“الطّاعون” الجديد: فيروس كورونا والمعادلة السياسية المستقبلية
“الطّاعون” الجديد: فيروس كورونا والمعادلة السياسية المستقبلية
أشار فولتير في موسوعته الفلسفية أن المجاعة والطاعون والحرب تُعدّ من أخطر الكوارث التي يمكن أن تهزّ الإنسانية. ولعلّ ما يشدّنا في هذه القولة المقارنة بين الحرب والوباء والمجاعة. فالوباء مثل الحرب صراع بين قوّتين، صراع بقاء بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والطبيعة.
وهذا الصراع يمكن أن يجعل من الضّعيف قويا ومن القوي ضعيفا، إذ المسألة تتعلق باستعداد كل طرف لخوضه ولكيفيّة الخروج منه بأقل الأضرار وبأكثر مناعة.
إن الوباء يمثّل امتحانا للشعوب ولمدى قدرتها على التصدّي لمثل هذه الكارثة الإنسانية ولما لها من ضرر اقتصادي واجتماعي ونفسيّ. وإلى ذلك كلّه، فالوباء يؤثّر في تموقع الدول على الخارطة الجغراسياسية. ولعلّ نسبة الخسائر البشرية المتصاعدة التي تسبّب بها “كوفيد 19” تشير إلى أنه من الكوارث التي لا تقل خطورة عن التي سبقتها من أوبئة مثل وباء الكوليرا في القرن التاسع عشر، وهو ما قد يرسم في النهاية علاقات دولية جديدة.
أتى فيروس “كورونا” في خضمّ سياق تاريخي مشحون بالنزاعات الدولية التي تهدف إلى الهيمنة الاقتصادية وذلك في ظلّ وجود صراع قطبي Bipolarisation بين بلدان ذات نمط اقتصادي خاص يمكن وصفه برأسمالية الدولة الخارجة من رحم “تجربة اشتراكية فاشلة أو منتكسة” ونقصد تحديدا الصين وبدرجة أقل روسيا وكوريا الشمالية من جهة، ودول رأسمالية تقليديّة يسيطر فيها نمط رأسمالي ليبرالي متوحّش يحوّل كل شيء إلى سلعة وإلى مصدر للربح: “حوت ياكل حوت وقليل الجهد يموت” ونقصد هنا الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي خاصة.
هذا الجوّ المشحون وفقا لقراءات المحللين ينبئ بنشوب صراعات حادّة قد تصل إلى مواجهة كبرى سببها صراع النّفوذ إلاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية خاصة.. والآن، وقد جاءت جائحة “الكورونا” لتعمّق الأزمة القائمة والصراعات الحاصلة حاصدة آلاف الأرواح فارضة على البلدان غلق حدودها محوّلة الحياة إلى جمود تامّ يشلّ العجلة الاقتصادية، يمكننا التكهّن بأنّ العالم لن يظل بكلّ تأكيد على ما كان وعلى ما هو عليه.
إن الأزمة التي يجترّها العالم الرأسمالي منذ 2008 مضاف إليها وباء “الكورونا” وما يحدثه من تصدّع قويّ في المجالات الاقتصادية والتجارية والسياسية سيكون لها أثر كبير في العالم، مثلما كان لكلّ الأوبئة التي جدّت في الماضي أثرها في حياة الإنسانية وفي العلاقات الدولية.
نحن نشهد ولادة عالم جديد. فالظّهور المفاجئ والمأساوي لـفيروس”كورونا” لا ينبئ فقط بأزمة في القطاع الصحّي بل يشير إلى وجود أزمة سياسيّة عالمية ستلوح في الأفق، وقد تكتب لا محالة صفحة جديدة من تاريخ البشرية. لقد أرجعتنا أزمة الوباء إلى التّصادم الثنائي بين القوى الاقتصادية والسياسية المهيمنة على العالم، بين القوى الليبراليّة التقليدية المتوحشة (أمريكا وأوروبا) والقوى الرأسمالية الخارجة كما قلنا من رحم تجارب “اشتراكية” فشلت أو انتكست ولكنها حافظت على بعض الخصوصيات الاقتصادية (رأسمالية دولة) وحتى سياسية (مركزية السلطة المشطة أحيانا) مع طابع اجتماعي إلى حدّ ما (الصحة والتعليم الخ…) كما هو الحال في الصين خاصة.
فلنتذكر أهمّ المحطات التاريخية على صلة بمقدّمات هذا الوباء. فقد أعلن سقوط الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينات القرن الماضي، وصعدت الولايات المتحدة الأمريكيّة كأهم قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية عالمية متفرّدة بالهيمنة، وهو ما سمّي بالعالم “أحادي القطب”. وفرضت نمط الرأسمالية الليبرالية الجديدة المتوحّشة على الكون.
يبدو أن هذه الهيمنة لن تتواصل، إذ تعيش الولايات المتّحدة اليوم حالة انكماش اقتصادي مقابل اكتساح الصين للسوق التجارية العالمية. لقد تراجعت نسبة النمو الاقتصادي بأمريكا من 1,3 بالمئة سنة 2018 إلى 1,2 بالمئة سنة 2019. كما وصل الدين الأمريكي العام إلى حدّ خطر: 60 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. لعلّ هذه الأزمة تنبئ ببعض التغيرات، فقد تخسر الولايات المتحدة الأمريكية مكانتها الأولى في السوق العالمية. فلجوء هذه الأخيرة إلى روسيا والصين طلبا للمساعدة يبيّن أنّ “المارد الأمريكي” في حالة حرجة.
وفي هذا السياق، يتوقّع أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفرد ستيفن والت بانتقال “مركز العولمة” من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصين. تؤشّر هذه الأزمة أيضا إلى انشقاق الاتحاد الأوروبي. فقد أثبت لنا الوباء أن “وحدة الاتحاد الأوروبي” مجرّد وهم، كيف لا وقد رفضت دول الاتّحاد إغاثة إيطاليا وإسبانيا في حربها ضدّ الوباء وهذا يعكس مدى حدّة صراع المصالح التي تمزّق بلدان الاتحاد الأوروبي الذي بيّن الواقع أنه اتحاد للكارتيلات الرأسمالية الكبرى.
إن ما يمكن أن يغيّره الوباء في المعادلة السياسيّة العالميّة يتمثّل كذلك في تحرير البلدان الإفريقية من التبعية للبلدان الغربية التي لطالما فرضت عليها سياسات اقتصادية واجتماعية مقابل تمويلات تنهك التنمية والاقتصاد في هذه البلدان. من الأرجح أيضا أن تصبح الصين أوّل قوة اقتصادية عالمية. فهي البلد الوحيد الذي انتصر على الوباء وقدّم المساعدة لعدة بلدان أوروبية وإفريقية وآسيوية على وكذلك إيطاليا وإيران والعراق ولبنان وتونس. وحتى الولايات المتحدة الأمريكية اضطرّت إلى الاستنجاد بها بعد أن مرّت بفترة استهتار بالوباء وتعالٍ وغطرسةٍ وسلوكيات عنصرية (وصف الفيروس بأنه صيني في مخالفة للأعراف الدولية أخلاقيا وطبّيا).
وفي الأخير يبدو أن الرأسمالية في وضع جدّ مأزوم يوشك بأفولها بعد أن تبين أن أقوى البلدان الرأسمالية قد أخفقت في تطويق وباء كورونا وفي إيجاد حلول للإنسانية في مواجهة مصائرها. وهو ما يعود بالبشريّة إلى النقاش الحقيقي الذي ما انفكّ يثيره واقع الإنسانية منذ أن هيمنت الرأسمالية على العالم: رأسمالية أو اشتراكية؟ الغرق أو النجاة؟ كيف لا والاشتراكية تدعو إلى تثمين الإنساني قبل المادي والمراهنة على صحّة البشر وحياتهم ضدّ المنطق النّفعي الذي يرى في الإنسان مجرّد آلة منتجة تقاس أهمّيتها بما تنتجه من بضائع وخدمات وبما توفّره من ربح لصاحب رأس المال. هذا ما يلوح لنا لما بعد “الكورونا”: الحاجة الملحّة لحضارة إنسانية جديدة لا يمكن أن تكون غير اشتراكية…
ذلك ما تقوله قوانين تطور الاقتصاد السياسي… وذلك ما تحتّمه قواعد المادية التاريخية… فهل يؤدي عمال العالم وكادحوه وقياداتهم الثوريّة دورهم التاريخي؟ وهل ستتكرّس مجدّدا أفكار ماركس المُنبئة بانهيار الرأسمالية؟ الجواب عند صانعي التاريخ من عمّال وشعوب، إذ الرأسمالية لا تنهار وحدها ومن تلقاء نفسها، بل لا بدّ لها من أداة لحفر قبرها.
رحاب الهمامي