الأسيرات الفلسطينيات يحولن السجن إلى مدرسة في الصمود والمقاومة
الأسيرات الفلسطينيات يحولن السجن إلى مدرسة في الصمود والمقاومة
أصدرت المؤسّسات الفلسطينية المهتمة والمتابعة لوضعية الأسرى والأسيرات: هيئة شؤون الأسرى والمحررين، ونادي الأسير الفلسطيني، ومؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، ومركز معلومات وادي حلوة بالقدس، تقريرها السنوي المشترك لعام 2021، وتضمن الأرقام الحالية لأعداد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال. ويشير التقرير أن عدد الأسرى والأسيرات وصل نحو 4600، منهم 34 أسيرة من بينهن فتاة قاصر. وبلغ عدد المعتقلين الأطفال والقاصرين في سجون الاحتلال نحو 160 طفلاً. أما عدد المعتقلين اعتقالا إداريا فقد بلغ نحو 500 معتقل. ومن ضمن الأسرى والمعتقلين أيضا تسعة من نواب المجلس التشريعي الفلسطيني.
وإذا كان كل الأسرى ــ وخاصة منهم الأطفال والقاصرين الذي يعتبر مجرد أسرهم جريمة حرب ــ يتعرضون للعديد من أصناف الانتهاكات الجسيمة لحقوقهم، فإن وضعية النساء الأسيرات تشكل موضوع اهتمام خاص لما يتعرضن له كنساء من ممارسات عنيفة واشكال انتقام بغيضة ولتجربتهن الخاصة في مقاومة الاحتلال من داخل السجون.
الأسيرات الفلسطينيات ومعركة سجن الدامون الأخيرة
حسب تقارير مؤسسات الأسرى الفلسطينية، فإن ضمن الأسيرات الأربعة والثلاثين التي تعتقلهن سلطات الاحتلال، إلى حدود نهاية السنة الماضية في سجونها، توجد الفتاة القاصر نفوذ حماد التي تبلغ من العمر 14 عاما، كما أن أقدم الأسيرات هي ميسون موسى التي اعتقلت سنة 2015. من ضمنهن أيضا الأسيرتان شروق دويات وشاتيلا عيّاد المحكومتان بأعلى مدة الحكم، وهي 16 عاماً. مع أن ميسون موسى وعائشة الأفغاني محكومتان أيضا بمدة طويلة وهي 15 عاما. ومن بين الأسيرات كذلك توجد إحدى عشر أماً محرومات من احتضان أبنائهن، ومن ضمنهن المعتقلة شروق البدن المعتقلة إدارياً. وتشكل حالة الأسيرة إسراء جعابيض من القدس حالة استثنائية بامتياز، بسبب وضعها الصحي المتدهور جدا نتيجة الحروق البليغة التي تعرضت لها قبيل اعتقالها بعد أن اشتعلت النيران في سيارتها جراء إطلاق الرصاص عليها من طرف جنود الاحتلال وتفجيرها. وهي محكومة ب11 سنة سجناً، وحرمت من الرعاية الطبية الضرورية بعد الحريق، مما نتج عنه تشوهات بليغة في وجهها ورأسها وصدرها، كما بترت أصابعها.
وقد تابعت العديد من المنظمات -المعنية بقضية الشعب الفلسطيني ووضعية أسراه في سجون الاحتلال- المعركة التي خاضتها الأسيرات في الأسابيع الأخيرة بسجن الدامون بعد أن استهدفتهن سلطات الاحتلال بالاعتداء على كرامتهن محاولة المس بمعنوياتهن. وهو ما واجهنه بعزيمة قوية وخضن رفضا لذلك معركة بطولية. وعبرت العديد من التنظيمات الحقوقية والديمقراطية عن إدانتها لممارسات الاحتلال ضد الأسيرات الفلسطينيات في هذا السجن، معبرة عن مساندتها للمعركة التي خاضتها أولئك الأسيرات إثر ما استهدفهن من أصناف التعذيب وسوء المعاملة الذي تحظره كل المواثيق الدولية وفي مقدمتها اتفاقية مناهضة التعذيب.
وللتذكير فسجن الدامون، حسب موسوعة ويكيبيديا، “أقيم منذ زمن الانتداب البريطاني كمستودع للدخان، بحيث روعي في بنائه توفير الرطوبة لحفظ أوراق الدخان. وبعد عام 1948 وضعت إسرائيل يدها عليه وتم تحويله إلى سجن. يضم حوالي 440 معتقلا في حين يستوعب مبناه في الأصل 300 فقط”. كما أنه سجن يقع خارج الأراضي المحتلة عام 1967، في انتهاك مباشر للمادة 76 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تنص على أنه يجب على سلطة الاحتلال احتجاز أفراد شعب البلد المحتل في سجون تكون داخل الأراضي المحتلة. هذا بلغة المنتظم الدولي الذي يعتبر المناطق المحتلة هي فقط التي احتلت سنة 1967.
وقد أفادت هيئة شؤون الأسرى والمحررين، يوم 10 يناير 2022، بخصوص المعركة الأخيرة في هذا السجن، أنّ “الأسيرات ما زلن يواجهن ظروف اعتقال قاسية وصعبة جدًا في السجون الإسرائيلية”. فحسب مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، التي تتابع عن قرب أوضاع الأسرى فإن النّساء الفلسطينيات يتعرضن للاعتقال والعنف والتعذيب من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي كباقي مكونات المجتمع الفلسطيني، دون أي اعتبار لوضعهن الصّحي أو النّفسي أو الاجتماعي.. مع تسجيل أن المعاملة القاسية والمهينة التي قامت بها سلطات الاحتلال ضد الأسيرات في نهاية السنة الماضية بسجن الدامون تعد ممارسات غير مسبوقة. واستمرت خلال شهر دجنبر 2021 كاملا. إذ تمّ الاعتداء على الأسيرات بالضرب والسحل وتم تهديدهن برش غرفهن بالغاز. كما فرضت عليهن جملة من العقوبات تمثلت بحرمانهن من الزيارة والمقصف، وفرض العزل على ثلاثة من بينهن.
الاحتلال وطرق استهداف الأسيرات بهدف الإذلال والتركيع
تعيش الأسيرات خلال مراحل الاعتقال عموما ظروفاً لا إنسانية. لا تراعى فيها حقوقهن في السلامة الجسدية والنفسية والحق في الخصوصية. إذ يحتجزن في ظروف معيشية صعبة، يتعرّضن خلالها للاعتداء الجسدي والإهمال الطبي، وتحرمهن سلطات الاحتلال من أبسط حقوقهن اليومية، كالحق في التجمع بغرض أداء الصلاة جماعة، أو الدراسة. إضافة إلى انتهاك خصوصيتهن بزرع الكاميرات في ساحات المعتقل مما يفرض على المحجبات الحفاظ على حجابهن كل الوقت.
وقد سبق للعديد من التقارير أن أكدت أن الأسيرات يتعرضن منذ لحظة اعتقالهن على أيدي قوات الاحتلال الاسرائيلية إلى الضرب والاهانة والشتم، وتمارس بحقهن كافة أنواع التعذيب النفسي والجسدي بهدف تحطيم معنوياتهن، من خلال عزلهن داخل زنازين لا تصلح للحياة الآدمية، وحرمانهم من النوم لساعات طويلة، والشبح والتخويف، دون مراعاة لظروفهن. ويتواصل سوء المعاملة طوال عملية اعتقالهن واحتجازهن بأشكال متعددة منها العنف الجنسي والتفتيش الجسدي المهين والمضايقات الصريحة عند الاعتقال وخلاله. كما لا يتم إبلاغ المعتقلات بالمكان الذي يتم نقلهن إليه ونادرا ما يتم إخبار الأسيرات بحقوقهن أثناء الاستنطاق.
ولا يتم اللجوء إلى أساليب التعذيب والمعاملة السيئة هذه كوسيلة لترهيب المحتجزات الفلسطينيات فحسب، بل تستخدم أيضًا كأدوات لإذلال النساء الفلسطينيات وإجبارهن على الاعتراف بما يريده جيش الاحتلال. وحسب ما جاء في إحدى تقارير مؤسسة الضمير كذلك، فإن سلطات السجون الإسرائيلية والقوات العسكرية تقوم بتجنيد مجندات نساء لاحتجاز ومرافقة السجينات أثناء عمليات النقل. وتبين أن عنفهن تجاه المعتقلين الفلسطينيين والمعتقلات الفلسطينيات لا يقل شدة عن عنف نظرائهن الذكور. وقد سبق وتم توثيق المستويات المتزايدة للعنف ضد الفلسطينيات من قبل المجندات الإسرائيليات، حيث كشفت الشهادات التي تم جمعها في إحدى الدراسات أن المجندات الإسرائيليات يستعملن أساليب عنيفة للسيطرة على الرجال الفلسطينيين والنساء الفلسطينيات في محاولة للحصول على الاحترام والتقدير من الجنود الذكور ورؤسائهن.
الأسيرات الفلسطينيات وعقود من الصمود والمقاومة
على مر عقود الصراع ضد الاحتلال الصهيوني تعرضت أكثر من 16.000 فلسطينية للأسر. وقد شهدن العديد من أصناف التعذيب والتنكيل في محاولة للانتقام منهن وكسر شوكتهن. ولا تنجو الأسيرات الحوامل من مختلف أصناف التعذيب التي تتعرض له كل الأسيرات. فكما جاء في تقارير إحدى الهيئات الفلسطينية حول معاملة الأسيرات الحوامل: “منذ اللحظة الأولى لاعتقال الأسيرة الفلسطينية يبدأ مسلسل معاناتها على يد سلطات الاحتلال الإسرائيلي؛ حيث تقيد رجليها ويديها بالسلاسل وتعصب عينيها، وتلقى في الزنازين لتخضع لأساليب تحقيق قاسية، تشمل الشبح والضرب والتخويف والمنع من النوم والحرمان من الطعام لفترات طويلة …الخ، دون مراعاة وضعها الصحي لكونها حامل؛ لدرجة أن بعض الأسيرات جرى محاولة إجهاضهن…” وتعيش الأسيرات الحوامل في غرف الاعتقال تفتقر إلى الحد الأدنى من الشروط الصحية المناسبة لمتطلباتهن كنساء حوامل. فهي زنازن لا تتوفر فيها التهوية ولا تدخلها الشمس. كما يحرمن من التغذية المناسبة لوضعهن ومن الرعاية الطبية الضرورية. لهن. أما الظروف التي تتم فيها الولادة فأقل ما توصف به هو كونها لاإنسانية البتة. فلا تنقل الأسيرة إلى المستشفى إلا بعد بدء المخاض. وتنقل بعد ربط رجليها ويديها بالسلاسل، كما توثق إلى السرير خلال الولادة. ثم يعاد نقلها ورضيعها إلى السجن في نفس الشروط القاسية والمهينة. وتفرض على الرضيع أن يعيش سنتين في السجن مع أمه في شروط صحية متدهورة، لا تراعى فيها أي من متطلبات الرعاية الصحية والنفسية للرضيع وأمه. ثم يفصل عن أمه بعد بلوغه السنتين وهناك بعض الأسيرات اللواتي منعن حتى من رؤية رضعهن بعد تسليمهم لأسرهن.
وسبق أن أنجبت ما يقرب من عشرة أسيرات فلسطينية داخل سجون الاحتلال، أولهن الأسيرة زكية شموط التي اعتقلها جنود الاحتلال سنة 1971 وهي حامل في شهرها الخامس، وحكم عليها باثنتي عشر سنة سجنا نافذا. ورغم حملها الظاهر مورس عليها من طرف سجانيها أعنف أساليب التعذيب. وفي 18 فبراير 1972 أحست زكية بآلام المخاض وهي في زنزانتها الانفرادية داخل سجن “نيفي ترتسيا” في منطقة الرملة. وفي السجن أنجبت أبنتها “نادية” بمساعدة الأسيرات. وبقيت الرضيعة مع أمها سنة واحدة فقط، حيث أجبرت الأسيرة الفلسطينية زكية شموط على فراق صغيرتها التي فرض عليها أن ترحل بعيدًا عن حضن أمها. وأُطلق سراح زكية شموط في عملية تبادل للأسرى عام 1983، وتم إبعادها إلى الجزائر، وتوفيت هناك بتاريخ 16 شتنبر 2014 عن سن تناهز 69 عاما.
التجربة النسوية الأسيرة تحول السجن إلى مدرسة
وأمام قسوة الأوضاع ووحشية الممارسات العدوانية لقوات الاحتلال ضد الأسيرات سجلت تجربة الحركة النسوية الأسيرة ملاحم بطولية في تاريخها الحافل بالنضالات وبالدروس في المقاومة والصمود. وإن كانت تجربتها تشكل جزءا من التجربة الجماعية للأسرى، ورغم الأعداد القليلة للأسيرات مقارنة مع الأسرى الرجال، فإن تجربتهن تعد أكثر ألما ومعاناة. وكانت بدايتها ما بين 1967 و1971 جد صعبة حيث واجهت الأسيرات مخططات الاحتلال الرامية إلى تدمير نفسيتهن والسيطرة عبرهن على الحركة الأسيرة. لكنهن أفشلن تلك المخططات وتمكن من تحقيق العديد من المنجزات وبناء تجربتهن النضالية داخل السجن.
ومن بين ما يسجل في تاريخ الحركة النسوية الأسيرة من معارك أسطورية لم يكن لها مثيل، ما حصل عام 1996 عندما رفضت الأسيرات الإفراج عن بعضهن دون الإفراج عن الجميع على إثر اتفاق طابا. فرفضن الخروج وطالبن بالإفراج الجماعي وفضلن البقاء في السجن، واستطعن خلال تلك المعركة أن يفرضن مطلبهن ويتم الإفراج عن جميع الأسيرات في بداية عام 1997.
وكما جاء في إحدى المقالات حول تجربة الأسيرات الفلسطينيات “لقد استطاعت الأسيرة الفلسطينية أن تحول السجن إلى مدرسة ووقفت بقوة وعزيمة صلبة أمام كل مخططات التركيع والإذلال. لتبني داخل السجن مؤسسة ثقافية وتنظيمية وفكرية، وتخلق حالة إنسانية عالية من التحدي رغم الحصار والقيود”.
إذا كان نضال المرأة الفلسطينية عموما مدرسة لجميع نساء العالم التواقات للحرية والكرامة والمساواة، فإن كفاح الأسيرات منهن يشكل ملاحم تعد نبراسا ينير طريق كل من يناضل ضد الظلم أينما كان.