحد الأدنى للأجر في الفلاحة يقل ب 40% عن الحد الأدنى للأجر في الصناعة؛ فاليوم عامل زراعي يتقاضى 69 درهما يوميان وإذا اعتبرنا أن عاملا زراعيا له زوجة وابنان فإن كل واحد منهم يتقاضى أقل من 20 درهما في اليوم، وبما أن عتبة الفقر المحددة من طرف الأمم المتحدة هي 20 درهما يوميا، إذن يمكننا أن نقول بأن العمال الزراعيين يعيشون تحت عتبة الفقر.

بالإضافة إلى ذلك نجد أنهم يشتغلون بعدد ساعات أكبر من الصناعة أي 48 ساعة مقابل 44 في الأسبوع، وزيادة على ذلك فالعديد منهم لا يتم التصريح بهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ورغم أن لديهم الحق في التعويضات العائلية فالعديد منهم لا يتقاضوها بسبب عدم التصريح بهم، بالإضافة إلى التغطية الصحية غير المستفاد منها لأن الأغلبية لا يدفعونها. وبالإضافة إلى ظروف العيش القاسية في البادية (لا طرق، لا مستشفيات،…) يتم نقلهم كالحيوانات في ظروف لا إنسانية عبر شاحنات صغيرة لا تتحمل تلك الأعداد من الأشخاص، فعندما تقع حادثة سير يكون عدد القتى والجرحة كبير، كما حدث مؤخرا في منطقة مولاي بوسلهام حيث كان عدد المصابين يفوق 20 منهم 12 قتيلا. ومثل هذه الحوادث تتكرر كل يوم. فإذا مررت أمام شرطي المرور دور حزام السلامة يوقفك، في حين تمر أمامه كل يوم شاحنات محملة بالبشر والعمال الزراعيين ولا يوقفها، ما يفسر أن هناك تواطؤا ما بين السلطات وأصحاب المشاريع والشركات الزراعية الكبرى. أتعلم أن أكبر الاستثمارات الفلاحية تتم في منطقة سوس ماسة وبالتالي فأغلب الصادرات إلى أوروبا في القطاع الفلاحي من تلك المنطقة، وفي تلك المنطقة توجد أكبر نسبة للفقر وأكبر نسبة للسيدا، والعمال يقيمون في دور من البلاستيك في ومعانات أقسى من دور الصفيح. وهؤلاء المستثمرون الأجانب والمغاربة يستغلون العمال والفرشة المائية والتربة وبعد استنزافها يتركون الأرض قاحلة باستعمالهم المفرط للمبيدات، ويرحلون إلى منطقة أخرى، ولا يسددون الضريبة، فلا يستفيد المغرب من هذا النوع من الاستثمارات حيث يتم استغلال الإنسان وتدمر البيئة.

جميع الآليات من جرارات وآليات السقي.. تأتي من الخارج بل حتى البذور، والأموال تذهب للخارج. فأي استفادة يجنيها المغرب من هذا النوع من الاستثمارات؟ فاليوم وصلنا بعد استنزاف الفرشة المائية نفكر في تحلية مياه البحر لسقي الخضروات الموجهة للتصدير، مع ما تكلفه هذه العملية (20 درهما للمتر المكعب على الأقل) والجزء الأكبر منها تؤديه الدولة أي من جيب المواطن عبر الضرائب. هذا هو النموذج التنموي الذي يجب أن نعيد فيه النظر. النموذج الذي لا يؤدي سوى للفقر والكوارث البيئية ولا تستفيد منه بلادنا على أي مستوى. سألت يوما رئيس إحدى الجماعات المعنية وقلت له كيف لديكم هذا الحجم من الاستثمارات ولا تتوفرون حتى على طرق صالحة ولا بنيات تحتية؟ فأجابني إنهم لا يؤدون الضرائب وبالتالي نحن لا نستفيد شيئا.

إن العمال الزراعيين في المغرب فئة “محكورة” ومقهورة ومظلومة لذلك نقول “كفى من الحكرة!” ويجب اليوم رد الاعتبار لهذه الفئة لأنها هي من ينتج القوت الأساسي لعيش المواطن.

●○ إذا كان هذا هو واقع المناطق الإنتاجية الكبرى فماذا عن المناطق الجبلية والنائية؟
● عبدالرحيم هندوف

في المناطق الجبلية حيث التهميش المطلق وانعدام طرقات، هل تعلم بكم تشترى قنينة الغاز التي تبلغ في المدن 42 درهما؟ إنها تصل أحيانا إلى 200 درهم لأنها تنقل عبر البغال لمسافة يوم كامل. وهذا ما يضطر الساكنة إلى تدمير الغابات والغطاء النباتي مما يؤدي إلى انجراف التربة وتوحل السدود وتقل حقينتها ويسبب في انعكاسات خطيرة بيئية واقتصادية. إن المواطن هناك يطالب فقط بممرات ومسالك غير معبدة، فالبغل هو وسيلة نقل المسافرين والبضائع، وهو سيارة الإسعاف وآلة الحرث والحصاد، إنه مغرب “أسردون” ! . إن الأطفال هناك في سن 14 و15 سنة لم يسبق لهم أن رأوا السيارة. كل هذا التهميش علما أن هذه المناطق الجبلية هي منبع المياه التي نستغلها في المدن وفي السهول السقوية، وبالمقابل يعيش السكان هناك الفقر المدقع في مواجهة البرد والفيضانات ولا يصلهم أي مسؤول من الدولة باستثناء المقدم الذي يعيش معهم، وفي فترة الانتخابات تأتيهم الهيلكوبتر، ليس لنقل المرضى، بل محملة بصناديق الاقتراع. إنه مغرب آخر. وبالتالي نقول “كفى من الحكرة وكفى من الظلم الذي يعيشه هؤلاء المواطنون”!.

وهذا الوضع هو نتيجة للسياسات المتبعة منذ فترة الاستعمار الذي قسم المغرب إلى نافع وغير نافع. فركز على النافع حيث الأراضي الخصبة، واستولى عليها المعمرون وشركات رأسمالية كبرى بعد سلبها من أصحابها الشرعيين.. ومد المغرب النافع بالطرقات وقنوات الري وبنى سدودا لتوفير المياه ومنح المعمرين القروض والدعم المالي وأدخل زراعات جديدة كالحوامض والبواكر موجهة إلى التصدير نحو فرنسا. وهمش باقي المناطق التي أدخلها في نطاق المغرب غير النافع.

●○ في استجوابات سابقة لكم تتحدثون عن الأعطاب البنيوية الكبرى للفلاحة في المغرب ما هي تلك الأعطاب؟
● عبدالرحيم هندوف

 يمكن تحديد الأعطاب البنيوية الكبرى للفلاحة عموما ببلادنا في 5 أو 6 أعطاب:

العطب الأول، توزيع الأرض، بحيث عندنا اليوم 55% من الضيعات يملكون حوالي 12% من المساحة المزروعة بمساحات أقل من 3 هكتارات؛ وعندنا بالمقابل 12% من الملاكين الكبار يملكون 55% من الأراضي، أي أن هناك تمركز للأراضي في يد قلة قليلة من الفلاحين. وهذا الوضع تجتره بلادنا منذ الاستقلال وهو ما أعطانا فلاحتين: فلاحة عصرية كبيرة متطورة وأخرى معيشية متخلفة. والإشكال هو أنه رغم كونها في 75% منها تمليك إلا أن أغلبها غير محفظة مما يعوق الولوج إلى السوق المالية وبالتالي فالقروض التي تقدمها الدولة أو القرض الفلاحي لا يستفيد منها سوى فئة قليلة (حوالي 150 ألف فلاح) لا تتجاوز 10% من مجموع الفلاحين وهم طبعا كبار الفلاحين. كما تعيق هذه الوضعية الولوج للدعم الذي تقدمه الدولة والذي يشترط التحفيظ، إضافة إلى أن صغار الفلاحين ليس لديهم الامكانيات التي تجعلهم يستثمرون قبل أن يسترجعوا جزءا من تلك الأموال عبر الدعم، وبالتالي لا يستفيد كذلك من دعم الدولة سوى كبار الفلاحين. والسياسة المتبعة من طرف مخطط المغرب الأخضر أو قبله تكرس هذا الواقع.

الإشكال الثاني هو الماء، بحيث يعرف المغرب سنوات الجفاف مرة في حوالي كل 5 سنوات، وأغلب الموارد المائية توجد في الشمال، إذ نجد 7% فقط من المساحة تستحوذ على 54% من التساقطات. ورغم بناء السدود لا يستغل الماء بالشكل الأمثل. وحتى على مستوى الوزارة فالمديرية المكلفة بالماء سابقا تم تقزيمها إلى مجرد مصلحة في الهيكلة الجديدة بعد المخطط الأخضر وتقلص عدد الموظفين فيها من 17 الف إلى 4 آلاف.

ورغم تحويل السقي السطحي إلى سقي موضعي في بعض الحالات لم يتنج عن ذلك أي اقتصاد للماء. فيجب تقييم هذه الإصلاحات بشكل علمي لتطوير طرق تدبير الماء وتصحيح الاختلالات.

المسألة الثالثة هي التمويل،

والإشكال الرابع هو التأطير والتكوين لصالح الفلاحين والتقنيين للاطلاع على التقنيات الحديثة. والذي يلعب هذا الدور هو المكتب الوطني للاستشارات الفلاحية، إلا أنه يعاني من نقص كبير في الموارد البشرية فهناك حوالي 600 تقني ومهندس مكلف بتأطير مليون ونصف من الفلاحين وهذا أمر من سابع المستحيلات، إضافة إلى قلة الإمكانيات.

العطب البنيوي الخامس هو التسويق، ليس لدينا ميكانزمات تسويق تضمن حقوق الفلاحين. فعلى سبيل المثال في حالة موسم فلاحي جيد في الحبوب باعتبارها المنتوج الأساسي في المغرب، فإن الفلاح الصغير، مع وفرة المنتوج في السوق، يبحث عمن يشتري منه محصوله ب 150 درهم للقنطار ولا يجده. ومن يستفيد من الوضع هم السماسرة والوسطاء. في السابق كانت هناك التعاونيات تلعب دور le régulateur الموازن في أثمان البيع بحيث تكون التعاونية ملزمة بشراء المحصول بالثمن المرجعي الذي تحدده الدولة مثلا في 250 درهم للقنطار كحد أدنى. لكن أغلب تلك التعاونيات تمت تصفيتها بعدما انسحبت الدولة. إضافة إلى أن المطاحن أصبحت تفضل شراء الحبوب من الخارج لأن ثمنها أرخص لكونه مدعم من طرف الدولة المصدرة. فأوروبا مثلا تدعم فلاحتها بحوالي 30 مليار يورو في السنة. فلولا تعريفة الجمارك قد يصل قنطار القمح 100 أو 150 درهما.

مسألة أخرى في قضية التسويق، قامت الدولة في السابق باستثمارات هائلة لخلق الدوائر السقوية، وبعدما لم نكن ننتج شيئا من حاجياتنا من السكر في بداية الستينات، تعاقدت الدولة مع الفلاحين بأن تبني السدود وتزودهم بمياه السقي مقابل أن يزرعو الشمندر السكري. وشيدت الدولة 18 معملا لإنتاج السكر وتمت تغطية 64% من الحاجيات الوطنية من هذه المادة الحيوية في الثمانينات. وفي يوم من الأيام نزلت إملاءات البنك الدولي بإزالة الدورة الزراعية وترك الفلاحين لشأنهم. ورغم ذلك استمر الفلاحون في زراعة الشمندر، لكن المعمل أصبح يفرض أثمنة شراء أقل. وتراجع أغلب الفلاحين عن هذه الزراعة. ففي منطقة تادلة مثلا انتقلت المساحة المزروعة من 24 ألف إلى 6 آلاف هكتار. وبعدما قطعت الدولة مياه السقي عنهم نظم الفلاحون عدة إضرابات تم قمعها ورفضت الدولة أي حوار في الموضوع. وكانت النتيجة هي إغلاق المعامل (8 معامل من بين 13)، وخسرت شركة COSUMAR 400 مليون درهم في بني ملال وحدها وتمت تسريحات جماعية للعمال. ونزلنا من 64% إلى 20% من تغطية الحاجيات الوطنية من مادة السكر.

هذان نموذجان (الخبز والسكر) وهما مادتان أساسيتان في تغذية المغاربة، فرطنا في إصلاح تسويقهما وفضلنا استيرادهما من الخارج فأصبحنا رهينة الخارج في أمننا الغذائي وسيادتنا الغذائية التي لم تعد هاجسا لدى الدولة المغربية. فالسياسة الفلاحية ألغت هدفين أساسيين هما الاهتمام بالفلاح وبدخله وكرامته كإنسان، والاهتمام بالأمن والسيادة الغذائيين.