حل أزمة السودان يتمثل في دولة مدنية
حل أزمة السودان يتمثل في دولة مدنية
• محمد ابراهيم نقد
طرحنا مصطلح وتصور «الدولة المدنية» لأول مرة عام 1988م خلال المشاورات التي اجراها مجلس رأس الدولة مع الكتل البرلمانية بعد ان اقال الصادق المهدي حكومته الثانية، تمهيداً لتوسيع الائتلاف بإشراك الجبهة الاسلامية في الوزارة وفق شروطها بإجازة قوانين الشريعة خلال شهرين.
استقبل هيئتنا البرلمانية باسفيكو لادو، عضو مجلس رأس الدولة، انذاك، بمكتبه بالقصر الجمهوري، وخلال المناقشة حول مصطلحات «دولة دينية، دولة علمانية، دستور اسلامي، دستور علماني» اكدنا للادو الحقائق التالية، لينقلها لمجلس رأس الدولة:
ـ اننا لا نتقيد بحرفية المصطلحات، او بما اذا كان مصطلح «علمانية» بكسر العين ام بفتحها، وأننا نعطي الأسبقية للديمقراطية كحقوق وحريات وكنظام حكم ومؤسسات، وأننا نعارض الدولة العلمانية عندما تصادر الديمقراطية، مثل معارضتنا لدكتاتورية عبود، من جانب، ودخولنا، من الجانب الاخر، في صراع وصدام مع نظام مايو، سواء عندما بدأ يسارياً وعلمانياً، او عندما اعلن نميري قوانين سبتمبر عام 1983م ونصب نفسه اماما منذ ذلك الحين حتى اطاحت به الانتفاضة الشعبية في ابريل عام 1985م.
ـ اننا لا نوافق على مشروع حكومة الوفاق، ليس رفضاً لمبدأ الوفاق، انما لكون المشروع يلتف حول شعار الانتفاضة الداعي لالغاء قوانين سبتمبر بدعوى الالتزام بقوانين بديلة تقدمها الجبهة الاسلامية لن تختلف عن تلك القوانين.
ـ اننا نقدر حرص وجهود رأس الدولة لحل الازمة الوزارية، وتقريب وجهات النظر لنزع فتيل الاشتعال عن استقطاب «دولة علمانية، دولة دينية»، ونقترح مصطلح «دولة مدنية»، على اعتبار تعامل المجتمع السوداني في الشمال والجنوب مع القانون المدني والمعاملات المدنية، والقانون الشرعي والمحاكم الشرعية.
لم تسفر جهود مجلس رأس الدولة عن تقارب او توافق في وجهات النظر، وشاركت الجبهة الاسلامية في الحكومة، وقدمت مشروع قانون الترابي وتداعت الأحداث حتى انقلاب يونيو 1989م.
بعد تكوين «التجمع الوطني الديمقراطي» وتوقيع «ميثاقه» في اكتوبر 1989م، ثم انضمام الحركة الشعبية اليه عام 1990م، عقدت هيئة قيادة «التجمع» في الخارج دورة اجتماعاتها الثانية بلندن «26 يناير ـ 3 فبراير 1992م» بمشاركة الحزب الاتحادي الديمقراطي، حزب الامة، الحزب الشيوعي السوداني، المؤتمر السوداني الافريقي، النقابات، الحركة الشعبية، القيادة الشرعية للقوات المسلحة، وشخصيات وطنية.
اجاز ذلك الاجتماع الدستور الانتقالي الذي يحكم به السودان، عقب الاطاحة بحكومة الجبهة الاسلامية القومية، خلال فترة انتقالية. وتقوم بمقتضى هذا الدستور هيئة تشريعية لوضع الدستور الدائم. كما أمن الاجتماع على بنود ميثاق التجمع التي تلزم الحكومة الانتقالية بعقد «المؤتمر الدستوري» لحسم قضايا «الهوية، وتحديد العلاقة بين الدين والدولة، واقتسام السلطة والثروة.. الخ».
اشتمل الدستور الانتقالي على مواد وفقرات حول علاقة الدين والدولة والدين والسياسة تعبر عن الحد الادنى لاتفاق وجهات نظر الاطراف التي شاركت في الاجتماع، حيث تنص المادة «10» على أن: ـ تعامل الدولة معتنقي الاديان السماوية وأصحاب كريم المعتقدات الروحية دون تمييز بينهم فيما يخص حقوقهم وحرياتهم المكفولة لهم في هذا الدستور كمواطنين ولا يحق فرض اي قيود على المواطنين او مجموعات منهم على اساس العقيدة او الدين.
ـ يهتدي المسلمون بالاسلام ويسعون للتعبير عنه.
ـ يهتدي المسيحيون بالمسيحية ويسعون للتعبير عنه.
ـ يحظر الاستخدام المسيء للأديان وكريم المعتقدات الروحية بقصد الاستغلال السياسي.
في 17 ابريل عام 1993م أصدر التجمع اعلان نيروبي حول علاقة الدين بالسياسة، وقد نص على أن:
ـ تعتبر المواثيق الدولية المعنية بحقوق الانسان جزءا لا يتجزأ من القوانين السودانية، ويبطل اي قانون يصدر مخالفاً لها ويعتبر غير دستوري.
ـ يكفل القانون المساواة الكاملة بين المواطنين تأسيسا على حق المواطنة واحترام المعتقدات وعدم التمييز بين المواطنين بسبب الذين او العرق او الجنس او الثقافة، ويبطل اي قانون يصدر مخالفاً لذلك ويعتبر غير دستوري.
ـ لا يجوز لأي حزب سياسي ان يؤسس على أساس ديني.
ـ تعترف الدولة وتحترم تعدد الاديان وكريم المعتقدات، وتلزم نفسها بالعمل على تحقيق التعايش والتفاعل السلمي والمساواة والتسامح بين الاديان وكريم المعتقدات، وتسمح بحرية الدعوة السلمية للاديان، وتمنع الاكراه او اي فعل او اجراء يحرص على اثارة المعتقدات الدينية والكراهية العنصرية في اي مكان او منبر او موقع في السودان.
ـ يلتزم التجمع الوطني الديمقراطي بصيانة كرامة المرأة السودانية ويؤكد على دورها في الحركة الوطنية السودانية ويعترف لها بالحقوق والواجبات المضمنة في المواثيق والعهود الدولية بما لا يتعارض مع الأديان.
في يونيو 1995م انعقد مؤتمر القضايا المصيرية في اسمرة، وأجاز قراراً حول الدين والسياسة في السودان على النحو الآتي: ـ اعترافا بأن العلاقة بين الدين والسياسة تؤثر مباشرة على عملية بناء الامة السودانية.
ـ وادراكاً لحقيقة التعدد الديني والثقافي والقومي في السودان.
ـ واعترافاً بدور الاديان السماوية وكريم المعتقدات كمصادر للقيم الروحية والاخلاقية التي تؤسس للاخوة والتعايش السلمي والعدل.
ـ وادراكاً لفظاعة انتهاكات نظام الجبهة الاسلامية لحقوق الانسان، والابادة الجماعية والتطهير العرقي باستغلالها للدين وباسم الجهاد زوراً.
ـ وتصميماً لاقامة سلام عادل ودائم ووحدة وطنية مؤسسة على العدل والارادة الحرة لشعب السودان.
ـ والتزاما بمبدأ عدم استغلال الدين في السياسة.
يقر التجمع الوطني الديمقراطي التدابير الدستورية الآتية:
ـ كل المباديء والمعايير المعنية بحقوق الانسان والمضمنة في المواثيق والعهود الاقليمية والدولية لحقوق الانسان تشكل جزءاً لا يتجزأ من دستور السودان، واي قانون او مرسوم او قرار او اجراء مخالف لذلك يعتبر باطلاً وغير دستوري.
ـ يكفل القانون المساواة الكاملة بين المواطنين تأسيساً على حق المواطنة واحترام المعتقدات والتقاليد وعدم التمييز بين المواطنين بسبب الدين او العرق او الجنس او الثقافة، ويبطل اي قانون يصدر مخالفاً لذلك ويعتبر باطلاً وغير دستوري.
ـ لا يجوز لاي حزب سياسي ان يؤسس على أساس ديني.
ـ تعترف الدولة وتحترم تعدد الاديان وكريم المعتقدات وتلزم نفسها بالعمل على تحقيق التعايش والتفاعل السلمي والمساواة بين الاديان وكريم المعتقدات وتسمح بحرية الدعوة السلمية للاديان وتمنع الاكراه او اي فعل او اجراء يحرض على اثارة النعرات الدينية او الكراهية العنصرية في اي مكان او منبر او موقع في السودان.
ـ يلتزم التجمع الوطني الديمقراطي بصيانة كرامة المرأة السودانية ويؤكد على دورها في الحركة الوطنية السودانية ويعترف لها بكل الحقوق والواجبات المضمنة في المواثيق والعهود الدولية بما لا يتعارض مع الأديان.
ـ تؤسس البرامج الاعلامية والتعليمية والثقافية القومية على الالتزام بمواثيق وعهود حقوق الانسان الاقليمية والدولية.
في مايو 1999م اصدر مندوبو الحزب في التجمع في الخارج ورقة بعنوان «قضايا استراتيجية» عالجت عدة قضايا، من بينها فصل الدين عن السياسة، وذلك على النحو الآتي:
ـ السودان متعدد الديانات والمعتقدات، حيث توجد اغلبية مسلمة، وكذلك مسيحيون ومعتقدات افريقية، من هنا شرط التسامح والاحترام في المعتقد الديني كمقدمة للمساواة في المواطنة، حيث لا تخضع المعتقدات لمعيار وعلاقة الاغلبية والأقلية، ومن هنا ايضا شرط اقرار حقيقة ان الدين يشكل مكوناً من مكونات فكر ووجدان شعب السودان، ومن ثم رفض كل دعوة تنسخ او تستصغر دور الدين في حياة الفرد، وفي تماسك لحمة المجتمع وقيمه الروحية والأخلاقية وثقافته وحضارته.
ـ السودان على تعدد أديانه ومعتقداته سادته روح التعايش والتسامح الديني الى ان فرض الديكتاتور نميري قوانين سبتمبر ونصب نفسه اماما جائرا على بيعة زائفة، وما تبع ذلك من ترسيخ لدولة الارهاب والفاشية تحت حكم الجبهة الاسلامية الراهن. على خلفية هذا الواقع الموضوعي، وتأسيسا عليه، تستند الديمقراطية السياسية السودانية في علاقتها بالدين على مباديء النظام السياسي المدني التعددي، والتي تشكل في الوقت نفسه فهمنا لمعنى العلمانية. فمصطلح النظام المدني اقرب لواقعنا من مصطلح النظام العلماني ذي الدلالات الاكثر ارتباطا بالتجربة الاوروبية.
ـ مباديء النظام السياسي المدني الديمقراطي التعددي هي: المساواة في المواطنة وحرية العقيدة والضمير بصرف النظر عن المعتقد الديني.
المساواة في الاديان.
الشعب مصدر السلطات، ويستمد الحكم شرعيته من الدستور.
سيادة حكم القانون، واستقلال القضاء، ومساواة المواطنين امام القانون بصرف النظر عن المعتقد او العنصر او الجنس.
كفالة حرية البحث العلمي والفلسفي وحق الاجتهاد الديني.
ضمان الحقوق والحريات الاساسية، السياسية، المدنية، الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية، وضمان حقوق الانسان المنصوص عليها في المواثيق الدولية.
الالتزام التام بما اجمعت عليه الحركة السياسية السودانية في اعلان نيروبي بالنسبة للتشريع، ووفق هذه المباديء يمكن ان تتسع الاجتهادات لكي تشمل مصادر التشريع الديني، وعطاء الفكر الانساني، وسوابق القضاء السوداني.
في السرد التوثيقي «1»، «5» اعلاه فقرتان محوريتان هما:
ـ «.. من هنا ايضا شرط اقرار حقيقة ان الدين يشكل مكوناً من مكونات فكر ووجدان شعب السودان، ومن ثم رفض كل دعوة تنسخ او تستصغر دور الدين في حياة الفرد، وفي تماسك لحمة المجتمع وقيمه الروحية والاخلاقية وثقافته وحضارته».
ـ «.. على خلفية هذا الواقع الموضوعي وتأسيساً عليه تستند الديمقراطية السياسية السودانية في علاقتها بالدين على مباديء النظام السياسي المدني الديمقراطي التعددي، والتي تشكل في الوقت نفسه فهمنا لمعنى العلمانية، فمصطلح النظام المدني أقرب لواقعنا من مصطلح النظام العلماني ذي الدلالات الاكثر ارتباطاً بالتجربة الاوروبية».
هكذا اكتمل تصورنا لمفهوم الدولة المدنية ومحتواه من خلال الجهد الجماعي المشترك للحركة السياسية السودانية، ومعاناتها للانعتاق من الاستقطاب العقيم المغلق «دولة دينية ـ دولة علمانية». وكانت اللحظات الفارقة في ذلك الجهد مؤتمر لندن فبراير 1992م، واعلان نيروبي ابريل 1993م، ومؤتمر القضايا المصيرية ـ اسمرا يونيو 1995م. ويمكن تلخيص وطرح العناصر والمكونات الاساسية لهذا التصور على النحو التالي:
ـ لسنا ملزمين بنماذج العلمانية في انجلترا او اميركا او فرنسا، او نموذج العلمانية من فوهة البندقية في تركيا، انما نتعامل معها من حيث التعامل مع تجارب شعوب العالم، فضلا عن ان الترجمة العربية لمصطلح العلمانية ملتبسة: «بفتح العين» غيرها «بكسرها».
ـ نركز في طرحنا لتصورنا على اسبقية الديمقراطية، وتأكيد أن العلمانية ليست بالضرورة ديمقراطية، مثال دولة ستالين، موسوليني، بيونشيه.. الخ.
ـ نركز على تجربة الدولة السودانية ونماذجها الدينية او التي اقحم عليها الدين: ـ الدولة المهدية وليدة ثورة وطنية استعادت للسودان سيادته لكن مذهبية التدين، اقصت طرقا صوفية مؤثرة وقبائل ذات شوكة بسبب عدم اقتناعها بمهدية المهدي من منطلق فقهي محض وعن حمية قبلية ان تخضع لكيان قبلي اخر، دون ان تكون تلك الطرق وهاتيك القبائل موالية للتركية ابتداء.
تجربة مايو الامامية وقوانين سبتمبر والقطع والبتر والصلب والتشهير واسلمة النظام المصرفي لاثراء الفئات الطفيلية ونسف الوحدة الوطنية والسلام المستعاد بعد حرب دامت 18 عاما بخرق اتفاقية اديس ابابا والتجريم والتكفير فيما اجاز فيه الشرع الاجتهاد كاعدام محمود محمد طه.
تجربة الانقاذ وويلاتها الماثلة.
لا نتخذ من قضية الجنوب تكأة او ذريعة رغم الاهمية الحاسمة لوحدة الوطن واستعادة السلام فالدولة العلمانية الفيدرالية او الكنفدرالية في الجنوب كحل مفاضلة للوحدة مع دولة دينية في الشمال، ليست ضمانة للديمقراطية في الجنوب بدليل دول افريقيا المجاورة وجامع الديكتاتورية العلمانية في كل تواصل طرحنا للدولة المدنية حتى لو انتصر اتفاق فرانكفورت في الجنوب.
محصلة تجارب الحركة السياسية السودانية منذ الاستقلال اثبتت وباغلى التضحيات والزمن المهدر استحالة ان يفرض اتجاه فكري او سياسي واحد تصوره للدستور حتى لو توفرت له الاغلبية البرلمانية، امام معادلة الفارق القومي والاثني والديني او توفرت له السطوة العسكرية الشمولية (راجع مضابط لجنة الدستور الاولى 1957م واللجنة الثانية 1968م، ودستور نظام مايو لسنة 1973م ودستور نظام الانقاذ لسنة 1998م).
ـ لقد شهد السودان حالتين استثنائيتين الاولى دستور ستاتلي بيكر للحكم الذاتي والاجماغ الوطني حوله كامتداد للاجماع الوطني حول الاستقلال من داخل البرلمان والثانية في ثورة اكتوبر والاجماع الوطني حول تعديل ذلك الدستور.
ـ اما تجربة الانتفاضة 1985م فقد شابتها سلبيات تدخل المجلس العسكري الانتقالي والتفافه على ميثاق الانتفاضة الذي نص على دستور 56 المعدل 64 بتعيين لجنة لوضع دستور انتقالي انتقاها من حزبي الامة والاتحادي اضافة للقضاء العسكري كما انتقى لها ميرغني النصري من التجمع النقابي وتحايل على اختيار ممثل للجبهة الاسلامية بان اختار حافظ الشيخ الزاكي من مكتب النائب العام وكان الهدف من كل ذلك التحاليل هو ضمان النص على الشريعة في الدستور وفق تصورات الجبهة الاسلامية القومية واول ما يفصح عن (النوايا المبيتة) الاهمال المتعمد لتمثيل الجنوب في تلك اللجنة التي مارست مهامها بعيدا عن الرأي العام حتى اجيز الدستور الانتقالي في القصر بحضور المجلس العسكري ومجلس الوزراء، ثم ادخلت الجمعية التأسيسية، في وقت لاحق، تعديلات على ذلك الدستور الانتقالي، قبل ان يطيح به انقلاب الجبهة الاسلامية القومية في الثلاثين من يونيو 1989 ـ عينت حكومة الانقلاب «الانقاذ» لجنة قومية لوضع دستور دائم للبلاد، انجزت اللجنة مهمتها وسلمت المشروع للقصر، ولكنه خرج منه على سحنة غير التي دخلها بها، وقد اجازه المجلس الوطني لاحقا بهذه السحنة.
اعد التجمع الوطني مشروعه لدستور الفترة الانتقالية في حالة انتصاره واقصاء الانقاذ ريثما تقوم بمقتضاه هيئة تشريعية لوضع الدستور الدائم «وثائق، مؤتمر لندن، فبراير 1992».
اعلنت الانقاذ استعدادها، في حالة نجاح مساعي حل الازمة الوطنية بالتفاوض، لادخال تعديلات على دستورها دون مساس بالثوابت، وافق حزب الامة على ذلك، واقترح العمل بمسودة دستور الانقاذ التي اقرتها اللجنة القومية مع ادخال بعض التعديلات.
اقترح التجمع الوطني وضع دستور تتفق عليه الاطراف التفاوضية، فلا هو بالدستور الانتقالي للتجمع ولا هو بالدستور الدائم للانقاذ.
طرحت المبادرة المصرية الليبية المشتركة، من جانبها، تصورها او مقترحاتها للفترة الانتقالية ولاجراء تعديلات على دستور الانقاذ.
هكذا نستطيع ان نرى بوضوح كيف ان قضية الدستور مازالت في قلب قضايا الصراع السياسي الاجتماعي حول حاضر ومستقبل السودان، وستظل حتى حل القضايا المصيرية، والاتفاق على الدستور الذي يقننها، لهذا علينا ان نواصل ونطور قدراتنا السياسية والفكرية في قضايا الدستور، وان نحرص على العطاء المسهم في الاجماع الوطني حول اساسيات الدستور، وكسر حاجز الاستقطاب المطلق، العقيم، والانطلاق الى فضاءات الحوار الحر، والقواسم المشتركة.
التربية والأخلاق والقوة ثم القانون نزيد تصورنا للدولة المدنية وضوحا، وكذلك ما يميزها من العلمانية المنبثقة عن عصر الاصلاح الديني اللوثري وعصر التنوير في غرب أوروبا. إنها، مثلا، لا تصادر او تمانع تدريس مادة الدين في مناهج التعليم، مع مشروعية الاختلاف حول المنهج كيلا يتحول الى امتداد لبرنامج حزب سياسي بعينه، الجبهة الاسلامية مثلا.
الدولة المدنية لا تتخذ موقف اللامبالاة تجاه مظاهر التفسخ والانحلال في المجتمع، ولا تسمح بأن يتحول المجتمع الى خمارة أو ماخور، أو أن ينحدر الشباب الى مهاوى الضياع. لكن اداتها لضمان ذلك ليس قانون ومحاكم وشرطة النظام العام، حسب النهج الذي يتبعه حاليا نظام الانقاذ، وانما واعز التربية السياسية والثقافية، واعز الدين والاخلاق ومثال القدوة الحسنة في الأسرة والمجتع، ثم من بعد ذلك، وليس قبله بأي حال، واعز القانون وعقوباته.
لسنا ملزمين، ولا حتى مهتمين بالانشغال بالدفاع عن مجتمعات العلمانية الغربية، لكن بعض الحجج التي يسوقها دعاة الهوس الديني والتطرف والدولة الدينية، تتمادى في تشويه الواقع وانكار الحقائق. مثال ذلك الادعاء العريض حول طرد الدين من الحياة والمجتمع في الغرب، مع انهم يعلمون ان ملكة بريطانيا تحتل منصب رأس الكنيسة، مما كثر اجتراره في معرض التدليل على خطل ذلك الترويج الشائه، ويعلمون قوة ونفوذ اللوبي الكنسي في الولايات المتحدة الاميركية وصوته الراجح في انتخابات الرئاسة والكونغرس وقد نشرت مجلة نيوزويك نتاج المسح الذي جرى عام 1991م لمستوى التدين في اميركا حيث 42% من البالغين ينتمون الى كنيسة و42% يؤدون صلاة الاحد في الكنيسة، اما الاحزاب السياسية الاوروبية ذات الطابع الديني ـ مثل الديمقراطي المسيحي في ايطاليا أو المانيا ـ فقد شاركت في وضع الدستور العلماني الديمقراطي والتزمت به، وبما يتفرع عنه من تشريع في الممارسة كما يعلمون ان فرنسا بكل زخم ثورتها 1789م فصلت الدولة عن الكنيسة ثم تبنت دولتها الكنيسة حتى نالت لقب طفل الكاثوليكية المدلل، ولم يصدر تشريع الفصل إلا في العقد الاول من القرن العشرين عام 1905 بعد اكثر من قرن على الثورة، وفي المقابل لم تعترف الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية بوثيقة حقوق الانسان والمواطن الصادرة عن الثورة الفرنسية إلا في عام 1966م اي بعد 168 عاماً.
فصل الدولة عن الكنيسة لا يعني اقصاءها عن المجتمع أو مصادرة دورها الروحي، لكن مناخ الديمقراطية اجبر الكنيسة ان تحد من غلوائها وتتصالح مع التاريخ، وتصحح بعض احكامها الجائرة، مثال لذلك ان الكنيسة قد راجعت، في عام 1920م ادانتها لجان دارك في القرن السادس عشر بالهرطقة والسحر، بل وعمدتها قديسة بعد 500 سنة، كما راجع الفاتيكان، في عام 1992، ادانته للعالم غالليلو غاليليه، وذلك على ضوء تأويل او تفسير معاصر للكتاب المقدس، اقراراً بالحقيقة العلمية القائلة بأن الارض تدور حول الشمس، كذلك اصدرت الكنيسة الكاثوليكية في فبراير عام 2000م اعتذاراً عن حرق محاكم التفتيش للعالم جوردانو برونو، وربما كان من المناسب الاشارة، ضمن هذا السياق، الى ان قائد الحركة الاسلامية التونسية راشد الغنوشي كان قد اقترح في منتصف تسعينيات القرن الماضي رد الاعتبار للفكر المعتزلي ورواده، مما يعد فكرة جديدة في الفكر السني الاشعري باطنه بالتعديلات الملحقة بمتنه، ولكن ما تراكم من تجارب وماتبعها من تطور يتجدد في الدساتير المتعاقبة يشكل رصيداً لا يستهان به، ولعل التعامل معه افضل من الازدراء العدمي، دعاة التعصب والاقصاء يهابون الحوار، ولان ديدنهم الاملاء ويسارعون لسد منافذ تجديد الفكر مهمتنا فتح منافذ الحوار لهزيمة التعصب في حلبة الصراع الفكري.
لا ديمقراطية مستدامة مع مظالم اجتماعية وقومية مستدامة، ولا ديمقراطية مستدامة مع جماعات التطرف والارهاب، سواء من منطلقات دينية او علمانية، يمينية او يسارية.
منذ اعلان نيروبي ابريل 1993م تواترت وجهات نظر وتصورات عدة حول الدستور والدولة، «دولة المواطنة، دولة مدنية، دستور محايد تجاه الاديان ان لا ينص الدستور على دين الدولة» وكلها محاولات جادة لحل تجاوز ازمة الدولة الدينية في وطن متعدد الاديان والمعتقدات، حيث لا تخضع المعتقدات الدينية لمعيار الاغلبية والاقلية.
الحوار الجاد المستنير مع هذه الاجتهادات يلزمنا ان نطور طرحنا وتصورنا للدولة المدنية وعناصرها ومكوناتها «حقوق طبيعية، حقوق مدنية، مجتمع مدني، دستور مدني، دولة مدنية» من حيز الشعار او البيان السياسي الى مستوى المعالجة النظرية عمقا واتساعا، كيلا يضاف الى ركام الشعارات التي تزحم الآفاق ثم ما تلبث ان تنزلق من ذاكرة المواطنين دون ان تستقر في وجدانهم.
تصورنا لمفهوم الدولة المدنية ليس تصوراً اكاديمياً معزولاً عن هموم المجتمع وصراعاته الماثلة، او عن مهام التغيير الاجتماعي نحو الديمقراطية والسلام والوحدة والتنمية. لهذا لابد من متابعة ودراسة التشوهات التي اضافتها شمولية الانقاذ على جهاز الدولة وصوغ منهج لاصلاحها. وفي ذات الوجهة لابد من ان نشرح ونوضح تمايز تصورنا للمجتمع المدني ومنظمات المجتمع المدني عن التصور الذي تطرحه المؤسسات الاميركية والاوروبية التي تمول وترعى منظمات المجتمع المدني في السودان ودول العالم الثالث، وتسعى لاستنساخها على نماذج جماعات الضغط والمصالح الخاصة (اللوبيات) في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، دونما اعتبار لخصائص وسمات مجتمعاتنا المتخلفة.
نستند في توضيح تصورنا الى واقع وتاريخ المجتمع السوداني وتجربة شعب السودان الذي بادر، منذ سنوات باكرة، بتأسيس وتنظيم الاندية والفرق الرياضية والمسرحية والجمعيات التعاونية والخيرية والمدارس، والصحف والنقابات والاتحادات والاحزاب ولجان الدفاع عن الحريات ولجان التضامن مع شعوب العالم، ومارس حقه في التظاهر والاعتصام والاضراب، وتوسل بزخم هذه التنظيمات، على تفاوت قدراتها ونال استقلال الوطن، ومارس بكفاءة مشهودة العصيان المدني، واسقط الدكتاتورية العسكرية الاولى والثانية، وما زال مشتبكاً في صراع مع الدكتاتورية الثالثة، لقد راكم شعب السودان كل هذا الرصيد من التجربة والمعرفة قبل ان يدخل مصطلح المجتمع المدني في التداول شفاهة او كتابة، وانجز شعب السودان تشييد هذا الهيكل المهيب من التنظيمات والمؤسسات بالتضحية، والعمل الطوعي، وتنظيم يوم العمل الطوعي، وجمع التبرعات النقدية والعينية.. الخ. وهذا تقليد يتعارض مع العمل (الطوعي) مدفوع الاجر الذي تمارسه منظمات المجتمع المدني في البلدان الرأسمالية المتقدمة.
وتتصور المؤسسات الاميركية والاوروبية، ان منظمات المجتمع المدني تمثل البديل المستقبلي للاحزاب والنقابات والمنظمات الجماهيرية وانها تؤدي وظيفة تطويق وتلطيف الصراعات الطبقية والقومية، وحماية السلام الاجتماعي في المجتمع الرأسمالي.. الخ. وقد ساد هذا التصور خلال فترة (دولة الرفاه) التي تحملت بعد الحرب العالمية اعباء الضمانات الاجتماعية، وخدمات التعليم، والصحة، وحق العمل.. الخ. ولكن تلك التصورات بدأت تتراجع منذ نهاية السبعينيات وصعود برنامج الليبرالية الجديدة للسلطة (تاتشر في بريطانيا وريغان في اميركا)، حيث انتصر برنامج حرية السوق، وتراجع الدولة عن التزاماتها الاجتماعية، وتصفية المكاسب الاجتماعية التي حققتها النقابات، وكان من نتائج سياسات الليبرالية الجديدة ان تصاعدت حدة الصراع الاجتماعي في اوروبا واميركا، واتسعت موجة الاضطرابات وحركة الاحتجاج ضد العولمة وآلياتها ونتائجها. واذا سلمنا جدلاً بأن منظمات المجتمع المدني في اوروبا واميركا يمكن ان تلعب دور تطويق الصراع الطبقي وحماية السلام الاجتماعي، فهل تستطيع ان تلعب ذات الدور في المجتمعات المتخلفة؟ المنظمات التي نشأت في السودان خلال عقد التسعينيات وما بعدها تحت اسم منظمات المجتمع المدني، يمكن ان تقدم خدمات للمجتمع السوداني في حدود تخصصاتها واغراضها، اذا التزمت اسلوب الديمقراطية والشفافية في نشاطها، وفتحت صفوفها لكل الراغبين في المشاركة، كيما تبعد عن نفسها اتهامات وشبهات (الشللية) وكونها مجرد مشروعات (للاعاشة) او مطايا لكورسات (السفر والسياحة).. الخ.
موقفنا واضح ومحدد ويتلخص في ان منظمات المجتمع المدني التي نشأت كامتداد للمنظمات والمؤسسات في اميركا واوروبا ليست مجالاً للصراعات الحزبية او الاستقطاب الحزبي، ولكنها ايضاً ليست بديلاً للاحزاب والنقابات والمنظمات الجماهيرية او النشاط الجماهيري السياسي والنقابي والاجتماعي والثقافي.
من أراد ان يؤرخ لميلاد منظمات المجتمع المدني في السودان، ويستخدم المصطلح بأثر رجعي، فليبدأ بشهادة نادي الخريجين عام 1918م وهي شهادة ميلاد اصلية ليست تسنينا او بدل فاقد، ثم ميلاد جمعية الاتحاد السوداني، وصحيفة الحضارة، وجمعية اللواء الابيض والمظاهرات التي مهدت لثورة 1924م وما تلاها من تداعيات وأحداث حتى يومنا هذا. وكل من يؤرخ للمجتمع السوداني بحيدة وأمانة لابد ان يلحظ الحيوية الكامنة في كيانه، ونزوعه وقدراته في تأسيس التنظيمات، سياسية كانت ام نقابية، ثقافية ام اجتماعية او حتى لاشباع الهوايات وتطوير المواهب. واذا كان مصطلح المجتمع المدني ومنظماته قد نشأ وتبلور مع نشأة المجتمع الرأسمالي في غرب أوروبا، فإن الكيانات التقليدية السابقة للرأسمالية في السودان، قد افرزت تنظيمات تندرج في اطار منظمات المجتمع المدني، فالطوائف الدينية افرزت احزابا سياسية، والقبائل افرزت الروابط التي بادرت برفع شعار تصفية الادارة الاهلية في ثورة اكتوبر عام 1964م.
من جهة اخرى، فإن كل من يؤرخ للمجتمع السوداني بعين فاحصة لابد ان يصل الى نتيجة مفادها ان ترسانة القوانين القمعية المتراكمة والمتوارثة منذ عهد الاستعمار، وما اضافته اليها الدكتاتوريات المتعاقبة، لم تفلح في اقتلاع تلك التنظيمات من جذورها، بل ظلت تبقى دائما في حالة كمون مؤقت ريثما تبحث عن اساليب مناسبة للنشاط والصراع، حتى تفرض وجودها، وتستعيد حريتها، وتتخطى تلك القوانين. غير انها كثيرا ما تغفل او تتناسى ضرورة المتابعة والمثابرة والاصرار على الغاء تلك القوانين واستبدالها بتشريعات تضمن حرياتها. وربما كانت هذه الظاهرة هي احدى سلبيات ثقافتنا السياسية القانونية التي ادت الى تراكم قوانين قمعية عدة في حالة (تجميد) او تسربها الى تشريعات جديدة. ام لعل المسألة برمتها ناتجة عن ان السودان لم ينعم بعد بدستور دائم! تلك معضلة يستفتى فيها رجال القانون الدستوري، ولكن واقع الحال يشير الى ان اتحاد عام نقابات عمال السودان، ظل منذ تأسيسه عام 1951م غير مسجل، ولم تعترف به الحكومات المتعاقبة الا في عام 1966م، ولكن عدم التسجيل لم يحرمه من ممارسة دوره المشهود في الحركة النقابية والسياسية.
تصنيف الدولة (دينية ـ علمانية ـ مدنية) لايعفينا من تطوير ثقافتنا ومعرفتنا بنظرية الدولة، في حد ذاتها، كظاهرة تاريخية اجتماعية، بدلا من القناعة الكسولة بتوصيفها او تصنيفها. ولعل افضل مدخل يتناسب وقدراتنا النظرية الاولية والمتواضعة، ان نبدأ بدراسة الدولة السودانية ونشأتها وأطوار تجلياتها المتعاقبة، دون ان نحشرها قسرا في قوالب وأطوار الدولة الاوروبية الحديثة (القرون الوسطى، عصر النهضة، عصر التنوير، ثم الثورة البرجوازية).. الخ
لا ننفي او ننسخ ما هو عام في ظاهرة الدولة في تاريخ المجتمع الانساني، لكن لكل دولة ما هو خاص تنفرد به، وواجبنا ان نستخلص تفرد وخصوصية الدولة السودانية، ولا نحولها الى مسرح تستعاد عليه مسرحية الدولة الاوروبية، مأساة كانت ام ملهاة وفق تفسير كارل ماركس للقول الشائع: التاريخ يعيد نفسه؟!